استقلال كوردستان العثمانية بين سيفر ولوزان (1920 -1923)… حلقة (1/3)
د. آزاد أحمد علي
مجلة الحوار – العدد /81/ – السنة 30- تموز 2023م
استقلال كوردستان العثمانية بين سيفر ولوزان[1]
1- تأثير كارثة الحرب العالمية الأولى على المجتمعات المحلية
كانت مجتمعات كوردستان في حالة اضطراب وعدم رضى، بل منتفضة في وجه السلطات العثمانية، وان كان بشكل جزئي. وذلك كاستمرارية للمسعى التاريخي في المطالبة بمزيد من التحرر والاستقلالية. وكانت النخب الكوردية السياسية والاجتماعية مهيأة للتفاعل مع أي متغير وحافز خارجي لتعبر من جديد عن مطالبها السياسية، وتترجم رفضها للحكم التركي.
انسجاماً مع حالة الترقب، والاستعداد للمتغيرات تفاعل وتأثر مجتمع كوردستان بشكل عميق بأحداث الحرب العالمية الأولى، ويبدو أن المناطق التي كانت في السهول وقرب الطرق الرئيسية، كانت عرضة أكثر لآثار الحرب وتعرضت بعمق لمفاعليها.
ظلت مجتمعات سفوح الجزيرة الفراتية، وكذلك المناطق الجبلية مركزاً للحراك المناهض للحكم العثماني، ومنتظراً استغلال فرصة الحرب للخلاص من الهيمنة التركية، ولتحقيق الاستقلال السياسي. لذلك برزت في العديد من مناطق كوردستان العثمانية حركات الاحتجاج والثورة ضد السلطة العثمانية. منذ سنوات مطلع القرن العشرين، وامتداد موضوعي لانتفاضات وحركات القرن التاسع عشر.
تحققت انعطافه تنظيمية جديدة مطلع القرن العشرين، وذلك عبر تأسيس العديد من الجمعيات والمنظمات القومية الكوردية. وبدأ حراكها السياسي والاعلامي يؤثر على العامة، ويترجم على شكل انتفاضات، واكبت الحرب العالمية الأولى، وقد يكون أحد أبرزها انتفاضة بوتان عام 1915 التي قامت في جوار القريب لسهول الجزيرة الفراتية: “وعلى الرغم من اقامة نظام عسكري – بوليسي دكتاتوري في الامبراطورية العثمانية، قامت حركة كوردية معادية للحكومة منذ النصف الأول من عام 1915. فقد جرت انتفاضات كوردية في بوتان وفي وادي موش، وديرسم وجنوب شرق تركيا.” (لازاريف وآخرون، 2012، ص109)
لم تبق منطقة من كوردستان خارج تأثير الحرب العالمية الأولى، بل استجابت بسرعة لمفاعيلها. ذلك لأن روسيا القيصرية وبريطانيا وفرنسا من جهة، وكل من ألمانيا والسلطنة العثمانية قد تحاربوا، واشتبكت قواتهم على أرض كوردستان. فقد تركزت أطماع الحرب وبؤرة الصراع وعملية توزيع غنائمها في الشرق الأوسط، وخاصة كانت تلك القوى قد مهدت لذلك: “استمر نفوذ ألمانيا في النمو سريعاً في السنوات الأخيرة من حكم عبد الحميد في عاصمة الامبراطورية، وفي الولايات الشرقية. وقد قام المبشرون والعلماء الألمان بدراسة واسعة للأراضي التركية والايرانية التي يسكنها الأكراد، وتوغلوا في المناطق النائية محاولين استمالة الزعماء الأكراد الى جانبهم، وأبدى الألمان، شأنهم في ذلك شأن الانكليز، اهتماماً كبيراً بتقوية القوات الحميدية وتأليب الأكراد ضد روسيا. وعلى هذا النحو أصبحت كوردستان والمناطق المجاورة لها في السنوات الأولى من القرن العشرين مسرحاً لتغلل سياسي كثيف قام به الامبرياليون، وبصراع تنافسي شديد بينهم، حيث واجهت فيه روسيا كل من ألمانيا عدوتها المقبلة، وكذلك واجهت حليفتها الجديدة انكلترا، وحاولت كل دولة من الدول المتصارعة كسب تأييد الأكراد الذين انبروا للنضال التحرري.” (حسرتيان وجليل، 1992، ص54)
وكانت من أبرز نتائج هذا الصراع، وقوع الدمار المبكر، والمباشر الذي لحق بالكورد وبلادهم. ومن ضمنها القوات الكوردية الحميدية التابعة للسلطان عبد الحميد، إثر انقلاب الاتحاديين عليه سنة 1908.
كما أن الأكراد الحضر كانوا قد دفعوا ضريبة التجنيد الإجباري في الجيش العثماني عدا عن الذين ماتوا في صفوف الفرسان الحميدية. إضافة إلى أولئك الذين تطوعوا للحرب ضد (الكفار) لأسباب دينية صرفه. ومن كل الزوايا كانت حصيلة خسارة المجتمعات الكوردية كبيرة، ودخلت الحرب بلادهم من عدة اتجاهات، لأن السلطنة العثمانية كانت الهدف الرئيسي للحرب العالمية الأولى. وكان عدد الجنود الكورد كبيراً. لأن قوام الجيش الحادي عشر ومقره بألعزير، والجيش الثاني عشر ومقره بالموصل ومائة وخمسة وثلاثين بلوكاً سوارياً من الجيش الاحتياطي، أي أربع فرق ولواء، علاوة على بعض حاميات الحدود، وكذلك الجيش التاسع في ارضروم، والعاشر في سيواس، قوامها كلها كانت من الكورد. ويقدر محمد أمين زكي عدد القتلى من الأكراد في الحرب العالمية الأولى بثلاث مائة ألف شخص.[2]
كل هذه العوامل إلى جانب تفشي الأمراض والفقر أدت إلى تراجع الكثافة السكانية للمجتمعات الكوردية عموماً، ومن ضمنها المناطق الكوردية في شمال الجزيرة الفراتية.
كانت الحرب العالمية الأولى حدثاً زلزالياً هزت كيان المجتمعات البشرية، حتى صاغت هذه الحرب النظام السياسي في العالم، وبدأت تحت تأثير نتائجها الكارثية مرحلة جديدة تماماً من تاريخ البشرية عموماً، وتاريخ الشرق الأوسط خصوصاً.
