لم ينل حملة الدورة الأولى لانتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة في سنة 2016 الكثير من الاهتمام، لأن نجاحه كان موضع شك، بل نال استهزاء البعض من المحللين. لكنه نجح في الانتخابات، وأزاح الديمقراطيين، وهزمت أمامه السيدة هيلاري كلينتون بطريقة صدمت المراقبين وخالفت التوقعات. ثم عايشنا معاً مرحلة رئاسة ترامب السياسية المضطربة، وصولاً إلى ما لم يحدث في التاريخ الأمريكي، عندما لم يتخلى طوعاً عن السلطة، في ما يشبه العصيان المدني، حيث هاجم أنصاره على الكونجرس في استعراض لا يقل إثارةً عن مشاهد أفلام هوليود. وعند تلك الانعطافة – الحدث بات معظم المهتمين بالشأن السياسي الأمريكي مقتنعين بأن ترامب بدأ وانتهى سياسياً بسرعة، كفقاعة صابون. فتتالت عليه القضايا الجنائية، وجرجر إلى المحاكم كما يقال. لكن أمريكا ماتزال بلد المفاجآت، فقد أعادت مجتمعاتها ترامب إلى الحكم، وهزم الحزب الديمقراطي أمامه مرةً أخرى، وانتهت حياة كاميلا هاريس نائبة الرئيس جو بايدن في انتخابات نوفمبر 2024. فلماذا عاد ترامب رغم كل ما حدث؟!
لماذا عاد ترامب؟
انشغل العالم بأسره في الأيام الأولى بعد فوز ترامب بظاهرة عودته، حيث تحولت العودة إلى ظاهرة من حيث أنها استقطبت اهتمام أوساط غير مهتمة بالسياسة الدولية أصلاً، حتى جمهور الرياضة انخرط في التحليل السياسي لتفسير عودته، بل تزاحموا على صياغة وتصور ما سيقوم به في فترة رئاسته الجديدة. لقد انهمر فيض من المعلومات التي تفسر نجاح ترامب وخسارة هاريس، في انعطافه شعبوية محمومة تحمل في طياتها الكثير من الإيجابيات، أولها زيادة الاهتمام بالشأن العام من زاوية عودة ترامب. إلا أنّ أغلب التحليلات السياسية حتى الرصينة منها لم تتعمق في جوهر المسألة – على حد اطلاعي ومتابعتي- أي لم تغوص تماماً في لب الظاهرة السياسية الجديدة، التي يمكن مقاربتها في سؤال بسيط: لماذا عاد ترامب؟ وفي سؤال آخر مكمّل: كيف عاد؟
في البدء انبثقت جذور الظاهرة الترامبية من حاجة المجتمعات الأمريكية إلى التغيير السياسي والاقتصادي في مطلع الألفية الجديدة، كما ترابطت (ظاهرة الترامبية) مع ارتكاب الديمقراطيين لخطأهم القاتل الذي تلخص في اختيار باراك أوباما مرشحاً للرئاسة، ونجاحه في انتخابات سنة 2008، هذا النجاح الذي جاء في أحد جوانبه كرد على سياسات انفلات تيار المحافظين الجدد، وجموح الثنائي جورج بوش الابن وديك شيني، اللذان كانا يرغبان في أن تكون أمريكا سيدة العالم تحت شعار (القرن الأمريكي الجديد)، وصياغة عالم بقطب سياسي واقتصادي وعسكري واحد. لقد نجح الديمقراطيون عهدئذ في التحشيد لوقف انطلاقة المحافظين الجدد، وبالتالي تمكنوا من وقف حروبهم، لكنهم انزلقوا في الوقت نفسه بقيادة أوباما الأفرو – أمريكي اليساري الليبرالي النظري نحو سياسة مائعة رجراجة في الداخل والخارج. سياسة أوباما لم تتوافق مع القيم الأمريكية، ولا مع ثقافتها السياسية الخاصة. حتى استكمل مشروع أوباما نائبه بايدن في انتخابات سنة 2020، الذي لم يساهم أيضاً في نشر الديمقراطية خارج أمريكا، كما أعلنها كهدف مراراً وتكراراً، بل على العكس عزز بايدن السلطات الاستبدادية في العديد من بلدان العالم، حتى دفعت هاريس سنة 2024 ضريبة هذه السياسة التي سيّرها الديمقراطيون في كل من الداخل الأمريكي وخارجه. حتى باتت المجتمعات الأمريكية بحاجة ملّحة إلى التغيير الاقتصادي والسياسي بقيادة شخصية تتقمص حالة (المخلص) من براثن السياسة الأوبامية – البايدنية العقيمة والرتيبة والمخادعة.
هذا ما حصل في الإطار السياسي العام، وفي خطٍ موازٍ نجح الجمهوريون في تلطيف سياسة جناح الصقور ضمن صفوفهم، وأنعشوا رغبتهم السابقة في قيادة العالم، لكن بصيغة معاصرة ومعدّلة تحت عنوان: جعل أمريكا عظيمة من جديد، المعروفة اختصاراً MAGA ، كخط شعبوي تعبوي فضفاض.
كيف عاد ترامب؟
إنّ التفسير الأولي لعودة ترامب للحكم، وكذلك متابعة تبلور الترامبية كموجة سياسية أمريكية ما بعد نيوليبرالية، يبين أنّ العامل الحاسم في تحقيقه الفوز، ورجحان عودته، ارتبط بقدرته مع مستشاريه على النفخ في روح السياسة المجتمعية الأمريكية من جديد، التي تكمن أصلاً في ميكانزم التحالفات بين المختلفين، وترجمة الفدراليات التضامنية عملياً. لقد فهم ترامب ومستشاروه أن الانتصار يتطلب توفير القوة المجتمعية اللازمة للنهوض بأغلبية الأمريكيين، والتي لا تتم إلا عبر بناء تحالفات سياسية ومجتمعية عريضة، وهذا ما تحقق. اذ استقطب الجمهوريون جموع الشعبويين الساخطين على المهاجرين، مع الانجيليين المعارضين للمثلية والتحوّل الجنسي، وغيرها من شطحات يسار الديمقراطيين. أما العامل الجديد والأهم في سياسة التحالفات التي كانت رافعة ترامب الكبرى إلى النجاح، فقد تمثّلت في إقناع أقطاب الرأسمال (التقني) الأمريكي الجديد بأن ينخرطوا في السياسة بشكل مباشر وصريح، وخاصة الملياردير ايلون ماسك (الذي ُيَعد أغنى شخص في العالم برأسمال معلن كان يبلغ حوالي 250 مليار دولار، ثم ارتفع بعد نجاح ترامب خلال اسبوعين الى حوالي 300 مليار دولار مطلع سنة 2025). كان التحالف مع ماسك ناجحاً لدرجة أن تم وصفه، بأنه السلّم الذي صعد عليه ترامب إلى الرئاسة هذه المرّة. فضلاً عن أنّ ترامب قد جنى ثمرة دعمه منذ عدة سنوات لخطة تعزيز العمل بالعملات الرقمية والمشفّرة، والتنسيق مع رواد الأعمال في وادي السيليكون، الذين دعموه مجتمعين بالمال والخبرات.
اتضح بعد إعلان النتائج درجة ارتباط فوز ترامب وتشابكه مع جهود ماسك، الذي كان قد أطلق حملة غير مسبوقة لضخ الأموال في عملية انتخاب ترامب، وذلك بهدف تعزيز سياساتهما المشتركة، فقد وضع ماسك منصته العملاقة اكس X في خدمة ترامب، فضلاً عن تبرعه بحوالي مئة وثلاثين مليون دولار لمصاريف الحملة. وقد نتج عن تحالفهما السياسي وعد بمشاركة ممثلي الرأسمال الجديد في السلطة التنفيذية. وقد ترجم بسرعة في إنشاء وزارة خاصة باسم (الكفاءة الحكومية) انبثق عنها هيئة تفتيشية، عرفت باختصار (دوج)، يقودها ماسك شخصياً لتحسين الأداء الحكومي، وتخفيض الميزانية الفدرالية إلى الثلث، أي بما يقارب ألفي مليون دولار. وقد بالغوا في سياستهم التقشفية خلال الأشهر الأولى من مهامهم.
الحاجة إلى التغيير ومخاطرها
لقد أعاد الجمهوريون ترامب إلى قمة الحكم كثمرة لتحالفهم الناجح بين القوة الشعبوية الاجتماعية الأمريكية العريضة والرأسمال الأمريكي غير التقليدي، خاصةً رأسمال قطاعات التكنولوجيا الفائقة والاتصالات والعملات الرقمية، التي حققت انتصاراً مباشراً بعد فوز ترامب. فقد قفزت عملة البتكوين إلى حوالي مائة ألف دولار، كمثال ومؤشر على التحالف والترابط، علماً أنها عملة افتراضية غير ملموسة ولا يمكن تخزينها.
لقد تحققت عودة ترامب كثمرة للتزاوج بين تيارات سياسية واقتصادية جديدة جعلت من نجاحه تحصيل حاصل، فتضامن غالبية قطاعات المجتمع الأمريكي خلف برنامج ترامب (المخلص الجديد) ليحقق فوز مريح في المؤسسات التشريعية، على أمل أن تبدأ خطة اقتصادية شاملة للتغيير وايجاد حلول لأزمة المجتمع الأمريكي الداخلية المركبة. فالتغيير الاقتصادي والسياسي كان هو مطلب وهدف جموع الناخبين الأمريكيين، ولم يكن شخص ترامب مطلوب بذاته وصفاته. لذلك بعد أسابيع من عمل الادارة الجديدة، أفصح ترامب عن خطته الاقتصادية، التي تبدو كإعلان حرب على الاقتصاد العالمي أكثر مما هي خطة إصلاحية. وقد تمثلت سياسته الاقتصادية في فرض رسوم جمركية عالية على كل الواردات إلى أمريكا، وخاصة الصينية والألمانية. ولقد استاءت العديد من الجهات والمؤسسات الاقتصادية وتضررت، بما فيه حليفه ماسك. لدرجة أن جمدت السياسة الجمركية لمدة ثلاثة أشهر.
من جهة أخرى خفض ترامب الدعم الحكومي لبعض المؤسسات، وألغى الدعم نهائياً لقطاعات أخرى وخاصة American Aid، الجهة التي تولّت مسؤولية المساعدات للخارج. ولم تقتصر تخفيضاته وقطع الدعم عن المجتمعات والدول خارج أمريكا، بل شطح كثيراً، عندما قرر وقف دعم الاعلام والجامعات، وخاصة جامعة هارفارد الأشهر في العالم.
يمكن الافتراض أنّ حاجة مجتمعات أمريكا للتغيير الاقتصادي والاجتماعي تقاطعت مع طموحات ترامب وحلفائه، من مختلف قطاعات الرأسمال، وخاصةً الرأسمال الرقمي الذي تراكم من تطور التقانة الفائقة. كما يمكن التكهن بأنّ حلفاً رأسمالياً جديداً، حلف معولم، وهو في الوقت نفسه حلف رأسمالي وطني أمريكي قد تشكل، لإنجاز خطة تغيير اقتصادية على الصعيدين الأمريكي والعالمي. لكن المبالغة في تدقيق التكاليف الحكومية والمعونات الاجتماعية، فضلاً عن إطلاق يد فريق البحث والتدقيق المالي المعروف ب (دوج)، وغيرها من القضايا، خاصةً التعرفة الجمركية العالية قد تشعل حرب اقتصادية عالمية حقيقية، لتتحول إلى حرب عارية في أي لحظة.
علماً أنّ خطة ترامب التي تهدف إلى قلب الموازين الرأسمالية في العالم، عن طريق السعي للتحالف مع الرأسمال النفطي ممثلاً بالمملكة العربية السعودية وقطر، واستمالة الهند، قد لا تساهم في الهيكلة، أو تأسيس ما يمكن أن نسميه الحلف الرأسمالي الأمريكي الجديد، في مواجهة الرأسمال الآسيوي وفي مقدمته الصين.
ماذا يعني لنا وللمجتمعات الشرقأوسطية هذه السياسات؟ أول ما يعنيه هو إعادة هيكلة الصراعات السياسية وجدولة أولوياتها، ووضعها في المرتبة الثانية بعد أولويات الاقتصاد. بحيث لم تعد الصراعات السابقة من قومية ودينية وجيوسياسية مهمة، ما لم تكن ذات علاقة وثيقة بمسار تقدم وترسيخ الحلف الرأسمالي الترمبي الجديد. والجانب الذي يبدو جديداً وربما خطراً على أنساق التفكير السياسي السابقة، وعلى منظومات التفاهمات والتوازنات الدولية، يكمن في أنّ قادة هذا التيار الرأسمالي الجديد يمتلكون فكراً وفلسفة، هي نفسها أفكار عدد من الملياردية الجدد، الذين يقرأون كتباً في علوم المستقبل والتكنولوجيا الفائقة والذكاء الاصطناعي، ويحلمون في غزو الفضاء والسكن في المريخ. ما يعني أن خارطتي الفكر والمال قد بدأت تُرسم من جديد.
لذلك ستنبثق على الأرجح مرحلة سياسية جديدة من هذا التحالف العريض بكل ما تحمل من فرص النجاح والمخاطر والصرعات العريضة. بحيث عاد ترامب هذه المرّة ليس كمهرج سياسي وممثل للشعبوية وللرأسمال العقاري، بل كمايسترو لحلف رأسمالي هو الأخطر والأقوى في تاريخ البشرية. ليقوم بوظيفة إعادة هيكلة وتغيير النظام الاقتصادي في العالم وفي مركزها أمريكا، ما يتطلب التخلي عن الكثير من القيم والثوابت التي تبنتها المجتمعات والدول في المركز الأورو – أمريكي طوال قرنين من الزمن. ستواجه سياسات ترامب وطاقمه وحلفائه العديد من التحديات السياسية، كونها خطة طموحة وجريئة واستثنائية، قد يستلزم تذليلها حروب فكرية وعسكرية، أو صفقات كبرى، أو الاثنين معاً.
———–
* جريدة “الوحـدة” – العدد /348/ – 15 أيار 2025م – الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).