المجتمع الدولي والقضية الكردية… الهوية الكردية في الشتات*
تأليف: شيري ليزر
ترجمة: راج آل محمد
مجلة الحوار- العدد /82/- السنة 30 – 2023م
يقدّر عدد الأكراد في الشتات بنحو مليون ونصف، بين لاجئ ومهاجر ومواطنين من الجيل الثاني والثالث. يعيش نصف مليون كردي في ألمانيا وحدها ونحو خمسين ألفاً في كل من فرنسا وهولندا. كما يعيش نحو عشرين ألفاً في بريطانيا والسويد والنمسا وسويسرا والولايات المتحدة. في كل من بلجيكا والدنمارك هناك ما يقدّر بعشرة أو اثنا عشرة ألفاً من الأكراد وما يقارب عشرة آلاف في استراليا وكندا. في النرويج واليونان وإسبانيا وإيطاليا يقيم من ثلاثة إلى خمسة آلاف كردي. كما إن أعداداً أصغر من العائلات الكردية تعيش في كل دولة من العالم تقريباً بما فيها جمهورية التشيك وسلوفاكيا وفلندا واليابان. من بين كل هؤلاء يشكل أكراد تركيا نحو 85-90%[1].
بسبب افتقارهم إلى جواز سفر قومي، فإنهم محرومون من الأمان الذي يترافق عادة مع هوية معترف بها. بمعنى آخر، بدون دولة خاصة بهم يتم إنكار حتى قوميتهم الأساسية مما يشكّل سببا رئيسياً لعدم الاستقرار والقلق.
إنها مسألة سياسية ملحة بأن يتم «الاعتراف رسمياً بالشعب الكردي كجماعة عرقية مميزة من المهاجرين الذين يعيشون في الاتحاد الأوربي لكي يتم منحهم ذات الحقوق التي تتمتع بها الجماعات الأخرى من المهاجرين… من أجل وقف التهميش المزدوج الذي يخضعون له حالياً في الاتحاد الأوربي وتركيا والعراق وإيران وسوريا.[2]
الأكراد الذين يهاجرون كإيرانيين وأتراك وعرب بوثائق سفر تلك الدول تؤثر على إحصائيات الهجرة وفق تلك المعايير. وبالنتيجة، فإنه لا توجد أرقام مستقلة بخصوص الأكراد في أوربا الغربية وبقية الدول وبذلك لا يتم فقط طمس أصلهم الكردي قبل مغادرتهم لتركيا والعراق وإيران وسوريا بل أيضاً منذ لحظة وصولهم إلى أرض أجنبية. وحتى أثناء عملية تقديم طلبات اللجوء أو إجراءات الهجرة الأخرى، فإن مقدمي الطلبات الأكراد لا يُمنحون وضعاً خاصاً ولا يتم قيدهم في إحصائيات خاصة. يُنظر إلى الأكراد باعتبارهم مواطنين للدول التي تعتبرهم أقلية بدءاً من عام 1924. منذ ذلك الوقت، أدى القمع والاضطهاد بحق الشعب الكردي كأقلية في الدول المذكورة آنفاً إلى تحويل عشرات الآلاف منهم إلى لاجئين. «وفي الوقت الذي بقي فيه اللاجئون من العراق في مركز الاهتمام الدولي، فإن اللاجئين من تركيا وإيران وسوريا بقوا مجهولين تقريباً… لقد بيّن البحث أنه لا بد أن يؤخذ في الحسبان هذه القضية المقلقة ذات البعد السياسي إلى حد كبير عند النظر في وضع المهاجرين الأكراد في أوربا.»[3]
إن تركيا وإيران والعراق وسوريا دول نامية وتفهم الجانب السلبي من توازن التجارة العالمية وعلاقات الانتاج. وقد تسبب ذلك في نسب عالية من التضخم والفقر الشديدين وسلسلة لا متناهية من التدهور الاقتصادي إضافة إلى تكاليف الإنفاق العسكري التي لا يمكن تحملها في حربها ضد الأكراد والدول المجاورة. هذه الأشياء ليست جديدة ولكنها ازدادت حدة في السنوات الثلاثين أو الخمس والثلاثين الماضية.[4]
تركيا هي الدولة الوحيدة من بين الدول الأربعة [التي تحتل كردستان] التي تحصل على نسبة كبيرة من إجمالي دخلها من السياحة. وقد قام الأكراد بحملة من أجل مقاطعة السياحة في تركيا زاعمين أن «كل دولار يدفعه السائح يصبح رصاصة لقتل الكردي». ولكن حتى العمليات التي استهدفت السياح كان لها تأثير محدود في ثني الأعداد المتزايدة من الأوربيين الذين يريدون قضاء عطلاتهم الصيفية في منتجعات الساحل الغربي لتركيا. وفي الوقت الذي تسوّق فيه الحكومة التركية حملات دعائية وحملات من العلاقات العامة وبكلفة عالية على أن تركيا «جنة»، فإن شرق البلاد قد أصبح «جهنماً» حقيقياً ويتميز بتدمير نمط الحياة وتدمير الطبيعة وذبح سكانها الأصليين. ولكن القليل جداً من السياح يتمكنون من رؤية ذلك الجزء من البلاد.
تبنت الحكومات الغربية استراتيجيات مختلفة تجاه الجماعات الكردية تلك بناءً على سياساتها وعلاقاتها مع الحكومات المركزية للدول التي ينحدر منها الأكراد. وبهذا المعنى، فإن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه أكراد العراق مختلفة تماماً عن سياستها مع أكراد تركيا. والملاحظة تلك تنطبق أيضاً على الدول الأخرى في الناتو والاتحاد الأوربي.
إن تركيا دولة عضو في الناتو وموقعة على عدد من الاتفاقيات الأوربية بما فيها اتفاقية الأمن والتعاون مع أوربا ومُنِحت دوماً تسويغاً كبيراً في تعاملها مع القضية الكردية. إن تركيا واليونان أكبر دولتين تلقتا مساعدات عسكرية من الناتو بموجب ما أُطلِق عليه اسم سياسة الشلال التي يتم بموجبها التبرع بالأسلحة القديمة والفائضة لهما بينما الأسلحة الجديدة تكون ضمن صفقات بيع مباشرة أو عبر اتفاقيات انتاج مشترك بين الشركات الغربية والتركية لتصنيع أسلحة بالجملة أو بشكل مفرّق في تركيا بغية تمكين تركيا ليس فقط من سد حاجتها من الأسلحة بل أيضاً لتصبح من الدول المصدّرة للأسلحة والبدء في تطوير صناعة تكنولوجية حديثة خاصة بها[5].
تُعتبر تركيا ثاني أكبر دولة في الناتو حيث يصل عدد جنودها إلى 480 ألفاً. وتتركز معظم قواتها البرية في شمال-غربي البلاد بالإضافة إلى الجندرمة، وهي قوة قوامها نحو سبعين ألفاً ومهمتها الأساسية هي القمع الداخلي. بحسب معهد ستوكهولم لأبحاث السلم الدولي فإن الميزانية العسكرية لتركيا وصلت إلى 2,500 مليون دولار أمريكي خلال الثمانينات ولكنها ارتفعت بشكل حاد في نهاية العقد لتصل إلى 3,870 مليون دولار في عام 1991. في الفترة من 1987 إلى 1991 كان الممولون الرئيسيون للأسلحة التركية الرئيسية هي: الولايات المتحدة 3,953 مليون دولار، وألمانيا الغربية سابقاً 1,549 مليون دولار وهولندا 273 مليون دولار وإيطاليا 125 مليون دولار وفرنسا 22 مليون دولار والمملكة المتحدة 10 مليون دولار (كتاب العام لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلم الدولي، 1992). في 1993 كانت تركيا المستلمة الرئيسية للأسلحة التقليدية وبشكل خاص من الولايات المتحدة[6].
أسلحة لتركيا من أجل محاربة «الإرهاب»
رغم بعض العقبات الصغيرة في تزويد السلاح والأشكال الأخرى من الدعم الاقتصادي لتركيا بسبب فشلها المتواصل في مراعاة حقوق الإنسان، إلا أن الحكومات الغربية استمرت في التعامل مع القضية الكردية في تركيا على أنها قضية «إرهاب» على خطى الحكومة التركية. في تقرير مقدّم إلى مؤتمر دولي حول شمال-غرب كردستان عُقِد في بروكسل في 12-13 آذار 1994، قرر مشروع حقوق الإنسان الكردي الذي يتخذ من لندن مقراً له بالتعاون مع مكتب فرانكفورت للأطباء الدوليين Medico International ما يلي: “إن مفهوم الإرهاب يُساء استعماله من قبل تركيا في محاولة منها لشرعنة نقل هذه الأسلحة والتي تُستخدم في الواقع في عمليات عسكرية ضد الجماعات المسلحة المنظمة للقتال ضد عملاء الدولة التركية. والدول التي تقوم بتزويد [تركيا] بتلك الأسلحة شريكة في إساءة استعمال الإرهاب. ينبغي على الولايات المتحدة أيضاً أن تطبق مبادئها في اتفاقية المساعدة الخارجية وأن تتوقف عن أية مساعدة عسكرية أو اقتصادية لتركيا حتى تلبي تركيا حقوق الإنسان المنصوص عنها في اتفاقية المساعدة الخارجية.”[7]
لقد تم تهميش القضية الكردية في تركيا على الصعيد الدولي على أنها حرب بين القوات التركية المسلحة و”قوات الغريلا الماركسية لـ PKK”. وهذا الموقف عاجز كلياً على أن يعترف في أن قوات الغريلا تلك هم شباب ساخطون من قرى وبلدات ومدن كردستان وأجزاء أخرى من تركيا. وأنهم مدعومون شعبياً بنسبة 80% من السكان المدنيين الأكراد.
ورغم العروض التي قدمتها PKK لإيجاد حل بالطرق السياسية، فإن الحكومة التركية رفضت كل المبادرات وأقسمت بدلاً من ذلك أخذت على نفسها أن سوف “تقضي على “الإرهابيين” عسكرياً”. في سعيها لفرض حل عسكري تم دعم تركيا من قبل الولايات المتحدة وبقية أعضاء الناتو والدول الأوربية الأخرى. وكان النقد الموجه لتركيا يرتفع فقط عند يظهر الدليل المحرِج في أن تركيا استخدمت أسلحة الناتو ضد المدنيين الأكراد. بعد ذلك بفترات قصيرة قد تبدي الدولة الداعمة لتركيا بالسلاح توقفاً مؤقتاً للمساعدة كما في حالة ألمانيا أو في حالة الولايات المتحدة الأمريكية قد تقلل مستوى الدعم العسكري بنسب مئوية وفي كلتا الحالتين لا تكون ردة الفعل كافية لتغيير الوضع الراهن. بعض الدول الأخرى، التي لديها مصالح أقل مع تركيا، كما في حالة السويد وسويسرا والنرويج فإنه تم فرض الحظر وألغيت كافة شحنات الأسلحة إلى تركيا بشكل نهائي خلال 1992 إذا ما استُخدِمت تلك الأسلحة ضد الأكراد.
وزير الدفاع التركي المشغول مؤخراً في التسويق للمعرض الثاني لصناعة الدفاع الدولية والطيران المدني المزمع عقده في أيلول يوجه الدعوات للمشاركين في المعرض تتضمن “كل المصاريف الضرورية من إقامة ووسائل الراحة والتسلية من قبل تركيا للوفود المشاركة”.
في المعرض الأول لصناعة الدفاع الدولية والطيران المدني الذي أُقيم في 1993 برزت الشركات البريطانية التالية من بين العارضين الدوليين بريتش ايروسبيس، بريتش ايروسبيس ديفينس، بريتش ايروسبيس للطائرات التجارية، بريتش ايروسبيس للطائرات النفاثة، شعبة المعدات الحربية الملكية، هيئة تصدير الخدمات الدفاعية، دائرة الاختبارات والتقييم، الشركة العامة للكهرباء GEC آلسثوم باكسمان ديزل، GEC ماركوني المحدودة، GEC ماركوني للالكترونيات، GEC ماركوني الأنظمة القتالية، GEC ماركوني للأنظمة البحرية، GEC ماركوني للرادار وأنظمة التحكم، GEC ماركوني أنظمة سونار، GEC ماركوني للأسلحة تحت المائية، GEC بليسي لالكترونيات الطيران، ماركوني لأنظمة الدفاع المحدودة، بيلاتوس برتين نورمان المحدودة، فوسبير ثورنيكروفت المحدودة، يارو شيببيلدرز (بناء السفن)، مجموعة جين الإعلامية، ريتشام المحدودة وجمعية مصنّعي [الأسلحة]الدفاعية. كما شارك عارضون من كل دول العالم تقريباً (المصدر: استعلامات المعرض الأول لصناعة الدفاع الدولية والطيران المدني)
من بين ممولي الأسلحة لتركيا من الاتحاد الأوربي يمكننا أن نذكر أوكوستا Augusta الإيطالية لصناعة طائرات الهليكوبتر ومعدات التدريب، وماركوني (إيطاليا) لصناعة أنظمة الاتصالات المحوسبة (المنفذة بواسطة كمبيوتر) وأيروسيبتيال Aerospatiale الفرنسية لصناعة وسائل الاتصال عن طريق الأقمار الصناعية، وثورنصن Thornson CSF للرادارات المتحركة GIAT (فرنسا) بنادق للمشاة والعربات القتالية، و AIFV و NFK (هولندا) لصناعة كابلات أنظمة اتصال TAFICS وفليبس (هولندا) لصناعة المدافع وفتيل القذائف وسترينجر لصناعة قطع الصواريخ وCASA لصناعة طائرات النقل[8]
ردود الفعل على الغزو التركي لشمالي العراق
بعد الستة أسابيع الأولى من العملية، كانت كلفة غزو تركيا لكردستان الجنوبية قد وصلت إلى 47 مليون جنيه (رويترز، 28 نيسان/إبريل 1995).