فقد حطمت الحرب العالمية الأولى الامبراطورية العثمانية، وفتتها كأبرز نتائجها، ومنجزاتها السياسية، وتحولت السلطنة بأرضها ومجتمعاتها الى غنيمة للدول المنتصرة وخاصة، بريطانيا وفرنسا، اليونان وايطاليا. ومن ضمن هذ النتائج والمتغيرات الكبرى، تحولت كوردستان العثمانية الى ساحة قتال، حيث اشتبكت فيها القوات البريطانية والروسية والعثمانية، وكانت ايضاً عمليات التقسيم من نصيب كوردستان العثمانية. اذ جزأت الى ثلاثة أقسام، وتوزعت على ثلاث دول مستحدثة ومنبثقة عن مخرجات الحرب العالمية نفسها.
بالتوازي مع هذا التقسيم القسري ذات العلاقة المسبقة مع اتفاقية سايكس – بيكو (1916)، تمزقت المجتمعات الكوردية والعربية والمسيحية على جانبي الحدود، وتشتت، سواء الحضرية منها أو البدوية. وكان قد سبق وأن دفعت المجتمعات الكوردية ضريبة باهظة نتيجة هذه الحرب الكبرى، على اعتبار أن الكورد كانوا أغلبية السكان من جهة، ولأن الحرب العالمية انطلقت من قلب المناطق الكوردية من جانب آخر: “يمكن القول ان الشعب الكوردي قد اشترك في أحداث الحرب العالمية الأولى منذ بداياتها لكن دون أن يكون الأمر في يديه… في الواقع فان وطنه لم يتحول الى ساحة رئيسية للقتال فحسب، بل وكما يقول دكتور لازاريف: فان أولى طلقات الحرب العالمية الأولى في الشرق الأدنى قد دوت في كردستان الايرانية، لا في البحر الأسود. ومنذ ذلك الحين وعلى مدى أربع سنوات كانت الجيوش البريطانية والعثمانية والروسية تصطدم بعضها ببعض في العديد من المناطق الكردية، وقد وقعت بينها حروب ضارية كانت نتائج بعضها تترك أثرها بوضوح على ميزان القوى بين المتحاربين في ميدان قتال الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه كانت تؤدي الى الدمار والتشرد في العديد من نواحي كردستان. فضلا عن أن أعدادا كبيرة من الشباب الكرد ذهبوا ضحية لهذه الحرب…” (مظهر، ص 158 ،2013)
2- استمرار الجزيرة الفراتية ضمن كوردستان العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى
على الرغم من تفاقم آثار الحرب العالمية الأولى والاضطراب والتمزق الاجتماعي الذي سببه، فقد استمر ارتباط سهول الجزيرة الفراتية الاداري والاجتماعي بجبال كوردستان ومدنها، وظلت الجزيرة الفراتية بكامل مساحتها ضمن ايالة كوردستان ادارياً وسياسياً، وضمن ولاية دياربكر بشكل أساسي. وتم التعامل مع هذا الواقع السياسي والاجتماعي والقانوني، كمسلمة سياسية ومنظومة ادارية ومعطى تاريخي. واضافة الى الجوانب السياسية والادارية، وكما سبق ذكره فقد ادرجت سهول الجزيرة دوماً في النظام التعليمي الجغرافي العثماني ضمن كوردستان، وذلك امتداداً للمعارف التاريخية والجغرافية الأقدم، وخاصة العربية الاسلامية منها. حتى تم تثبيت هذه المعرفة العلمية في مراحل الحروب والصراعات نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وعلى سبيل المثال لا الحصر ورد ضمن أول انسيكلوبيديا تركية أواخر القرن التاسع عشر تفاصيل حدود كوردستان، حيث رسمت تفاصيل حدود كوردستان. لدرجة أن أعطى شمس الدين سامي[3] وصفاً جغرافيا دقيقا للبلاد، أو الوطن المسمى بكوردستان. وأكد على أصالتها بإعادة جذورها إلى حوالي (2300) سنة، كما بين ان الشعب الكوردي آري … ومن الزاوية الجغرافية والمورفولوجية شبه كوردستان بمثلث: “وطن كبير في غرب آسيا، والجزء الأعظم منه يقع ضمن الإمبراطورية العثمانية، والقسم الآخر مرتبط بإيران. السكان الذين يعيشون فيه يعرفون بالكورد، هذا الاسم ليس تصنيف سياسي ولا إداري. في وقت ما كان لدينا في الدولة العثمانية ولاية كوردستان، وحاليا توجد في إيران ايالة كوردستان. تتشكل كوردستان الموطن من هذين القسمين. على اعتبار ان الكورد مشتتين ويعيشون مع الشعوب المجاورة لذلك من الصعب رسم حدود كوردستان بدقة. لكن أغلب المصادر تتوافق على أن: “كوردستان تمتد من ضفاف بحيرتي اورميا ووان وحتى ينابيع نهر الكرخ وديالا وباتجاه جريان نهر دجلة. ومن المنطقة التي تنبع منها نهري دجلة والفرات، وبذلك ضمن الإمبراطورية العثمانية تقع مدن عديدة في كوردستان، موصل، وان وبدليس، دياربكر، العزيز، ديرسم. ومن جهة جنوب الغرب تتضمن الجزيرة، ويحدها من الشمال الغربي الاناضول. أي بين خطي العرض 34 – 39، وخطي الطول 47 – 46 شرقاً وغرباً، حتى تشبه خارطة كوردستان المثلث. (Bozkurt ,Akpinar ,2011 ,pp 62 )
وبصدد الانتشار السكاني للكورد، وصعوبة تحديد مناطقهم فقد أكد شمس الدين على وجود الكورد خارج هذه الحدود المشار اليها، فالكورد يسكنون الأناضول وحلب والشام، إضافة الى روسيا وقفقاسيا، وكذلك في كل ارجاء ايران وخراسان، كما توجد عشائر كوردية في أفغانستان وبلوجستان.
(Bozkurt, Akpinar ,2011,pp 63)
بمعنى أن جميع المصادر الادارية والعلمية التاريخية والمعجمية العثمانية عدت كامل الجزيرة الفراتية جزءاً من كوردستان، حتى آخر مرحلة من تفكك السلطنة، وولادة كيانات سياسية جديدة على أنقاضها.
أن موقع كوردستان العثمانية الاستراتيجي الرابط بين مناطق نفوذ القوى الكبرى المتصارعة، جعلتها مركزاً لتصادم القوات العسكرية. كما كانت هدفاً مسبقاٌ وسهلاً لسلخها عن الدولة العثمانية، وخاصة المناطق السهلية والهضاب التي تمتد من ساحل البحر المتوسط وحتى حدود إيران.
لقد سببت الحرب العالمية الأولى اضطراباً اجتماعياً وأحدثت تحولاً سياسياً عميقاً في مجمل مناطق التماس بين القوات المتحاربة. فقد عمت الفوضى هذه السهول كونها ساحات قتال سهلة وهامشية بالنسبة للجبهة الغربية في إستانبول وتراقيا، التي استمرت القوات العثمانية في خوض ذيول الحرب ضد الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وذلك بهدف تحرير أراضيها بما فيه العاصمة إستانبول. ومن السهل ان يكتشف الدارس درجة اعتماد قادة تركيا على الكورد وكوردستان، وكيف كانت كوردستان جداراً خلفياً سانداً وداعماً لهم، وهذا يتضح، ويوثق في مراسلة لمصطفى كمال الى قادة الحركة العربية في دمشق سنة 1920. والتي تفصح عن استقواء قادة تركيا بكردستان واحتمال فتح جبهة في الجزيرة عبر عنتاب، وتشجيعاً للتيار المتعاطف مع تركيا للتحالف ضد فرنسا: “أرسل غورو من بيروت في 25 كانون ثاني مضمون منشور يحوي دعوة مصطفى كمال للسوريين للحرب لأن الفرنسيين هم ميكروب الانسانية والحضارة الاسلامية وهم يعذبون المحمديين الأعزاء. لنفجر حرب الحقد والثأر، لنضرب العلم الفرنسي الوحيد، وكل المسلمين في الأناضول وكردستان والروملي معاً. وان متنورينا قد فعلوا ذلك من قبل. ولا يستطيع الفرنسيون أن يرسلوا مزيداً من القوات، ولن يحصلوا على أية مساعدة من الانكليز، الذين مزقت عصاباتنا قواتهم. وبكم سنهاجم في مارس / آذار خربوط، مرعش، عينتاب، ثم أضنا، وأخيراً سورية. اتحاد الاسلام من أجل الحرب المقدسة.” (سلطان، 1987، ص265 /ج2 )[4]
وكانت تجري نقاشات في المجلس (البرلمان) ترتبط بالمعضلات الإدارية للعديد من المناطق التابعة للسلطنة والتي خفت فيها قبضة حكمها، ولم يعد ممكناً السيطرة التركية على مجتمعاتها. ترافق ذلك مع تشكل فراغ ناتج عن الحرب، اذ لم تكن قد سيطرت فرنسا وبريطانيا بشكل كامل على الجزيرة الفراتية. لذلك تم مساءلة مسؤول تلك المنطقة نهاد باشا عن أسباب وحقيقة بعض التجاوزات في الجزيرة (وهنا المقصود ليست مدينة جزيرة ابن عمر وانما كامل الجزيرة الفراتية) أي السهول الواقعة بين نهري دجلة والفرات.
يمكن أخذ صورة أوضح حول هذه الجوانب من نصوص الوثائق العثمانية لمجلس الامة (TBMM)، فتلك النماذج تبين بدقة ما كانت عليه الأوضاع ديمغرافياً وادارياً قبل إجراءات التتريك والهندسة الديمغرافية في سياق تشكل تركيا المعاصرة (الجمهورية): “في 27 آب 1921 في الاجتماع السري للمجلس التركي الكبير. تم التحقيق مع نهاد باشا قائد جبهة الجزيرة وافصحت تفاصيل التحقيق عن انه استخدم قواته في غايات غير سليمة وقام بأعمال غير قانونية… وقد طلب قائد المجلس حينئذ مصطفى كمال من نهاد باشا وأكد له أن سياسة كوردستان وادارتها ستظل بيد نهاد باشا قائد جبهة الجزيرة… وقد دافع نهاد باشا عن ادارته وتصرفاته أمام عدد من النواب الكورد وخاصة النائب عن منطقة سوريك لطفي بك الذي انتقد نهاد باشا بقسوة.” (Bozkurt, Akpinar ,2011 ,pp 82)[5]
وهذا ما يمكن اعادة تفسيره سياسياً وادارياً باستمرار الجزيرة بكامل سهولها شرق الفرات كجزء عضوي من مجتمعات كوردستان العثمانية الواسعة حتى ما بعد الحرب العالمية الأولى. واصرار القيادات الجديدة في تركيا بعدم التفريط بها، وكذلك مسؤولية النواب الكورد ودورهم في الدفاع عن حقوق الأفراد والجماعات في تلك المناطق.
ولمزيد من الايضاح فأن كل المنطقة التي تسمى ب (الجزيرة الفراتية) أو لاحقاً (الجزيرة السورية) التي كانت اداريا ضمن كوردستان العثمانية منذ أواسط القرن التاسع عشر ظلت كذلك، ولم يتم التعامل معها قانونياً وادارياً حتى ما بعد الحرب العالمية الأولى إلا كجزء من كوردستان العثمانية، ولم تكتسب اي صفة ادارية أو سياسية أخرى، وتمسكت السلطات العثمانية بها. علماً المحضر المتضمن على هذه التفاصيل العسكرية والدلالات الجغرافية تحمل توقيع رئيس مجلس تركيا الكبير مصطفى كمال بتاريخ 27 آب 1922، قبل ان تطرأ انعطافه حادة على موقف كمال اتاتورك لاحقاً من المسألة الكوردية.
تفصح تلك السجالات والمداولات ان جبهة الجزيرة التي كانت تضم معظم أراضي كوردستان، ما عدا ولاية ارضروم وقسم من ولايتي وان على حدود أرمينيا وسيواس باتجاه الغرب في الأناضول، لم يتم التخلي عنها بسهولة وكانت من صلب اهتمامات القيادات التركية والكوردية المتحالفة معها ضمن البرلمان، ولم تنسحب القوات العثمانية من السهول التابعة لكوردستان الا بعد ضغوطات كبيرة، وكنتيجة لمخرجات الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، بما فيه انتشار القوات العسكرية البريطانية والفرنسية في كل من بلاد الشام، شرق البحر المتوسط والعراق.
3- أقرت معاهدة سيفر بحق تقرير المصير لمجتمعات كوردستان
لقد مهدت اتفاقية سايكس – بيكو كمدخل لمعاهدة سيفر، للخطة الكولونيالية العملية التي بموجبها اتفقت سراً كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا على تقسيم وتوزيع كيان الدولة العثمانية فيما بينهم في أيار سنة 1916. وباتت النوايا الكولونيالية واضحة في أنها تريد تقسيم وتوزيع مناطق غرب آسيا فيما بينها، وبموجب خطوط الاتفاقية، التي لم تكن متوافقة مع أي شكل من أشكال التقسيمات الإدارية والسياسية السابقة، كما لم يعد ممكنا تشكيل أي كيان سياسي له علاقة متوازنة وصحيحة مع المجتمعات المحلية. لدرجة أن وصفت بالاتفاقية الغبية في محتواها من قبل العديد من الساسة والدبلوماسيين الأوربيين: “وصف دافيد لويد جورج في مذكراته بعد الحرب ان اتفاقية سايكس بيكو اغبى وثيقة… فعندما وضعت اتفاقية سايكس بيكو اعتزم واضعوها بلا شك على شيء شبيه بصورة خيالية تعني وضعية لم تكن قائمة آنذاك، والتي من الصعوبة بمكان أن تنشأ يوماً ما… وبحسب كريزون فان الخبير البريطاني مارك سايكس لم يوافق على هذه الاتفاقية وعمل بإكراه من وزارة الخارجية.” (لازاريف، 2013، ص86)[6]
فالخارطة التي توافق عليه الأطراف الثلاث، رقم (1) المرفقة، لم تكن ستفسح للمجتمعات المحلية أن تعبر عن نفسها سياسياً، ولم تكن لعملية التقسيم هذه أي مراعاة للروابط التي كانت ستربط بين مكونات المجتمعات المحلية في مناطق النفوذ، لا من الزاوية القومية ولا الدينية. وانما كانت عملياً نسف كامل للأشكال الكيانية السابقة، وخاصة الإدارية منها. أي: نظام الولايات العثماني. وفي المحصلة كان مشروعاً ليس لبناء كيانات جديدة، وانما لنسف الكيانات القائمة، عملية تفتيت وتشتيت للمجتمعات. لذلك جاء اعتراض مارك سايكس على تفاصيل التقسيمات من خبرته الميدانية، في حين أصرت وزارة الخارجية البريطانية على القبول بصيغة الاتفاق. وفي المحصلة كانت اتفاقية سايكس – بيكو تجريبية تفتيتيه، مهدت لمخرجات الحرب العالمية الأولى.
الخارطة رقم (1) تبين تقسيمات اتفاقية سايكس – بيكو سنة 1916
اثبتت الحرب العالمية الأولى وكشفت عن العلاقة العضوية بين صعود النظام الكولونيالي الأوربي من جهة، وحاجته الملحة للتوسع والاستحواذ على مناطق واسعة من العالم من جهة أخرى، وكذلك كانت الحرب ترجمة عملية لهذا الصعود والتوسع الكولونيالي جغرافياً. بمعنى أن الحرب كانت تجسيداً وترجمة للرغبة، وللحاجة الكولونيالية إلى تقسيم الشرق الأدنى، والاستحواذ بشكل عملي على تركة الإمبراطورية العثمانية، ومن ضمنها كوردستان.
دخلت كوردستان بسبب هذا الاستهداف مرحلة شديدة الحساسية، والخطورة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ففي الوقت الذي كانت مجتمعات كوردستان قد أُنهكًت تماماً بعد دفعها ضريبة معارك الاستقلال الطويلة الأمد، غمر طوفان الحرب العالمية أرض كوردستان وجوارها القريب: “لذلك كانت هذه الدول مشغولة خلال سنوات الحرب بوضع الخطط وتدبير المؤامرات، فرادى وجماعات، لتحقيق أغراضها التي سبق أن أدت الى اشتعال نيران الحرب. ومن الواضح أنه كان لكردستان، بوصفها جزءاً من السلطنة العثمانية، مكاناً بارزاً في تلك الخطط.” (مظهر، 2013، ص311)
ولقد بدأت المفاوضات السرية بين الدول الكولونيالية الكبرى وكذلك روسيا بدءاً بسنة 1915م لوضع خطط تقسيم السلطنة العثمانية وتوزيع ولاياتها بين هذه الدول. وكانت اتفاقية سايكس – بيكو الخطوة الدبلوماسية والسياسية الموثقة بهذا الخصوص. احتلت كوردستان موقع مهم في جدول التقسيم وتوزيع التركة العثمانية بين الدول الثلاث: بريطانيا، فرنسا، روسيا.[7] لكن روسيا لم تكن منذ البدء راضية عن طريقة التوزيع، وكانت حريصة على الاستحواذ على كل ولايات كوردستان العثمانية.
لقد شكلت اتفاقية سايكس –بيكو الخطوة الأولى في مسيرة التلاعب بمصير شعوب المنطقة: الأتراك، الأكراد، العرب والأرمن وأخيراً السريان – الآشوريين. على الرغم من بروز عامل جديد قبل نهاية الحرب، وهو انتصار ثورة أكتوبر الروسية البلشفية في أكتوبر سنة 1917، إلا أن تأثيرها وكشفها لبنود هذه الاتفاقيات لم يغير المسار العام الذي رسم للمنطقة. على الرغم من أن عملية الكشف عن بنود الاتفاقية أثارت ضجة عالمية عهدئذ. وقد أثرت كشف الاتفاقية الاستعمارية على النخب الفاعلة في المنطقة، الا أن إصرارها على التخلص من الحكم العثماني – التركي/ الاتحادي لم تساعد في قراءة مستقبل شعوب المنطقة بشكل صحيح: “يجب ان لا ننسى حقيقة أن السياسة القومية للعثمانيين جعلت من الكورد والأرمن والاشوريين بشكل خاص، بل وحتى قسم غير قليل من العرب، غير قادرين على تقييم الأبعاد الخطيرة للمخططات الاستعمارية كما ينبغي، بحيث يعيرونها ما تستحق من الاهتمام.” (مظهر، 2013، ص324)
لكن المشهد السياسي كان معقداً ومتشابكاً. وقوى الشعوب المحكومة بالسياسات الغربية محدودة سواء من الناحية النظرية، ام العملية. كما كانت تبرز بين أوساط النخب الكوردية المنهكة من الحرب خلافات وتباينات عميقة، لدرجة أن توزعوا على ثلاثة تيارات رئيسية: “المؤيد للأتراك والمؤيد للحلفاء، وأخيراً، بين أكراد ديرسم، رغبة في الاستقلال التام عن كل تدخل خارجي. والمشكلة هي أن هذه التيارات لم تكن متمايزة. فالعديد من الأكراد، المرتبكين نتيجة الشكوك المحيطة بالمسألة، لم يرغبوا في الالتزام بشكل نهائي بواحد من هذه السبل. غير أن تطورات أيار 1919 حطمت الآمال الكردية في تحقيق الحكم الذاتي أو الاستقلال في الأناضول الشرقية.” (ماكدول، 2004، ص208)
فتم احتلال تركيا، وتقاسمتها قوات الحلفاء المنتصرين، وتفاقم الصراع الكوردي – الأرمني، كما استنفر التيار القومي التركي، وتصدر المشهد شخصيات قومية عدوانية السلوك، من بينهم الضابط مصطفى كمال. وفي المحصلة باتت النزعة الاستقلالية الكوردية توصف بالخطورة والخيانة من قبل حكام تركيا الجدد، اللذين باتوا ينتقلون إلى مواقع القرار في مسألتي السلام والحرب. كما عزف بعض القادة الأتراك على وتر (مخاوف الكورد من الخطر المسيحي)، وبذلك أنعشوا التيار الإسلامي الموالي لوحدة السلطنة العثمانية ولبقائها. ولكن الكارثة التي حلت بالقومية الكوردية بدأت بعد وصول مصطفى كمال الى سيواس، واتخاذه لشرق الأناضول مركزا للانطلاق لتحرير غربها وإستانبول العاصمة. حيث انكشف للقادة الأتراك قيمة الأناضول الشرقي وجيواستراتيجتها القادرة على مقاومة القوات الغازية من جهة، والتأسيس لنواة تركيا الجديدة المحصنة انطلاقاً منها. لذلك أمر مصطفى كمال القادة المحليين لتنظيم المقاومة العسكرية. وفي اتجاه سياسي مواز تم استجماع القوى المؤيدة لوحدة تركيا، من الأتراك المحليين والتركمان والكورد الموالين لتركيا المركزية. وقد حسن مصطفى كمال علاقته كثيراً مع الزعامات الكوردية المحلية، ومارس سلوكاً مخادعاً بتعاطفه عهدئذ مع الكورد[8]. وعقدت جمعية الدفاع عن حقوق شرقي الأناضول مؤتمرا في ارضروم لهذا الغرض: “والذي عقد فعلاً في الفترة من 23 تموز الى 7 آب. وقد أكد البلاغ الختامي للمؤتمر المؤلف من عشر نقاط على أن الولايات الشرقية الست جزء لا يتجزأ من الأراضي العثمانية، وقد أناطت بالقوى الوطنية مسؤولية حماية وحدة أراضي الإمبراطورية والسلطنة والخلافة، ورفض أي امتيازات للمسيحيين من شأنها أن تؤدي الى تغيير موازين السيطرة السياسية والاجتماعية.” (ماكدول، 2004، ص211).
وهكذا تم تشتيت الكورد بين هذه الجمعية التي يدعمها القوميون الأتراك، وجمعية ترقي كوردستان المطالبة بالاستقلال. لذلك اشتد الصراع الداخلي والخارجي بين الأطراف المتنافسة على هذا الجزء من كوردستان ومستقبلها السياسي، لدرجة ان روجت وانتشرت حينها اخبار عن نية فرنسا بالهجوم على سيواس، التي كانت عهدئذ ولاية كوردية مهمة، لم يكن قد بدأت فيها عمليات التغيير الديمغرافي.
وفي سياق هذا الصراع وافقت حكومة تركيا على قدوم بعثة التقصي البريطانية لتستطلع رأي السكان. وعلى ما يبدو، اندرج هذا القبول في سياق مناورة لإضاعة الوقت، وإتاحة الفرصة للقيادة التركية لتحقيق انتصارات عسكرية وتحرير إستانبول. لكن صب نشاط البعثة في خانة تنافس القوى الفاعلة وتمركزها المحلي في كوردستان وجوارها: (بريطانيا، روسيا، فرنسا، تركيا). فقد برزت على السطح مسألة استقلال كوردستان العثمانية، وباتت على طاولة المفاوضات، وشكلت ورقة مساومة قوية في وجه حكام تركيا الجدد، الذين هزموا من إستانبول وغرب الأناضول وتحصنوا في كوردستان واتخذوها قاعدة لتحرير الأجزاء الغربية، والجنوبية من تركيا. فإثر ميل بريطانيا نحو العمل على تحقيق استقلال مناطق من كوردستان على الأقل. أوفدت الميجر نوئيل، الضابط المتحمس لعملية استقلال كامل كوردستان على رأس بعثة الى مناطق كوردستان الشمالية الغربية، التي كانت قد خرجت عملياً من تحت سيطرة العثمانيين. لقد رافق نويل في هذه البعثة كل من جلادت وكاميران عالي بدرخان. وكان اتاتورك في سيواس وعلى علم بأهمية هذه الزيارة – البعثة: “علم مصطفى كمال في التاسع من أيلول بأن نوئيل والبدرخانيين كانوا في ملاطيا. وعلم أيضاً بأن فريد باشا قد أعطى أوامر إلى متصرف خربوط المجاورة بحشد بعض الفرسان الأكراد، حيث من المحتمل أن تكون كتائب قبلية قديمة، من أجل مباغتة مؤتمر سيواس وهو منعقد واعتقال مندوبيه. لقد تأكدت شكوك مصطفى كمال السيئة اتجاه نوئيل، لقد فهم بأن هدفهم الحقيقي: كان اثارة الأكراد وتحرضهم ضدنا والهجوم علينا، واعدين إياهم إقامة كردستان مستقلة. وقد أجبر نوئيل ورفاقه على الانسحاب بسرعة الى سوريا.” (ماكدول، 2004، ص214)
وهكذا خلط مصطفى كمال وتياره الأوراق، وخدع الكورد المتحالفين معه، ثم سار على طريقين متوازيين: العسكري، وحقق فيه الانتصارات، والدبلوماسي الذي ساوم فيها كل الأطراف للحفاظ على الحد الأدنى من مساحة تركيا العثمانية، والتي جعلت من مناطق شرق الأناضول وكوردستان قاعدة لها، لحين ما تم عمليات استبدال السكان، وترحيل ما تبقى من الأرمن، تشتيت وتطويع الكورد: “كان واضحاً منذ ذلك الحين أن أولى القضايا التي كان يجب مواجهتها قد بدأت والتي كانت لتضع الكرد في مواجهة الجمهورية التركية. كان مصطفى كمال مدركاً للمشكلة المطروحة عندما أعلن أمام الجمعية الوطنية في أنقرة في 23 نيسان 1920 بأن الوطن لا يتشكل فقط من الأتراك والشركس والكرد أو اللاز، وانما يتألف بشكل أساسي من المسلمين. وبالنسبة للكرد، باستثناء بعض المثقفين، كانت تلك الفكرة من الصعب فهمها. لأنه بالنسبة لهم، وحتى الآن، هنالك رابطة شخصية تربط زعماء قبائلهم بالسلطان – الخليفة.” (ماريسكوت، 2022، ص24)
لقد تلاطمت الأمواج الدبلوماسية والعسكرية على نواة السلطنة العثمانية، وبالتالي اشتدت المعركة حول مصير الأناضول. كما كان مصير تركيا ومستقبلها، فضلاً عن موقعها الجديد في الشرق الأوسط موضوعاً للمفاوضات. وقد تلت الحرب العالمية مباشرة مفاوضات طويلة الأمد عرفت رسمياً بمفاوضات السلام، وتمخضت عن توقيع معاهدة في الضاحية الباريسية المعروفة بسيفر. بل يمكن ترجيح الرأي في أن هذه المعاهدة لم تحقق السلام لشعوب المنطقة، بل مهدت وأسست لمزيد من المعضلات السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط، لأن المتفاوضين لم يتابعوا بصدق تطبيق البنود التي اتفقوا عليها. والتي كانت تأخذ بعين الاعتبار الحد الأدنى من حقوق الشعوب والمكونات الأثنية والدينية للمنطقة. وأن ما ظهر من بنود تفصح بشكل واضح عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، كان تحت ضغط مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون، والرغبة المبدئية للكولونيالية الأوربية في تفتيت المنطقة. ولا يمكن القفز فوق حقيقة أن سياسات أمريكا ابان الحرب العالمية الأولى كانت غير متحمسة للسياسات الكولونيالية تلك، ولا لسياسة الانتداب، على الرغم من الاغراءات البريطانية لها في الاستحواذ على كامل الأناضول. إلا ان مبادئ ويلسون ضغطت على الرغبات والأطماع الكولونيالية المنفلتة لدول اوربا المنتصرة. وذلك لمواجهة وضبط هذه السياسات الأوربية وخاصة البريطانية بنزعتها التوسعية ومناوراتها، فأعلن ويلسون عن مبادئه: “أعلن الرئيس ويلسون عن بنوده الأربعة عشر الذائعة الصيت أمام الكونغرس الأمريكي، اتبعها بأربعة بنود، ثم خمسة أخرى توضيحية… وما يهمنا هنا هو مضمون البندين الخامس والثاني عشر. ففي البند الخامس دعا الرئيس ولسون الى (حل حر وصريح ومنصف بشكل مطلق لجميع المنازعات الخاصة بالمستعمرات، يستند الى التمسك الجدي بمبدأ يقضي أنه في حالة حل جميع القضايا المتعلقة بالسيادة، فإن مصالح سكان المستعمرات المعنية تتمتع بنفس وزن الطموحات المشروعة للحكومة التي تحدد حقوقها). أما البند الثاني عشر فقد خصص للدولة العثمانية ونص على ما يلي: يجب ضمان سيادة أكيدة للأجزاء التركية من السلطنة العثمانية الحالية، أما القوميات الأخرى التي هي الآن تحت الحكم التركي فيجب أن يضمن لها اطمئنان على الحياة لا شك فيه، وفرصة مطلقة مصونة لتطوير الاستقلال الذاتي، والدردنيل يجب فتحه بصورة دائمة وبضمانات دولية أمام بواخر جميع الشعوب وتجارتها.” (مظهر، 2013، ص326)
في المحصلة بدت البنود التي تم الاتفاق عليها في سيفر، وكذلك الخارطة الناتجة عن سيفر، وكأنها قد قوضت أركان الدولة التركية، وشتت في الوقت نفسه المجتمع التركي الذي لم يكن متواجداً ومتجمعاً فقط في المنطقة الصفراء من خارطة تقسيم الأناضول، أي في المناطق التي تحيط بأنقرة. دقق في الخارطة رقم (2-أ) المرفقة. علماً أن هذه الخارطة التي رسمت لاحقاً للتعبير عن بنود سيفر، صحيحة فقط بالنسبة للأناضول، وغير دقيقة بالنسبة للرقعة المخصصة للدولة الكوردية. حيث تم تثبيت حدود دولتي العراق وسوريا عليها، لكن هذه الحدود لم تكن قد رسمت ابان فترة التوقيع على لوزان، بل اقترحت بما يتوافق مع مطالب بريطانيا وفرنسا، حيث تطلبت فترة طويلة بين سنوات (1921-1939) حتى تم اعتمادها بصيغة قريبة مما هو واردة في الخارطة. لأن كيان دولتي سوريا والعراق لم يكن قد ترسخ، وكان قيد التشكيل بحسب طموحات بريطانيا وفرنسا ودوافعهما الكولونيالية. ولت يحسم مسألة الحدود الا بعد التوقيع على معاهدة لوزان سنة 1923. كما أن المناطق الكوردية المرشحة للاستقلال بحسب بنود معاهدة سيفر كانت تضم كل مناطق الحدود مع إيران، ولايتي دياربكر والموصل وسنجق دير الزور شرق الفرات نظرياً، وبالتالي كل سهول الجزيرة الفراتية. لقد أدرجنا هذه الخارطة للتعرف على مبدأ التقسيم، والمتغيرات التي تسلسلت تاريخياً، وخاصة تقسيم منطقة قلب الأناضول، ومساعي تفتيت نواة الدولة العثمانية عهدئذ. للمقارنة دقق في الخارطة (2-ب) التي بينت الحدود الدنيا لكوردستان. في حين نجد في الخارطة رقم (3) أن حدود كوردستان هي الأقرب إلى اقتراح سيفر. لكن بدون ضمن أغلب سهول الجزيرة الفراتية، ومناطق غرب الفرات الى الدولة الكوردية المقترح استقلالها.
الخارطة رقم (2-أ) تبين بشكل تقريبي مناطق نفوذ الدول المنتصرة في الحرب ضمن مناطق الأناضول وكردستان
الخارطة (2-ب) وعليها صيغة الحد الأدنى لحدود كوردستان
في المحصلة الخارطة التي نظمت ووزعت مناطق النفوذ والسيادة نتيجة لمضمون معاهدة سيفر، كانت خارطة حرب، وجاءت كصيغة انتقام من الحكومة العثمانية. جسدت وترجمت انتصار الحلفاء، أكثر مما هي خارطة ناتجة عن مفاوضات متوازنة تراعي مصالح كل الأطراف والشعوب. ولذلك لم تصمد. اذ استجمعت الفعاليات السياسية والعسكرية التركية قواها لإسقاطها، وهذا ما حدث عملياً.
