أدب و فنالقسم العام

قصة: المطرقة

ندى الدانا

مجلة الحوار- العدد /82/- السنة 30 – 2023م

 أديبة وباحثة سورية ومترجمة من مدينة حلب، تكتب في مجالات متنوعة. بكالوريوس هندسة الكترونيات وليسانس أدب انجليزي.

صدر لها:

عند النافذة: قصص 1994 دار الحصاد بدمشق

أوراق اللعب.. أوراق الأشجار: قصص دار الاهالي بدمشق

مطر يطرق بابي: شعر دار الينابيع بدمشق 1999

كوكب السلام: رواية خيال علمي للفتيان 2000 وزارة الثقافة السورية

بروق: قصص قصيرة جدا مجموعة مشتركة مع قاصين آخرين 2001

حكايات أبطال اليونان: ثنائي اللغة، ترجمة عن الإنكليزية 2005 دار شعاع بحلب

مختارات من حكايات إيسوب: ثنائي اللغة، ترجمة عن الإنكليزية 2007 دار الرضوان بحلب

مختارات من حكايات إيسوب: ثنائي اللغة، ترجمة عن الإنكليزية   دار الرضوان بحلب 2008

قصص قصيرة للأطفال عدد 60 قصة ضمن مجموعة حكايات قبل النوم لعدة كتاب عن دار ربيع بحلب 2008

——-

المطرقة 

رصاص ينهمر، أصوات تتعالى، أصحو من نومي، أهرب من غرفتي إلى الصالة، كعادتي حين تتساقط القذائف قرب بيتي، أو تقتحمنا الصواريخ، وجرر الغاز المحشوة بالمواد المتفجرة.

الوقت مساء، غفوت قليلاً بعد الغذاء، لم أستطع النوم في الليلة السابقة، فقد اشتدت الحرب في مدينتي التي قسمت إلى مدينتين: شرقية وغربية.

الطائرات تخترق جدار الصوت ترمي القنابل على الجهة الشرقية من المدينة، التي تحتلها الكتائب المسلحة، المدافع تطلق نيرانها، المسلحون يرمون مئات القذائف على الجهة الغربية التي أقطن فيها.

الصواريخ التي تدمر الأبنية تلاحق الناس إلى غرف نومهم، وغرف جلوسهم، الرعب يسيطر على الناس الذين صمدوا، ولم يغادروا المدينة، يتساءلون: هل تنتهي الحرب قبلنا؟ أم ننتهي قبلها؟ هل نخسر أرجلنا أو أيدينا، أو عقولنا؟ هل نبقى أنصاف أحياء؟ هل نصبح معاقين نعاني صعوبات الحياة؟!

الأصوات تتعالى، أبحث في الجوال عن الأخبار، أرى أخباراً مفرحة عن النصر، الرصاص تعبير عن الابتهاج، النساء يزغردن، مسيرات في الشوارع فرحاً بانتهاء الكابوس المرعب.

سنوات طويلة ونحن نعاني من حرب مدمرة، تغتال أحلامنا، تزرع الكوابيس في رؤوسنا، كوابيس تتنكر بأشكال مختلفة، أرى الأصدقاء والصديقات يتجولون في ساحات أحلامي، منهم من قتلوا، ومنهم من سافروا خوفا على حياتهم ومستقبلهم، توزعوا في مدن آمنة في سوريا، أو انطلقوا إلى مدن العالم، يعانون الغربة، ويحلمون بيوم يعودون فيه إلى الوطن.

تحولت أحلامي إلى أفلام قصيرة تتداخل مع بعضها، تتسلل إلى زوايا ذاكرتي، تنقب فيها، لتكتشف الحاضر والماضي، وتخترع مستقبلاً جميلاً.

كل يوم … وكل ليلة …. مطرقة تطرق رأسي، موسيقا صاخبة، تزداد صخباً، تهدأ قليلاً، ليبدأ الصخب من جديد، ربما كانت موسيقا جاز أو روك أو ميتال، موسيقا شيطانية، يرقص على أنغامها شياطين الجن والإنس، تحول رأسي إلى ساحة حرب راقصة.

هل تهدأ حلب؟ هل حقاً انتصرنا؟ أم أنه مجرد حلم؟! لا … الأصوات حقيقية، في الشارع زغاريد تعلو وتعلو … في التلفاز يلتقون الناس، في شوارع حلب يعبرون عن فرحتهم، يبدو أنه واقع وليس حلماً.

أفلامي القصيرة في الليل أنساها، ثم أتذكرها ثانية، أضيف إليها مفردات جديدة، لتتحول إلى أفلام جديدة.

تطل صديقتي فائزة المهندسة المدنية التي نزحت من بيتها في حارة باب الحديد، في حلب القديمة، بعد إصابته بصاروخ دمر معظمه، وسافرت إلى مدينة اللاذقية، تقول: سنعيد بناء حلب كما نصنع المحاشي والكبب، سننظفها من النفايات كما أنظف أدوات المطبخ في بيتي.