كرد فعل على الغزو، صادق مجلس أوربا بأعضائه الـ 34 على قرار تعليق عضوية تركيا في المجلس الأوربي “ما لم تبدِ تقدماً ملحوظاً باتجاه الانسحاب من العراق قبل 26 حزيران/ يونيو 1995 [موعد انعقاد] قمة الاتحاد الأوربي. كما تأجلت عضوية تركيا في الاتحاد الجمركي [الأوربي] مما خلق ردة فعل عنيفة في المجلس القومي الأعلى. كما دعا المجلس [الأوربي] إلى حل سلمي للقضية الكردية وإصلاحات ديمقراطية للدستور والقانون التركيين. [لكن] المسؤولين الأتراك استجابوا برباطة جأش معهودة وتصرفوا وكأنهم “الطرف المتضرر” وقالوا إن وفدهم البرلماني في ستراسبورغ سوف “لن يشارك في الفعاليات وسيرفض أي تعاون” (رويترز، 27 نيسان/ إبريل 1995)
في أوج الغزو كتب السير بيتر يوستينوف Sir Peter Ustinov في [مجلة] يوربيان The European مديناً “المرونة الأخلاقية” التي “تبرر” الغزو التركي للعراق وأوصى بأن “تُدان كافة المغامرات العسكرية ضد دول الجوار لا أن يتم التعامل معها بشكل انتقائي بحسب المصالح القومية والتجارية أو الأمنية.” علاوة على ذلك لاحظ يوستينوف: “تلعب الولايات المتحدة مرة أخرى دوراً ملتبساً، وربما بسبب عادتها في التدخل المسلح في شؤون جيرانها-كما تشهد بذلك أفعالها في غرينادا وبنما وهاييتي- فإنه من الصعب عليها القيام بدور الناصح الأخلاقي للأتراك. بدلاً من ذلك تبدو الولايات المتحدة وكأنها تقول “افعلوا ما تريدون فعله، ولكن بسرعة. وفي هذه الأثناء سوف أقف على الباب وأحذّركم من أي مؤشر على رأي عالمي غاضب.” (يوربيان، 31 آذار/ مارس 1995).
ووجدت ألمانيا، بصفتها أقرب الحلفاء لتركيا، نفسها محرجة إزاء الغزو التركي وكانت محرَجة في إدانته حينما بدأت التقارير تصل عن قتل المدنيين أثناء سير الهجمات التركية على القرى الكردية العراقية:
“رغم أن السيد كينكل (وزير الخارجية الألماني) ودوغلاس هيرد وزير الخارجية [البريطاني] يريدان أن يتجبنا عزل تركيا، وهي دولة مهمة للغاية على الجهة الجنوبية للناتو، فإنهما حذّرا الأتراك من أنهما قادران على إحباط التصديق على اتفاقية الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوربي… جمدت ألمانيا، وهي مموّل هام للأسلحة إلى تركيا، في الأسبوع الماضي مساعدات بقيمة 150 مليون مارك (67 مليون جينه استرليني)…ورغم رمزية البادرة إلى حد بعيد، لأن الكمية الأكبر من المعدات الألمانية العسكرية كانت قد سُلّمت بالفعل قبل ذلك، إلا أنها عكست قلق بون المتصاعد على التواجد التركي الطويل في شمالي العراق (الغارديان، 4 نيسان/ إبريل 1995).
أسلحة إلى العراق
ساند الغرب بالطريقة ذاتها صدام حسين بشكل رئيسي أثناء الحرب ساند الغرب بالطريقة ذاتها صدام حسين بشكل رئيسي أثناء الحرب العراقية -الإيرانية رغم استخفاف نظامه الواضح بحياة الإنسان. فقد كانت بغداد تُزوّد بالأسلحة والأرصدة الدائنة حتى بعد محاولة حكومة بغداد الممنهجة لإبادة أكراد العراق في ظل حملة الأنفال واستخدامها للأسلحة الكيميائية المحرّمة دولياً.
فيما يتعلق ببريطانيا فإنها ظلت تدعم صدام بالمعدات العسكرية طالما استطاعت حكومتها أن تفلت من اللوم. عُقِد استجواب سكوت في تشرين الثاني/ نوفمبر 1992 برئاسة قاضي محكمة الاستئناف Lord Justice لمعرفة فيما إذا كان الوزراء البريطانيين قد تجاوزوا القوانين في السنوات الخمس التي سبقت غزو الكويت. وطُرِح السؤال فيما إذا كان من الصحيح أخلاقياً إصدار شهادات حصانة [لهم]. وجاء التحقيق على خلفية اتهامات لثلاثة رجال أعمال من شركة ماتريكس تشرتشل التي كانت تزود العراق بماكنات صناعية. وقد اتُهِم الثلاثة بخرق الحظر المفروض على تزويد العراق بالأسلحة. وفي المحكمة التي دامت إحدى عشر شهراً تم الاستماع إلى شهادات دلّت على تورط الحكومة البريطانية كلها وحتى قمة هرمها. وقد ذهبت المحاكمة في الواقع إلى ما هو أبعد من بعض كبار الوزراء في الحكومة إلى داونينغ ستريبت [رئاسة مجلس الوزراء] مثل رئيسة الوزراء السابقة مارغريت ثاتشر ورئيس الوزراء في حينه جون ميجور اللذان استُدعيا من أجل الدفاع عن نفسيهما. وقد حضر الجلسات الخاصة بالاستماع ضباط من الاستخبارات. بعد 400 ساعة من المحاكمة و200 شهادة و200 ألف صفحة من الوثائق و166 جلسة عامة ومغلقة، تم تأجيل التقرير النهائي لتحقيق سكوت كثيراً قبل أن يظهر للعلن. كانت المشاهدات الرئيسية للتحقيق على الشكل التالي:
1- هناك خرق للخطوط العامة المنشورة من قبل الوزراء الذين كانوا يعرفون من أن المعدات ستُستخدم لأغراض حربية من قبل العراق.
2- صادق الوزراء على تسليم شحنات [من الأسلحة] للأردن والعربية السعودية رغم معرفتهم من أنها ستحوّل إلى العراق.
3- غيّر الوزراء خطوطهم العامة من دون أن يخبروا الرأي العام.
4- اشترك الوزراء في مؤامرة لتضليل العدالة.
5- لقد وُضعت قوات الأمم المتحدة في خطر نتيجة تصدير الأسلحة إلى حكومةٍ استخدمت الأسلحة الكيميائية ضد مواطنيها. إن الوزراء والموظفون الحكوميون قد أساءوا إلى ثقة الشعب بهم وخدعوه. ما من ضمانات من أن إساءات مشابهة لا تزال تُرتكب. (المصدر: جلسة عامة في تحقيق سكوت برئاسة دينس هيلي (من حزب العمال) في 29 حزيران/يونيو 1994).
أما جون بيلجر الذي كتب تقريراً لـNew Statesman & Society في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1994 فقد لاحظ:
“لقد أثبت تحقيق سكوت، مثلها مثل العديد من الفضائح المشابهة، أن بريطانيا تدعم سرياً وبشكل غير شرعي وبنفاق وازدواجية طرفي النزاع في الحرب الإيرانية – العراقية… في حالة العراق بات من المعروف الآن أن شبكة واسعة للتمويل تعمل في بريطانيا خلال السنوات الثمان الماضية من قبل قوات الأمن بشكل عام أو من قبل أسلحة الحكومة السرية الأخرى مثل الخدمات العسكرية الدولية (خ.ع.د). إن دور وزارة الخارجية في الحفاظ على “الجائزة الاقتصادية” للعراق كان الكذب.”
وعلى الرغم من مزاعم رئيسي الوزراء البريطانيين من أنهما كانا غير مدركين لما يجري، إلا إنهما كانا يحصلان بشكل روتيني على تقارير استخباراتية تُقدّم كل يوم خميس و”الكتاب الأحمر” ومعلومات من M16 وكذلك تقارير مركز الاستخبارات المشترك JIC. إن رئيس الوزراء وكل الوزراء في الحكومة البريطانية كانوا على دراية بذلك. ليس هذا فقط بل إن دائرة ضمان اعتمادات التصدير كانت تتلقى المعلومات عن تجارة الأسلحة. كانت الحكومة تعرف حق المعرفة كيف ستُستخدم الماكينات الصناعية وتعرف أولويات العراق. لقد عرفت شركتا ماتريكس تشرتشل وشيفلد فورج كيف تصنعان بندقية جون بول “الخارقة”. لقد بحث جون بول عن أحد يبيع البندقية له وكان العملاء العراقيون يبحثون عن ممولين لتطوير القدرات الصناعية المحلية. في ذلك الوقت الذي نحن بصدده، كانت فرنسا أحد ممولي العراق الرئيسيين بالأسلحة (مثلما هي متلهفة الآن لأن تلعب الدور ذاته مرة أخرى). وبحسب دينيس هيلي “كان الأمريكيون متورطين أيضاً حتى آذانهم” وهذا ما أكدته الأسرار التي كشفتها كتاب آلان فريدمان حول تورط حكومة الرئيس بوش في تسليح العراق.
في عام 1994 كان المغامر البريطاني ستيفن كراوتش، وهو أحد عمال الإغاثة السابقين في منظمة إعادة تعمير كردستان والذي لقّب نفسه بـ “صديق” الأكراد، متورطا في تشكيل جماعة الضغط (اللوبي) العراقية – البريطانية، وبصفته مديراً عاماً للمنظمة فقد كان يتلقى مكافآت تصل إلى مبلغ 500 ألف جنية استرليني من رجال أعمال بريطانيين. وكانت المكافآت مقابل تسهيل عقود تجارية مع المسؤولين في الحكومة العراقية من أمثال رياض القيسي (نائب وزير الخارجية العراقي) الذي كانت تربطه علاقات وثيقة ومتابعة الصفقات ذات المنفعة المشتركة رغم عقوبات الأمم المتحدة. ومن البديهي القول أن جماعة الضغط تلك واحدة من التي رفعت صوتها عالياً من أجل رفع العقوبات على العراق.[9]
وكانت كل من تركيا وألمانيا وفرنسا وروسيا بشكل خاص متلهفة من أجل رفع عقوبات الأمم المتحدة المفروضة على العراق منذ 1992 لاستئناف ما ثبت أنه دائماً تجارة مربحة. لعبت تركيا دوراً ثنائياً: فمن الناحية السياسية كانت مقسّمة بين دعمها للولايات المتحدة والتعاون الإقليمي مع الجارة العراق (ضد الأكراد) من ناحية أخرى. وبحسب دينيس هيلي، مرة أخرى، فإن “دول العالم الثالث تمتعض سياسة الحد من الأسلحة التي تُفرض عليها من قبل الدول ذات التسليح الجيد والقدرة النووية (بينما الولايات المتحدة تزود إسرائيل [بالأسلحة]). إن تلك الدول تقوم بتصنيع أسلحتها بنفسها (تحقيق سكوت، جلسة عامة، 29 حزيران/يونيو 1994).
تجريم الجالية الكردية في الغرب
في عام 1993 أصبحت ألمانيا أول دولة أوربية تقوم بحظر تنظيم PKK على أراضيها وتوّجه التهم لأعضاء التنظيم. بعدها بعدة أشهر حذت فرنسا حذو ألمانيا وقامت أيضاً بحظر PKK. تم الهجوم في كلتا الدولتين على الجمعيات التي يديرها مناصرو ومؤيدو الحزب وتمت مصادرة موجوداتها وأعتُقِل مستأجروها. وتم إغلاق كافة جمعيات الجالية الكردية في ألمانيا التي زُعِم ارتباطها بـ PKK في ألمانيا. وعندما فتح أنصار PKK جمعيات جديدة وقامت بإصدار منشورات جديدة، قامت الشرطة الألمانية باقتحامها وقامت بمصادرة موجوداتها واعتقال المسؤولين عنها. قامت الصحافة التركية السائدة، ولا سيما حريتْ وملليتْ، بتغطية التطورات الحاصلة بشكل كامل مع التشديد في الحظر. وكانت العناوين الرئيسية كالتالي: “لقد سقط قناع PKK”، “لن يتم رفع الحظر عن PKK”، “دعوة من الشرطة للتعاون”. وقد كشف المقال الأخير عما يلي: “لقد دعت الشرطة الألمانية كل ذوي الأصول التركية والكردية أن يتعاونوا معها في حملة حاسمة ضد إرهاب PKK. وزعمت الشرطة أنها لن تسمح بالمزيد من تمدد إرهاب PKK وعلّق ضابط الشرطة بقوله:” إن نجاحنا في هذا التدخل ضد هذه المنظمة سوف يسمح لنا بمساعدة أولئك المهددين.” لقد أصبحت فرانكفورت مؤخراً مسرحاً لعدد من الاشتباكات بين الشرطة ومؤيدي PKK حيث طُبِقت إجراءات أمنية مشددة. وادعى ضباط الشرطة أنهم لم يمنحوا الرخصة لمظاهرات PKK. وقد أقامت الشرطة نقاط تفتيش وقامت بتفتيش سيارات كل من اشتبهت بهم. وقد خضع ثلاثون شخصاً كانوا قد احتشدوا بشكل مريب في ساحة هوبتشفي Hauptwache للتحقق من هوياتهم وتم اعتقالهم (ملليتْ، فرانكفورت، آب/ اغسطس 1995).”
في الدول الأوربية الأخرى، وبشكل خاص في بريطانيا وبلجيكا، كانت الشرطة الدولية (انتربول) ووكالات الاستخبارات المحلية (فروع سكوتلانديارد الخاصة، M15 و M16) وضباط الهجرة أقل علنية في عملياتها ولكنها أفصحت أنها تشاطر ألمانيا وفرنسا الرأي [بخصوص PKK].
أعطت السيدة ستيلا ريمنغتونStella Rimington ، التي عُينت رئيسية جديدة لـ M15 في حزيران/ يونيو 1994، محاضرة ديمبلبي Dimbleby Lecture وصرحت فيها أن الأكراد يشكلون “تهديداً متزايداً بالعنف” في أوربا (18 حزيران/ يونيو 1994).
بحسب مقالة في فايننشال تايمز (22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1993)، أقامت بريطانيا علاقات متينة مع وكالة الاستخبارات الوطنية الألمانية BFV. ومعروف أن BFV هذه تتبادل المعلومات مع الاستخبارات التركية (ميت) حول ما تسميه “الانفصاليين” الأكراد. لقد أقامت الشرطة التركية علاقات مع مثيلاتها الأوربية بما فيها الشرطة البريطانية. في مقالة بعنوان “الفرع الخاص M15 وتجريم الكرد في بريطانيا” يشرح الكاتب ستيفن لونغ: “إن وحدة الارتباط الأوربية للفرع الخاص من شرطة العاصمة [البريطانية] تنسق توزيع المعلومات بين شرطة الاتحاد الأوربي والمنظمات الاستخباراتية. لقد تم تأسيسه من قبل حكومة حزب العمال في 1976 وقد لعب ما يشبه مركز قيادة أوربية لمحاربة “الإرهاب”. إنها تنقل المعلومات من إحدى قوات الشرطة الأوربية إلى أخرى وتقوم بتلبية طلب معلومات عن المهاجرين وطالبي اللجوء… في عام 1991 اقترحت ألمانيا أن يتم تشكيل شرطة أوربية (يوروبول). وقد تم دمجه في اتفاقية ماستريخت… تم تبني خطة تجريم الجاليات الكردية المؤيدة لـ PKK من قبل مجموعة TREVI المؤلفة وزراء الداخلية الأوربيين إضافة إلى كبار الضباط من الشرطة والاستخبارات. TREVI التي تمثل الأحرف الأولى باللغة الإنكليزية من الإرهاب والراديكالية والتطرف والعنف ليست مسؤولة أمام أي برلمان أو هيئة أوربية. لكن الشرطة الأوربية (يوروبول) ستحل محله في حال نشوئه. لكن خطة TREVI ضد الأكراد تستخدم وحدة الارتباط الأوربية في سكوتلنديارد ولا تزال تقوم بذلك.”[10]
ورغم أنه لم يتم حظر PKK ولا أية جمعيات كردية أخرى ولا تمت مهاجمتها من قبل الشرطة في المملكة المتحدة، فإنه بحلول نهاية 1994 تم اعتقال عدد من الرموز السياسية الكردية في ساعات الصباح الأولى أو تم خطفهم من منازلهم أو تم احتجازهم كضيوف ومن ثم اعتقالهم في سجن بريطاني باعتبارهم يمثلون “تهديداً للأمن القومي” أو بموجب قانون منع الإرهاب.
تم اعتقال كاني يلماز (فيصل دونلايجي)، ممثل الجبهة الوطنية لتحرير كردستان ERNK (الجناح السياسي لـ PKK) في أوربا، من قبل الشرطة في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1994 على بعد عدة أمتار من مجلس العموم حيث كان من المفترض أن يتكلم في جلسة برلمانية عن مسألة عملية السلام في كردستان. تم احتجازه في البداية كونه يشكل “تهديداً للأمن القومي” وقد تبين فيما بعد أن الحكومة الألمانية قد طلبت من المملكة المتحدة أن تسلمها يلماز متهمة إياه (بصفته ممثل ERNK في أوربا) بكونه مسؤولاً عن إحراق الممتلكات عمداً التي نفذها [أنصار] PKK في المدن الألمانية حسب زعمهم. ليس ثمة دليل على ارتباطه بأعمال تلك. انتقد عضو البرلمان عن حزب العمال جون اوستن- ووكر، الذي كان قد أرسل دعوة مجلس العموم إلى كاني، الحكومة البريطانية بسبب نفاقها وعلّق قائلاً: “لقد تم مهاجمة [كاني] من قبل مجموعة من ضباط شرطة العاصمة ثم أُخِذ عنوة إلى مخفر شرطة تشارينغ كروس حيث زُوّد بأمر ترحيل. وعندما اعترضنا، أنا وجاك سترو، مايكل هاورد عن ماهية الأسباب، تم إخبارنا بأنه يشكل تهديداً للأمن القومي… إن إحدى الفقرات الرائعة في القانون البريطاني هي أنه عندما يقول وزير الداخلية أن أحداً ما يشكل تهديداً للأمن القومي، فإنه غير ملزم أن يعطي أية أسباب للترحيل… لا تُعطى لك أية أسباب لماذا تشكل تهديداً للأمن القومي… حسب معلوماتنا فإن التهمة الوحيدة ضد السيد كاني هو أنه مرتبط بـ PKK وباعتبارات تخص الحكومة الألمانية التي تعتبر PKK منظمة إرهابية ولهذا السبب هي تطالب بتسليمه… إذاً شخص يريد أن يناقش العملية السلمية ويريد أن يقابل برلمانيين من هذا البلد من أجل التأثير في [إيجاد] حل سلمي لحرب الإبادة في تركيا يأتي إلى هنا في مهمة سلام ليجد نفسه في سجن بريطاني بأقصى درجات الأمن”.[11]
في الخامس والعشرين من تموز/ يوليو 1995 منحت محكمة الصلح في سجن بيلمارش، حيث اُحتِجز كاني، الحكومة الألمانية الحق القانوني في المطالبة بتسليمه بموجب بنود المعاهدة الأوربية. سرعان ما قدّم محامي كاني طلب استئناف إلى المحكمة العليا مستنداً على أساس أن كاني لا يتوقع أن يحصل على محاكمة عادلة حيث سيتم تسليمه إلى ألمانيا. بعد إنهاء احتجاجهم خارج وزارة الداخلية البريطانية، واشتبك نحو 3000 كردي مع الشرطة البريطانية خارج محطة فكتوريا لدى سماعهم بتلك الأخبار ونظموا اعتصاماً غاضباً في وسط شارع فكتوريا وأوقفوا المرور لمدة سبع ساعات قبل أن يتفرقوا. وطالت الاعتقالات والاحتجازات ومنع السفر إلى الخارج عدداً من طالبي اللجوء بمن فيهم لاجئين سياسيين معروفين حتى أولئك الذين كانوا يتمتعون بتصريح استثناني للبقاء [في بريطانيا] وحتى أشخاص غير أكراد يدعمون القضية الكردية.