كما نجحت القيادة التركية عبر تعاملها الصبور مع معاهدة الصلح في باريس، وكذلك ضمن مسار دبلوماسي طويل، حتى مهدت الأرضية للمعاهدة التالية في لوزان. اذ كانوا مضطرين للقبول بسيفر مؤقتاً، فلم يقتنع بها القادة الأتراك يوماً، وتهربوا من تطبيق بنودها بأشكال عديدة، وعبر مناورات مختلفة. لأن هزيمتهم في الحرب قد أجبرتهم على التوقيع عليها، والقبول بها. لكنهم مارسوا سياسة الانتظار.
لقد كانت معاهدة سيفر شديدة الأهمية في محتواها السياسي والقانوني، خاصة للشعوب الخاضعة سابقاٍ للسلطنة العثمانية، إلا أنها أفرغت من محتواها، كما أثبتت الأيام. خاصة بعد انسحاب أمريكا من المشهد السياسي عهدئذ. واختفت مع عملية انسحابها قيم ومقياس الحريات، وحق تقرير المصير لشعوب المنطقة من جدول أعمال الدول المتفاوضة. وقد استمرت مفاوضات السلام في ظل غياب أمريكي في سيفر، داخل مبنى إحدى معامل الفخار في ضاحية العاصمة الفرنسية باريس عهدئذ[9].
في سلسلة مترابطة من الخطوات المصيرية بعد مخطط سايكس – بيكو، وفي منعطف نهاية الحرب العالمية الأولى، إثر التوقيع على هدنة مودروس 1918، التي استسلمت السلطنة العثمانية بموجبها تماماً لقوات الحلفاء المنتصرة. شكلت معاهدة سيفر أحد أول الاتفاقيات التي حاولت تثبيت هذه الهدنة وترجمة نتائج الحرب العالمية الأولى لصالح الدول المنتصرة، خاصة فرنسا وبريطانيا، ايطاليا واليونان، والتي سعت لتثبيت هذه المكاسب قانونياً. عن طريق إجراء عملية توثيق وتثبيت نهائي لهزيمة واستسلام السلطنة العثمانية. فقد أبرمت هذه الاتفاقية المهمة في 10 آب عام 1920م بعد مفاوضات طويلة. كما يحق من زاوية أخرى إدراج هذه الاتفاقية ضمن ثمرات نضالات الشعوب الخاضعة للإمبراطورية العثمانية. لأنها جاءت حصيلة لمجمل النضال الجماهيري والنخبوي للشعوب العربية والكوردية والأرمنية، وغيرها. طوال القرن التاسع عشر، هذا النضال الموجه أساسا ضد السيطرة العثمانية ـ التركية.
ثبتت المعاهدة النتائج السياسية للحرب العالمية الأولى، ومواقع القوات المنتصرة، وترجمت المعاهدة أيضاً الانعكاسات الجيوسياسية للحرب، وتقاسم النفوذ على كافة أقاليم الشرق الأوسط. حيث اتفق بموجبها الحلفاء المنتصرون مع حكومة استنبول المؤقتة “حكومة الدامداد فؤاد باشا” على مجموعة من البنود، يتم على ضوئها ترسيم حدود الدولة العثمانية من جديد، وتنظيم بنية ما تبقى من نواة “الإمبراطورية العثمانية”. ومن أهم تلك البنود والنصوص ذات العلاقة بمضمون وسياقات دراستنا هو ما يتعلق باقتراح الحلول المناسبة للمسائل القومية عموما، والمسألة الكوردية على وجه الخصوص. ومصير جغرافية (إيالة كوردستان العثمانية) الواسعة. إن أهمية ما أفصحت عنها هذه المعاهدة العالمية عهدئذ، تكمن بشكل جوهري، وغير معتاد، في أن كل مناطق شرق الفرات هي مناطق كانت ذات غالبية سكانية كوردية، لذلك دخلت كلها ضمن خطة سيفر، كمناطق ستخضع جميعاً للاستفتاء العام على الاستقلال، دون إشارة إلى استثناء أي منطقة منها. وانبثق هذا البند من الحقيقة العلمية التاريخية التي تؤكد أن جغرافية كوردستان كانت طوال سنوات وعهود مديدة، تعرف وتحدد غرباً بنهر الفرات. وذلك بدلالة الحدود الشمالية للبلاد العربية التي حددت بالنهر أيضا.