أحبت فائزة بلدها الجديد، بنت صداقات جديدة، لكن حلب حبها الأول، ستعود إليها حين تنتهي الحرب، أما ابنتها التي تعيش معها فقد تأقلمت مع عملها وبلدها الجديد، ولا تريد العودة إلى حلب حين تنتهي الحرب. تحن فائزة إلى ابنتها المتزوجة في بلدة يسيطر عليها المسلحون، وإلى أولادها الذين سافروا إلى تركيا بحثاً عن العمل والأمان.

تغيب صورة فائزة من أفلامي الليلية، تنبعث صورة إقبال بعينيها المتألقتين، وحيويتها، وحزنها على ابنها الذي قتل في الاشتباكات برصاصة طائشة، تقول: خسرنا كل شيء بيتنا، ورشة زوجي … نزحنا عند أهلي، ثم سافرنا إلى اللاذقية لنبدأ حياة جديدة في مكان آمن. أولادي أهملوا دراستهم، يعملون مع أبيهم، وظل زوجي يغازل الشابات الرشيقات، يجلب لهن الهدايا، ويقصر في تأمين مستلزمات المنزل، منعني من العمل رغم دراستي الجامعية، وصرت بحاجة له.

تختفي إقبال، يبتلعها ظلام أحلامي المتقطعة، تبزغ صورة سناء بوجهها الطيب المشرق، تمسك يد ابنتها الصغيرة، تهمس: ابنتي … ثروتي في الحياة، كاد الموت يختطفها مني، أصيبت بأمراض كثيرة، وكادت تصاب بالعمى. بصعوبة أنجبتها، بعد علاج طويل … الحمد لله زوجي طيب ويحبني، إنه أفضل من أبي القاسي الذي كان يضربنا دائماً، ويضرب أمي التي هربت منه لتعيش عندي.

تأتي فداء مجللة بظلام ثوبها الأسود، تشير إلى عدة صور على الجدار لشبان في مقتبل العمر، تقول: نحن عائلة الشهداء، زوجي استشهد في صاروخ دمر بيتنا، أولادي الاثنين استشهدا في الحرب، يا رب ألهمني الصبر ….

تأتي ليلى بوجهها الصبور، تقول: نزحنا من بيتنا، زوجي اختطفوه وطلبوا فدية، طلبنا مهلة لنستدين المال، رفضوا وقتلوه. ابني في الجيش مفقود، ربما قتل، ولم يجدوا جثته، ربما كان أسيراً، أحس أنه مازال حياً، يا رب أعده لي، وارحمه إن كان شهيداً…..

تقترب من أحلامي امرأة صبية، شاب شعرها … تبكي: زوجي وابني قتلا في العيد، صارا أضحية العيد، يا رب… لماذا تمتحننا بمصائب لا قدرة لنا عليها؟!

امرأة شاحبة تطل بوجهها الحزين … تقول: ابني الأكبر كان مجنداً في الجيش وقتل، ابني الثاني كان مسلحاً مع إحدى الكتائب المسلحة، وقتل … يا رب لماذا يقتل أبناء الوطن بعضهم؟!

غفران … الشابة الجميلة في الحديقة العامة، رجلها اليمنى مقطوعة، تستند إلى عكاز، تقول: هنا أصبت، وخسرت رجلي بقذيفة غادرة.

امرأة تمسك بأيدي أطفالها الصغار، تهتف: زوجي استشهد، لا معيل لنا، نزحت من بيتي لأعيش في غرفة صغيرة أنتظر صدقة المحسنين.

تطل سهيلة على أحلامي: الغربة صعبة، نزحت من بيتي المدمر، هربت في قارب من تركيا إلى اليونان، ثم أكملت طريقي إلى ألمانيا، لأجد الأمان، أشعر بالحزن لأنني أنتظر إحسانهم، أحن إلى بلدي، وأقربائي، وأصدقائي.

ما بالها هذه المرأة تقتحم أحلامي؟! شعرها منكوش، وجهها غاضب، تصرخ: يقولون إنني معقدة، وأنني أفتري على الرجال… الرجال عدوانيون، مجرمون، يحبون السلطة والمال، يتبعون شهواتهم، ويدمرون العالم، أحاول تهدئتها: لا تظلميهم … هناك رجال مسالمون، وطيبون، يحبون الخير، وهناك نساء عدوانيات.

ترد بوحشية: لا تدافعي عنهم، هم الذين فجروا هذه الحرب القذرة، خربوا حياتنا، خسرت كل أفراد أسرتي، تشردت من بيتي.

_ يجب نشر ثقافة السلام والتسامح كي لا يحصل هذا ثانية

_احلمي أيتها الحالمة …..

تخرج بسرعة ….

المطرقة مازالت تطرق على رأسي، لتستخرج منه كل الذكريات، وكل الصديقات، لينفجر رأسي أخيراً، وتتناثر شظاياه في أنحاء الغرفة، أصرخ بألم: لماذا حدث هذا؟ لماذا هدرت إنسانيتنا في حرب مدمرة؟!

أصحو … ألمس رأسي، مازال رأسي في مكانه …

الحمد لله … ليس لدي سوى هذا الرأس

ينبض رأسي بقوة في الطرف الأيمن … عاد مرض الصداع النصفي الذي يزورني في كل حين، هذا الصداع الذي تسلل إلي تدريجيا في سنوات الحرب.

أيتها الحرب؟   أيتها الحرب؟ أما آن لك أن تندحري!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى