مجلة الحوار – العدد /80/ – السنة 29- 2023م
سوريا – عامودا
كانت الحافلة على تخوم العاصمة، عندما بدا له، وقت صلاة الفجر قد حان، تهذّب في جلسته، واستوى فاستقام ظهره، تاركاً مسند الكرسيّ مقيماً، أدّى صلاته جالسًا، وعندما أنهى خشوعه، وسلّم على حفظة الله في صلاته، اعترته – و صَّقبه الشاب في الكرسي المزدوج – ضحكة خافتة، حين ردّ الآخر عليه مقهقهاً «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته» ظنّاً منه، أنّ العجوز كان يعنيه بالسلام، حينها هزّ العجوز رأسه مردّداً: «صلاة المسافر لا تُستقبل فيها القبلة» فتمعّن في وجه الشابّ الصامت، ثمّ أخرج من جيبه قصاصة ورق، وناوله إياها..
ردّ الشابُّ بعد النظر فيها: هذا عنوان ولدكم في القطعة العسكرية…
أجاب الشيخ موكداً كلامه بإيماءة من رأسه، وأضاف مستفسّراً: لكن كيف سأصل إليه؟
عندما توقفت الحافلة في الكراج الكبير لتلك المدينة الصاخبة، التي يعرف عنها أموراً كثيرة، وهو الذي لم يزرها سابقاً، فكونه، ولأنه الابن الذكر الوحيد لوالديه، فقد أعفي من الخدمة الإلزامية، كذلك لم يرافق والده منذ أعوام كثيرة، خلت… حينما رافقه أحد أبناء أعمامه؛ لعلاجه من مرض أودى بحياته في طريق العودة، في تلك اللحظة، قرأ الفاتحة على روح والده المرحوم، وهو يخطو مع الشاب، الذي يوصله إلى سيارات الأجرة، الخاصة بنقل الركاب إلى محافظة السويداء.
هذه هي مدينة دمشق التي سمع عنها الكثير، عن مطارها الدولي، وعن نهر بردى ذي الفروع السبعة، وعن جامعها الأمويّ الكبير، عن ضريح صلاح الدين الأيوبي، وعن أبوابها السبع القديمة، عن حارة الأكراد، وعن سوق الحميدية، وعن قصر الشعب، الذي أسرّ إلى صحبه في قريتهم البعيدة، والسارحة الآن في سهول الجزيرة؛ بأنه سيقضي لياليه في قصر الشّعب، ظناً منه أن قصر الشعب مثل بيت المختار، أو بيت كبير العائلة، يأويه كلُّ عابر سبيل..
أفاق من تيه صوره على وقع كلام الشاب، الذي أشار نحو حافلة بيضاء اللون: هذه الحافلة ستقلك إلى محافظة السويداء، وأشار إلى السائق، أن ينزل العجوز حسب العنوان المدوّن على قصاصة الورق، ثمّ ودّعه باللغة الكردية، التي استرعت انتباه السائق، فبادرهم بابتسامة، وإيماءة من رأسه موافقاً.
على مفرق طريق ترابيٍّ، تكسو جانبيه شجيراتٌ صغيرة، وسُيّج بحجارة سوداء كبيرة، نزل العجوز من الحافلة، حاملاً حقيبة يدوية صغيرة، وكرتوناً يحوي علباً من الجبن البلدي، وكيساً صغيراً للبرغل، وبعض الحلوة (الكليجة) المحضّرة في التنّور..
أسند متاعه إلى براميلَ ملونةٍ بألوان العلم الوطني، وسأل الحارس، الذي استقبله في مدخل الباب المزوّد بحاجز حديديٍّ؛ يمنعُ مرور السّيارات، إلاّ حينما يُرفَعُ أحدُ جانبيه: كيف لي أن ألتقي بولدي المجنّد؟ وناوله قصاصة الورقة المدوّن عليها الاسم، والرّقم العسكري، ورقم الكتيبة، والسريّة، التقطها الحارس، وهو يدعوه أن يستريح، ريثما يستفسر من مسؤول نقطة البوّابة، أطلّ المساعد برأسه من الكوّة الضيّقة، وعاين العجوزَ من بعيدٍ، ثم خرج إليه، وهو يردّد: للأسف يا عمّي لن يكون بمقدوركم رؤية ولدكم، فهو الآن في مشروع تدريبيّ، والزيارات ممنوعة!
قال الشيخ باستغراب: لم يأتِ في إجازة منذ عشرة أشهر، وأنا ما قطعت هذه المسافة كلها؛ لأعود دون أن أراه…
بقي المساعد ذو القامة القصيرة، بلباسه العسكري المفتوح الأزرار صامتاً، وعيناه على الكرتون المركون جانب البرميل، فأضاف الشيخ مستاءً: وهذه المؤونة، التي أتيت بها، لمن أعطيها؟
بإمكاننا إيصالها لولدكم يا شيخ… قال المساعد، وهو يحمل كرتون المؤونة، كمن يُخمّن ثقلها لمعرفة محتواها…
الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله…
حمل الشيخ حقيبته الصغيرة، فاستدار عائداً، ينتظر مرور سيارة ما، تعيده إلى العاصمة، ساعات الظهيرة مرّت، وهو يتابع حركة السّحالي الرّمادية بين الحجارة، وعندما تساوى في ناظريه طولُ الأشياء وظلّها؛ استقبل القبلة وصلّى العصر، وهو يشعر بأن الجوع قد نال منه، لم يكد ينهي صلاته، حتى ظهرت له حافلة تتجه نحوه، صعد الحافلة بصمت، وهو يفكر بما سيقوله لزوجته غداً، حينما نزل في مركز المدينة كانت الشمس قد غابت، إلا أن العاصمة لم تكن تنام، ولا ينطفئُ لها سراج، ولا يخفتُ لها صوت… تناول وجبة على عجل، ثم ركب سيارة صفراء، وطلب إلى السائق أن يأخذه إلى قصر الشعب، عندما سمع السائق كلام الشيخ، وهو يقول «أوصلني الى قصر الشعب» التفت كالملسوع، وسأل مستفسراً باستغراب: إلى أين قلتم؟! إلى قصر الشعب يا عم؟!
نعم إلى قصر الشعب، أجاب الشيخ، مؤكداً.
قاد السائق السيارة بريبة، وهو يلتفت كل حين إلى الشيخ العجوز ذي اللّحية الشعثاء، ويتمعن في هيئته بتلك الملابس الريفية البسيطة، وفي أسفل طريقٍ يصعد إلى تلة عالية، أوقف السائق السيارة، وقال للشيخ: من هنا ستكمل الطريق مشياً، حتى ذاك الحاجز العسكري، حيث ترتفع أعلام الجمهورية.
ناول الشيخُ السّائقَ أجرته، وصعد الطريق إلى حيث الحاجز… حينما اقترب كثيراً سار إليه أحد العساكر في خطاً عجولة، وبادره السؤال: إلى أين أنت ذاهب يا عم؟ إلى أين تتجه؟
إلى قصر الشّعب، أجاب الشيخ، وهو يلتقط أنفاسه..
العسكري باستغراب: إلى قصر الشعب؟!
نعم، نعم، إلى قصر الشعب، أجاب الشيخ، مؤكداً كلامه.
اعترض العسكري طريقه، وهو يوضّح: لا يجوز لك الصّعود إلى القصر، هذا ممنوع يا عم، ممنوع، وليس بإمكاننا السّماح لك بتجاوز هذا الحاجز شبراً واحداً فقط…
اعترض الشيخ، وهو يقول رافعاً صوته: كيف تمنعني؟ والقصر لنا، نحن الشّعب، هذا قصرنا… قصر الشعب.
وعلى أثر سماع العساكر لهذا الكلام، تجمّعوا حول الشيخ، يريدون إفهامه، أنه لا يجوز له الصعود إلى القصر مطلقاً، لكن الشيخ أبى الابتعاد، وعندما أعيته الحيلة، رفع رأسه نحو القصر المطلّ على العاصمة، وردّد بضعَ كلمات باللغة الكرديّة؛ ما أغضب أحد العساكر، وسحب الشيخ من كتفه، وهو ينزل به نحو أسفل الطريق، ثم قال بغضب: تبتعد من هنا، ولا تلتفت وراءك أبداً.
لم ينبس الشيخُ بكلمةٍ واحدة، وسار لا يَلْوي على أحد، حتى لاحظ، أنه قد بلغ التجمعات السكنية، ومن هناك استقل سيارة، يريد مركز المدينة، وفي تلك اللحظة استرعى انتباهه، أنه لا يحمل حقيبته، متذكراً بأنه، قد نسيها في السيارة، التي أقلته إلى القصر، نزل عند الجامع الأمويّ، يريد قضاء ليلته فيه، لكنه تفاجأ بأبوابه الموصدة… كان الليل في هزيعه الأول، وهو يجوب شوارع العاصمة، التي لا تهدأ، أراد النوم في أحد الفنادق، إلا أنه ألغى الفكرة، وتوجه فوراً إلى الكراج الكبير؛ ليقضي ليلته هناك، ريثما يحين موعد الرّحلة التي ستقله إلى قريته البعيدة.
OOOO