وكان قد تم استجواب عدد من أكراد العراق، الذين يتمتعون بإقامة لاجئ سياسي أو تصريح استثنائي للبقاء، العائدين إلى أوربا بعد زيارات إلى شمالي العراق عن طريق تركيا واحتجازهم لبضع ساعات من قبل ضباط الهجرة في نقطة الدخول والتحقيق معهم حول PKK وطرح أسئلة عليهم من قبيل: “هل أقاموا أية اتصالات مع PKK؟ بمن التقوا حينما مروا بتركيا؟ مع من كانوا يقيمون في المملكة المتحدة؟ ما هي المنظمات التي لديهم اتصالات بها؟ وهلمّ جرا». تعتبر هذه الإجراءات، مرة أخرى، دليلاً على محاولات ممنهجة من قبل الحكومات الصديقة لتركيا لدعم استراتيجية تركيا القائمة على عدم التوصل إلى تسوية وعدم الحوار مع PKK باعتبارها منظمة خارجة عن القانون وفق القانون التركي وضمن تركيا. وهو نشاط مبني على التمييز التكتيكي بين الجماعات الكردية المختلفة بحسب انتماءاتهم السياسية.
من السهل عموماً على أكراد العراق وإيران الحصول على وضعية لاجئ في أوربا كلها. ورغم حجم الحرب في تركيا والتقارير الشاملة عن انتهاكات حقوق الإنسان في المقاطعات الكردية، فإنه من الصعب على نحو استثنائي لأكراد تركيا الحصول على اعتراف رسمي بهم كأشخاص يعانون من الاضطهاد وبناءً عليه يكونوا مؤهلين للحصول على حماية دولية بحسب ميثاق الأمم المتحدة لعام 1951 بخصوص اللاجئين. رغم حقيقة أن الكرد في تركيا يعانون من الإضطهاد على أساس اثني وأن الاضطهاد لا يكون على أساس فردي بل على أساس عرقي.
رغم القرار الذي اتُخِذ بإجماع الأصوات في البرلمان الأوربي في 14 كانون الأول/ ديسمبر 1994 بخصوص تركيا، إلا أن حكومات الدول [الأوربية] أخفقت بشكل فردي على أن تلتزم به. قرر البرلمان في الفقرات 7 و 8 و 9 ما يلي:
– دعوة مجلس أوربا إلى حضّ تركيا على البدء بعملية حوار من أجل الوصول إلى حل ديمقراطي للطموحات المشروعة لمواطنيها ذي الأصول الكردية الذين يبلغ تعدادهم 15 مليوناً وبذلك تتخلص من مصدر التوتر والنزاع الذي يهدد السلم والاستقرار في دول المنطقة و أوربا الغربية.
– دعوة الدول الأعضاء بعدم ترحيل اللاجئين الكرد الذين فرّوا من تركيا والطلب من رئيسه في إرسال هذا القرار إلى المجلس والمفوضية والدول الأعضاء والمجلس القومي التركي الأعلى والحكومة التركية ومجلس أوربا وأمين عام الأمم المتحدة وأمانة سر مؤتمر الأمن والتعاون في أوربا CSCE.
(DOC/EN/RE/262/262821)
لم يكن هناك فقط عدم استجابة بل أن 5 % فقط من طالبي اللجوء، بمن فيهم اللاجئون من تركيا، في المملكة المتحدة منحوا حق اللجوء الكامل من قبل وزارة الداخلية. على العكس من ذلك، فإن الشروط التي تؤثر على مصلحة اللاجئين الأكراد ازدادت سوءً وازداد أيضاً التهديد بالترحيل. وبحسب الأرقام التي أعطاها عضو البرلمان ونستون تشرتشل على شكل دفاع برلماني مكتوب، فإنه تم رفض 45,655 طلب لجوء بين 1992 و1994. في الفترة ذاتها كان هناك 5,150 حالة ترحيل من المملكة المتحدة (بما فيها الترحيل الطوعي والقسري). ورغم تلك الأرقام فإن الحكومة قد “وقعت تحت هجوم الجناح اليميني… بسبب تساهلها مع الهجرة وبشكل خاص بسبب عدم فرض مزيد من حالات الترحيل بالقوة” (تقرير حملة ضد الترحيل الذي تم توزيعه على جمعيات الجاليات الكردية والتركية من اللاجئين، لندن، نيسان 1995.)
لطالما كان اللاجئون الكرد خائفين على سلامة مستقبلهم. وقد بدأ الضغط يسحب على أطفالهم أيضاً. فقد اتصلت المدارس في طول لندن وعرضها بمراكز جاليات اللاجئين بتقارير عن أطفال بائسين ومفجوعين انهاروا في الصف قائلين أن: “البابا قد رُحّل إلى تركيا. ماذا سيحصل لنا؟ هل سيتم ترحلينا أيضاً؟». وقد عرض بعض مدراء المدارس أن يكتبوا رسائل دعم ومساندة لأسر هؤلاء الأطفال لتمكينها من البقاء في المملكة المتحدة على أساس الرحمة والشفقة، لكن “الشفقة” باتت تصبح مفهوماً غريباً على وزارة الداخلية.
ما هو مزعج أكثر من ذلك، إعلان شرطة العاصمة أنها بصدد تشكيل وحدات شرطة خاصة للتحقيق مع “الإرهابيين الأتراك” في لندن وتحديد مكان المهاجرين غير الشرعيين. كان البعض [من عناصر وحدات الشرطة] قد تعلموا التركية لكي يقوموا بـ “مهام الهجرة” الإضافية حيث سيكونون مسلحين بشكل أفضل حينها في تحديد أكراد تركيا في المملكة المتحدة “بشكل غير شرعي”.
وقد تسبب ذلك بمعاناة كبيرة للأسر الكردية التي رُفِضت طلباتها. وبما أن الرفض طال الأغلبية، فإن الموقف كان يشي بتصعيد قد يخرج عن السيطرة. وإحصائيات وزارة الداخلية وحدها دليل كاف على سياسة الحكومة البريطانية الجديدة لكبح أعداد اللاجئين على أساس [توافق الآراء].