لقد أقرت المعاهدة بحقيقة جديدة صاغت وجه الشرق الأوسط السياسي والاداري، وتلخص في ضرورة انسحاب القوات العثمانية من كل المناطق التي لا يتكلم سكانها اللغة التركية، وبذلك وضعت المعاهدة الأسس القانونية لحق تقرير المصير للشعوب غير الناطقة باللغة التركية، وتحقق ذلك للعرب وشعوب البلقان وللأرمن نسبياً، وبصيغة أقل للكورد. ان نصوص المعاهدة أقرت بشكل صريح توفير المناخ لترجمة مبدأ حق تقرير المصير السياسي للشعب الكوردي، كونه من الشعوب غير الناطقة باللغة التركية، وأقرت بحق سيادته السياسية على أرض كوردستان العثمانية، توازياً مع تأمين حقوق الأقليات داخل المناطق ذات الغالبية الكوردية. على أن تتم عملية الاستفتاء بإشراف دولي، متمثلا في حينه بعصبة الأمم. حيث جاءت في البنود 62- 63- 64 من معاهدة سيفر: “تشكل لجنة من حكومة بريطانيا وفرنسا وايطاليا لتقدم خلال ثلاثة أشهر خطة للحكم الذاتي المحلي للمناطق التي تقطنها الغالبية الكردية شرق نهر الفرات. وسوف يضمن المشروع ضمانا تاماً لحماية الآشوريين والكلدان وغيرهما من الأقليات القومية والعرقية في هذه المناطق ـ مادة ـ 62. (قارن مع النص الأصلي باللغة الإنكليزية)[10]
توافق الحكومة التركية بموجب هذه المعاهدة على قبول وتنفيذ القرارات المتخذة في المادة (62) في غضون ثلاثة أشهر من إبلاغ القرارات للحكومة المذكورة”. المادة ـ 63. وقد ورد في المادة ـ 64 ـ من المعاهدة: “وإذا حدث، خلال السنة الأولى من تطبيق هذه الاتفاقية أن تقدم الشعب الكردي القاطن في المناطق التي حددتها المادة (62) إلى مجلس عصبة الأمم قائلين: إن غالبية سكان هذه المناطق ينشدون الاستقلال عن تركيا، وفي حال اعتراف عصبة الأمم إن هؤلاء السكان أكفاء للعيش حياة مستقلة وتوصيتها بمنح الاستقلال فان تركيا تتعهد بقبول هذه التوصية وتتخلى عن كل حق في هذه المناطق. وسوف تكون الإجراءات التفصيلية لتخلي تركيا عن هذه الحقوق موضوعاً لاتفاقية منفصلة تعقد بين كبار الحلفاء وتركيا. وفي حال حصول التخلي، فان الحلفاء لن يثيروا أي اعتراض ضد قيام كرد ولاية الموصل ـ كردستان العراق حاليا ـ بالانضمام الاختياري إلى هذه الدولة الكردية.” (شانيولو وسياح، 2006، ص45)
ظلت القوى المسيطرة على الحكم في تركيا تراهن على بقاء كوردستان داخل حدودها، حتى بعد انعقاد مؤتمر الصلح، وادراج الحقوق الكوردية فيها. بل عدت كوردستان جزءا من تكوين الدولة التركية، ومجتمعاتها سندا لها في طرد القوات الأوربية، وخاصة مصطفى كمال الذي أفصح عن ذلك في مراسلة إلى قيادات حزب الفتاة في دمشق الذين تواصلوا معه للتعاون في مقاومة الفرنسيين أوائل سنة 1920، كتحريض وتشجيع للنخب العثمانية في سوريا على محاربة فرنسا: “لنفجر حرب الحقد والثأر، لنضرب العلم الفرنسي الوحيد، وكل المسلمين في الأناضول وكردستان والروملي معاً. وان متنورينا قد فعلوا ذلك من قبل. ولا يستطيع الفرنسيون أن يرسلوا مزيداً من القوات، ولن يحصلوا على أية مساعدة من الانكليز، الذين مزقت عصاباتنا قواتهم. وبكم سنهاجم في مارس/ آذار خربوط، مرعش، عينتاب، ثم أضنا، وأخيراً سورية. اتحاد الاسلام من أجل الحرب المقدسة.” (No184,p 25 Leavant,)[11]
على الرغم من التصادم الذي حصل بين أوساط كوردية وأرمنية، واستثمار التنافس المحلي وتضارب المصالح القومية بين الشعبين الجارين من قبل السلطة العثمانية. الا ان أرضية التفاهم والتعاون كانت مازالت متوفرة. وعلى ما يبدو شجع كل من البريطانيين وأمريكا هذا التعاون أثناء مؤتمر الصلح وخاصة اواخر سنة 1919، لأن ممثلي بريطانيا كانوا مازالوا يرجحون أحقية الكورد في الاستقلال، ومهدوا بالتعاون مع الفرنسيين لاتفاق كوردي – أرمني عشية مؤتمر الصلح (سيفر). وانسجم كالاتفاق الأرمني الكوردي مع السياسات البريطانية الهادفة لدعم كيان كردي مستقل عهدئذ: “كان الكرد في تلك الأثناء يتلقون دعماً من بريطانيا التي كانت ترغب في إنشاء كردستان كدولة فاصلة بين العراق العربي والأراضي التي كان يقطنها الأتراك.” (ماريسكوت، 2022، ص22).
…. يتبع
============
[1] كوردستان العثمانية. هي المناطق والامارات الكوردية التي خضعت للحكم العثماني، عبر صيغة توافق شبيهة بالتحالف، ونظم ادريس البدليسي الاتفاق بين السلطان سليم والأمراء الكورد خلال سنوات (1517 – 1519) م. حافظت هذه الامارات – الحكومات المحلية الكوردية بموجبه على استقلاليتها لمدة طويلة، امتدت عدة مئات من السنيين، حتى عهد الإصلاحات الإدارية العثمانية. ثم تحولت كوردستان رسمياً الى ايالة كبرى بين سنوات (1847 -1868) م. وكانت تضم الولايات التالية: (ولاية ارضروم. ولاية ألزيز. ولاية ديار بكر. ولاية بدليس. ولاية وان. ولاية هكاري. ولاية الموصل. سنجق زور = محافظة دير الزور)
[2] بين هذه الأرقام العلامة محمد أمين زكي في كتابه باللغة التركية (حرب عمو ميده عثمانلي جبهه لري وقايعي ـ استانبول عام 1337هـ). علماً أنه كان ضابطاً في الجيش العثماني. وكتب من داخل الأحداث ـ نقلاً عن خلاصة تاريخ الكورد. ص259.
[3] شمس الدين سامي فراشي (1850 – 1904) – المجلد السادس من قاموس (كامل العالم)، في الصفحة رقم (486) رسم حدود كوردستان.
[4] لمزيد من التفاصيل راجع: D.F. Aff, Etr, Leavant, 22, No 184 /6/ PP. 25 -26
[5] لمزيد من التفاصيل يمكن الاطلاع على وثائق الجلسات السرية لمجلس النواب التركي TBMM، ص 550 -574، 1922
[6] انظر حاشية المصدر أيضاً. ص86
[7] للتفاصيل راجع كتاب: كوردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى، للدكتور كمال مظهر أحمد. ص311 – ص315. المعتمد على الأرشيف الروسي.
[8] لمزيد من المعلومات عن تغلل مصطفى كمال في الوسط الكوردي وكيفية كسب أنصار. راجع كتاب شريف باشا، روهات ألاكوم، ترجمة: شكور مصطفى. دهوك – 2004، ص137
[9] باتت سيفر حالياً ضمن مدينة باريس الكبرى. وقد احتفلنا بصيغة رمزية مع مجموعة من ممثلي المنظمات المدنية والأحزاب الكوردية والأرمنية بمئوية سيفر في نفس المبنى الذي وقع الاتفاق فيه يوم 10 /8/ 2020
[10] لمزيد من الدقة يمكن الرجوع الى النص الأصلي للمقارنة باللغة الإنكليزية أو الفرنسية.
[11] انظر حاشية صفحة 265/2، تاريخ سوريا. د. علي سلطان. مترجم عن المصدر الأصلي
D.F.Aff, Etr, Leavant, 22, No 184 /6/ PP. 25 -26