الوحدة الكردية: تهديد للمصالح الغربية في الشرق الأوسط؟
منذ حرب الخليج لعام 1991 والولايات المتحدة تدعم بشكل علني أكراد العراق على أسس إنسانية وتسميهم بــ “الأكراد الطيبين”. أما أكراد إيران فقد تم إهمالهم وأكراد تركيا يوسمون بـ “الإرهابين” ويُشبّهون بالجيش الجمهوري الإيرلندي بقيادة جيفري آرتشر. “حمت” الطلعات الجوية للحلفاء فوق شمالي العراق بشكل ريائي أكراد العراق ولكنها كانت توقف مهامها الاستطلاعية كلما حذّرتهم تركيا من عملية وشيكة عبر الحدود لملاحقة المتمردين الأكراد في تركيا. الحضور الدائم للتحالف في شمالي العراق مكّنت الحلفاء من الوصول إلى الاستخبارات الإقليمية والتي كان لتركيا كامل الحق في الاطلاع عليها، كما سبقت الإشارة. استُخدِمت تلك المعلومات الاستخباراتية من أجل تحديد أهداف أكراد تركيا وقصفها بالقنابل من قبل تركيا.
في الوقت الذي لعبت فيه تركيا دوراً بارزاً في شؤون شمالي العراق بعد 1991، فإن سياستها تجاه أكراد العراق كانت إحدى الأسباب الرئيسية في نشوب القتال بين (حدك) و (أوك) لأول مرة في نيسان/ إبريل 1994. أعطى القتال الكردي المبرر الذي كانت تركيا تسعى وراءه لغزو شمالي العراق في آذار 1995 إضافة إلى تقديم مزيد من الأسباب لحلفائها الغربيين في عدم الاعتراف بالطموحات الكردية ومنحهم سلطة سياسية كاملة في المنطقة.
لقد أضعفت المناوشات الداخلية الإدارة الكردية وحرمت البرلمان الكردي الفدرالي من أية سلطة. إن حالة الشقاق، التي تجلت ليس فقط بين الأحزاب الكردية العراقية بل أيضاً بين الأحزاب الكردية الأخرى في إيران وتركيا والتي تم استغلالها من قبل الدول المجاورة والحكومات الغربية أيضاً التي بقيت معارضة، من حيث المبدأ، لأي نوع من الاستقلال الكردي.
إن الأمل الوحيد لإنقاذ “كردستان الحرة” -التي مات من أجلها الكثير من المدنيين أثناء الانتفاضة- يكمن في التفاوض على تسوية سياسية دائمة بينهم. هذا ما يدركه ويعترف به الأكراد في كل مكان؛ حيث كانت كلمة Yekîtî (الوحدة) على لسان الناس جميعاً في كل مكان حتى وإن كانت أيدي الأحزاب الكردية في كردستان الجنوبية قد تلطخت بدماء بعضها بعضاً.
كانت الحكومات الغربية مشمئزة من رؤية الحركة الإسلامية أو PKK ذو الاتجاه الماركسي يصبحان أكثر قوة في كردستان، فاستمرت في تقديم الدعم لـ (حدك) و (أوك) بينما هي تضيق الخناق على PKK في تركيا وكردستان وأوربا. لم تقدم الحركة الإسلامية الراديكالية ولا PKK، ذو النفوذ القوي في كردستان الشمالية والجنوبية، وعوداً بتوفير الأمن للمصالح الغربية في الشرق الأوسط. إن تلك الأحزاب خارج إطار نطاق السيطرة الغربية.
قدّم رجال الدولة في الغرب شحنات الأسلحة للشرق الأوسط كـ “طريقة جيدة في الحفاظ على الأعمال في الوطن” لأن الاقتصادات الغربية تعتمد بشكل متزايد على التصنيع والمعدات العسكرية. وحقوق الإنسان تأتي في المرتبة الثانية بعد التجارة. ولكن كونهم أكبر شعب في العالم ليس لديه دولة، فإنه ليس لدى الأكراد ضمانة واحدة تكفل لهم حق الوجود ناهيك عن أي حق يضمن لهم أمنهم القومي والاقتصادي أو تسليح أنفسهم. إن دول العالم تبرر كافة الأعمال العسكرية الأجنبية الطائشة والتحالفات السياسية والقمع الداخلي الوحشي في أوطانها من أجل “الأمن القومي” والحماية الاقتصادية لتحقيق الهدف ذاته. وحتى حق الأكراد في الدفاع عن أنفسهم على ترابهم لم يتم الاعتراف به أبداً. كم من الوقت يلزم [المجتمع الدولي] حتى يدرك أن محنة الأكراد لا يمكن حلها بالتهديد وفوهة البنادق؟
ثورة كردية: MED TV
في أعقاب افتتاح برلمان كردستان في المنفى في لاهاي، تم افتتاح قناة MED TV (وهو اختصار من ميديا – حيث يُعتقد أن الميديين هم أجداد الكرد) رسميا في أيار/ مايو 1995 كأول محطة فضائية تلفزيونية دولية ناطقة باللغة الكردية بموجب ترخيص من مجلس التلفزيون المستقل البريطاني.
سببت الأيام الأولى من البث باللغة الكردية صخباً في تركيا لأن حظر الحكومة التركية على اللغة الكردية قد تم خرقه بين ليلة وضحاها. ذهب آلاف الأكراد المبتهجين في أوربا والشرق الأوسط وشمالي أفريقيا إلى بيوتهم من أجل الاستماع إلى أول برنامج خاص لمدة ست ساعات على MED TVفي 20 نيسان 1995.
أدانت الحكومة التركية الحكومة البريطانية وقدمت احتجاجات “على أعلى المستويات” (ديلي تلغراف، 24 أيار/ مايو 1995) لأنها منحت الرخصة لـ MED TVوأدانت من يقفون وراء الكواليس واصفة إياهم بـانفصاليي PKK. في الوقت ذاته قامت الشرطة التركية بمهاجمة المنازل والمقاهي وصادرت أو كسرت الأطباق الفضائية في أي مكان في المناطق الكردية في محاولة يائسة منها للبقاء على الرقابة التي فرضتها على الحديث عن القضية الكردية. ولكن لأول مرة كان الكرد قادرون على التكلم بشكل علني مع الجمهور الدولي متحررين كما يظهر من التهديد بالسجن والإعدام التي جُوبهت بها المحاولات السابقة لمناقشة [القضية الكردية] بشكل علني.
بدءاً من أواسط أيار/ مايو فصاعداً بدأت المحطة بالبث يومياً لمدة ثلاث ساعات بين الرابعة والسابعة حيث تبدأ بأفلام كرتون للأطفال تمت دبلجتها إلى اللغة الكردية لتذهب إلى الأخبار القومية والبرنامج الثقافية والحوارية والمسابقات والمناقشات السياسية بموجب شروط الترخيص الممنوع. من شهر تشرين الأول/ أكتوبر فصاعداً تم تمديد ساعات البث إلى ست ساعات.
دلت نوعية البرامج ومهارات التقديم والغرافيك خلال فترة قصيرة من الوقت على تطور جديد حيث قامت MED TV بتوظيف من هو الأفضل للدفع بها قدماً. أما تأثير ذلك على الجماهير الكردية في كردستان وأوربا فقد كان كبيراً للغاية. لقد كُشف النقاب فجأة عن مواضيع كانت محظورة، حتى تلك اللحظة، ويمكن مناقشتها بعمق الآن: مواقف الكرد ومستقبلهم المتوقع والحرب في كردستان والنزاع الداخلي الذي يمتد لأكثر من ثلاثمائة سنة وقضايا لطالما استغلتها وسائل الإعلام التركية ووسائل قومية أخرى باتت كلها تناقش علناً.
لقد عرف أحمدي خاني، الذي ربما يكون أكثر الكتاب الكرد الكلاسيكيين تثقيفاً ومهارة، والذي يُعرف بملحمته الكردية “مم و زين” (وهي تراجيديا على شاكلة روميو وجولييت) منذ ثلاثمائة سنة خلت أن محنة الكرد تكمن في الانقسام السياسي الداخلي. لقد كان أول تقسيم لكردستان بين الإمبراطورية الفارسية الصفوية والإمبراطورية العثمانية قد حدث قبل مولده بأحد عشر عاماً. من هنا ترعرع خاني بوعي شديد لآثار ذلك التقسيم. لقد تجلى الشوق إلى حق تقرير المصير الكردي بشكل بارز في عمله، رغم أن ذلك يعتبر حدثاً بارزاً لأن معظم الشعوب في المنطقة كانت منهمكة في الصراعات الدينية ولديها القليل من الوعي القومي. إن المقطع التالي المقتبس من أشعار أحمد خاني مهم للغاية لأنها تشير إلى واحدة من القضايا الرئيسية في المحنة الكردية ألا وهي كيف تحتفظ باحترامك ومقامك الرفيع وتحافظ على إرثك القومي بينما العالم الخارجي يبذل قصارى جهده كي يمنعك من فعل ذلك؟
لقد تم تقديم رؤية خاني في نهاية هذا الفصل وهي تمثل صوت الكرد عبر التاريخ. يقدّر الشاعر الوضع المعقد الذي تواجهه القبائل الكردية التي يبدو مقدّراً عليها أن تجد نفسها تعيش في هذه المنطقة الجغرافية الصعبة من العالم. على فكرة، قامت الحكومة التركية على الفور بحظر القصيدة عندما صدرت ترجمتها التركية من قبل الباحث الكردي محمد أمين بوزأرسلان في أواخر 1968.
مقتطفات من محنتنا
وكأن الأكراد أقفال الثغور
وكل طائفة [قبيلة] منهم سد راسخ
كلما تتلاطم أمواج بحر الروم[12] وبحر العرب وتصطخب،
يتلطخ الأكراد بالدماء لأنهم كالبرزخ يفصلون بين الفريقين
المروءة والهمة والسخاء، الرجولة والغيرة والصلابة
سمات للشعب الكردي الذي ذاع صيته بسيف الهمة
وبقدر ما هم ذوو شجاعة وحمية، فهم نفورون من المنة
وهذه الحمية وعلو الهمة، هي التي أصبحت مانعاً لتحمل أعباء المنة
لذلك فهم أشتات متفرقون، دائمو العصيان والشقاق
لو كان لنا اتفاق، وكنا منقادين جميعاً [وراء راية واحدة أو قائد واحد]
لدخل في طاعتنا الروم والعجم والعرب برمتهم
كنا سنحصّل الدين والدولة والعلم والحكمة
كان الغث سيُعرف من السمين ويمتاز أصحاب الكمالات عن غيرهم.
أحمد خاني (1651-1707)[13]
×××
* فصل من كتاب بعنوان «شهداء، وطنيون وخونة، الكرد بعد حرب الخليج» للمؤلفة البريطانية شيري ليزر.
[1]. هذه الاحصائيات قبل اندلاع الحرب السورية حيث هاجرت مئات الأسر الكردية من سوريا إلى سويسرا وألمانيا والدنمارك. (المترجم)
[2]. Jochen Blaschke, ‹Kurdische Germeinschaften in Deutschland und Westeuropa; Ein Uberblick unber ihre soziale und kulturelle Situation in R.Schneider (ed.) Kurden Im Exil: […]
[3]. Kon-Kurd (اتحاد الجمعيات الكردية في أوربا) البرنامج السياسي نحو العام 2000 ص10
[4]. J. Van Loon, Kooerden in Den Haag, In de Marges van heet Migrantenbeleid, Den Haag, RCB, 1992
[5]. Martin van Bruinessen, R.K. Koopmans, W. Smit and I…van Velzen (eds), Turkiye in Crissis, ein Sociale, Politieke eneconomische analyse, Bussum, het Wereldvenster, 1982
[6]. Defend the Kurds: Defend Human and Civil Rights in Britain and Europe, published by Defend the Kurds Campaign, London, 26 April, 1995, P16
[7]. KHPR (London)/Medico Internaltional (Frankfurt), Final Resolution. International Conference on North West Kurdistan (South-east Turkey) 12-13 March, 1994, Brussels
[8]. ثمة فرق واضح بين مؤيدي PKK والمتعاونين مع الحكومة التركية مثلا كما في حالة حراس القرى (وهي ميليشيا تابعة للدولة) تقوم الدولة بدفع [رواتب] لها مقابل حمل السلاح ضد «المتمردين». يبلغ عدد حراس القرى إلى نحو 50,000 (انظر سردار جللك في قائمة المراجع) وهي نسبة قليلة من عدد السكان الأكراد الإجمالي في تركيا الذي يقدّر بـ 15 مليون.
[9]. Brooke,› The Turkish Armed Forces› Kurdistan Report, June/July 1994 quoting NATO›s Sixteen Nations Special; Defence in Turkey, Bonn, 1992, Turkey Briefing (CAAT, 1990 and 1992) Pax Christi International, Security and Disarmament –The Turkey Connection: Military Build-up of a New Regional Power, Brussels, 1993; RUSI Journal (June, 1993) Jane›s Defence Weekly, 14 August 1993, International Institute of Strategic Studies, The Military Balance 1992-1993 and 1993-1994
[10]. CARDRI News, March 1995
[11]. انظر المقالة كاملة لستيفن لونغ
Stephen Long ‹M15, Special Branch and the Criminalisation of Kurds in Britain› Kurdistan Report, Jan/Feb. 1995 pp28-30
[12]. (حاشية المترجم) آثرت الترجمة المباشرة من الكردية عن ديوان مم وزين تأليف أحمد خاني، تحقيق وترجمة جان دوست الطبعة الأولى 1995
[13]. أحمد خاني، مقطع من محنتنا مترجمة إلى الإنكليزية من الترجمة التركية عن الكردية القديمة محمد أمين بوزأرسلان 1968. تواريخ حياة أحمد خاني قام بتزويدها فلات دلكش، باحث ومدير سابق لمركز ميزوبوتاميا الثقافي، استانبول.