قصة
مجلة الحوار – العدد /79/ – السنة /29/ – 2022م
“لوحة للفنانة التشكيلية شيرين مصطفى”
جموعٌ منَ الأجسادِ تخترقُ الدّخّانَ والرّماد، عواميدُ البيوتِ تستنشقُ رائحةَ الاحتراق، والسّواد يصبح عالماً من الجمودِ المختلطِ بالظّلام. زحفٌ وراءَ الأفقِ يمتدُّ من بعيدٍ، ينظرُ بزمجرةٍ منطفئةٍ وراءَ شهيقٍ وزفرةٍ منفعلةٍ، لا يعرفُ الطّريقَ نحوَ التّرابِ الّذي حمى أجدادنا بأوراقٍ من ذهبٍ.
مصيرٌ محتومٌ يهدّدُ رونقَ الصّوتِ المنبعثِ من فسيفساءِ الوجوهِ، وصرير الطّائرات يوقدُ شعلةَ الّلهب الّذي مازالَ يملأ الأفقَ دخّاناً وضباباً منقطع النّظير. لقاءٌ طالَ انتظاره سنواتٍ عديدةٍ… أصواتُ العصافير تملأ الصّباح بالبخور… ليبدأ بالنّظر إلى المرآة ولسان حاله ِ يقول هل أنا جميل؟ … هل ستُعجبُ بي؟ … رائحةُ القهوة تفوحُ المكان بالحنينِ والذّكريات نحو أزقّة الحارةِ القديمة وصياحِ الأولاد.
نشوةُ الّلقاءِ لا تفوقها نشوةٌ، بانتظارٍ الحبّ الضّائع وسطَ الرّكامِ. دروعُ الجسدِ الملتوّي في فضاءٍ مضمحلٍّ تناشدُ قوّة صوتِ الآذانِ في المساجدِ ورنين أجراس الكنائس. جميلةٌ هي بشعرها الغجريّ المتماوج بين سحرِ المقلِ، بنيّة الّلونِ المشتاقةِ لحنين مسترسل فيّ روحٍ بريئةٍ منطفئةِ الشعلةِ.
كان ينتظرها منذُ خمسين سنةٍ وروحهُ مشتاقةٌ إليها، تزور قبرها. في كلِّ مرّةٍ ينظر للمرآةِ سبعُ دقائق ويذهبُ إليها ويمسكُ يداها بخوفٍ، لقد بقيتُ وحيداً أنتظر لقائي بكِ. طال الانتظار وأصابَ الجسد بالأسقام ليبقَ ذكرى جسدٍ تسكنهُ روحٌ شابةٌ تنظر للقاءٍ مشتعلٍ في الأفئدةِ المتراقصةِ على نغماتِ لهيب الحبِّ وصدقِ العاطفةِ كلمعان الشّهبِ في السّماءِ، بقي ساكناً في غرفةٍ مربّعةٍ يتأمّلُ سقفها المهترئ، يشربُ قهوته ببطء ويداه ترتجفان، يرتشفها بصوتٍ غريب، جالساً على سجّادةٍ مزركشةٍ بالورود، متّكئاً على وسادةٍ قرمزيّةٍ وعيناه عالقتان بالسّقفِ، ولسان حاله يقول: أنا مثلك أيّها البيت العتيق، أصبحت هرِماً خائفاً من القبورِ وبردِ التّرابِ الرّطبِ.
نزل الدّرج متّكئاً على عكّازته المهترئة بكلِّ روّية، ينظر إلى حذائه المغبّر، وعيناه الغائرتان تشعّ بالحنين والحبّ. جلسَ على الكرسيّ الخشبيّ عند فسحة باب البيتِ يتأمّل الشجرةَ المنحنيةَ المتمايلةَ نحو أشعّة الشّمسِ الباهتة. «حسناً سوف أنهض من جديد».
أسمع خطوات أقدامهم من بعيد، قلبي يخفق ببطء، نعم إنّهم قادمون… انتظرتهم طويلاً… أستنشق سيجارتي وأتلذّذ بطعم الوحدةِ معها. حفيدي طال انتظاري له من وراء الحدود، أنظر إليه من نافذةٍ صغيرةٍ وأتكلّم معه، ألاعبه… نعم إنّه ابني وزوجته وحفيدي الغالي… انتظرتهم سنواتٍ… صوت دقّات البابِ… ارتجلَ من الكرسيّ، مسك عصاه بقوّةٍ وفتح الباب… أقدامه أصبحت ترتجف… جديّ جديّ! وانهال عليه بالقُبلِ والأحضانِ. أبي… هل تسمعني! هل تسمعني؟ للحظةٍ توقّفَ المَشهدُ لينظرَ إلى ابنه… ماذا… اطلبْ روحي أُعطيك… أبي، لقد جئنا لنودّعكَ… تجمّدت دموعُه… ماذا تقول لا أسمعْ!
سوفَ نرحل بالقواربِ إلى بلادِ الأحلامِ لم يعد لنا مكانٌ هنا… لا تقلق يا أبي مجرّد سبعُ دقائقٍ سنصل.
قواربٌ تنمو بسطوع شموسِ الوقت المتباطئ وسطَ أحلامٍ وقصصٍ متناثرةٍ مضت وتبدّدت، لم تعد لها مكاناً بالوجودِ.
قواربٌ وضعت أثقالها في جزيرةِ الأحلامِ، وقصّت الأوراقَ الملوّنةَ لتصنع منها بيوتاً وأجنحةً وصناديق الألوانِ بطفولتها الخائفةِ.
طريقٌ طويلٌ جعلتها الأيّام مسافاتٍ منَ الجمودِ والفضاءِ المترامي وسطَ ركامِ الأجسادِ والرّؤوسِ المتراصّة وراء الحدود تبحثُ عن مصيرٍ مجهولٍ وصوتٍ قاتمٍ.
ضجيجٌ يمّلأُ المكانَ. قصصٌ طويلةٌ وأحاديثٌ كثيرةٌ تلمع في الأذهانِ. ضجيجٌ يمنحُ الخوفَ فرصةً للهروبِ ويجعلها حبيسةَ الأرواحِ المتراصّةِ والملتويةِ.
ضجيجٌ يجعلُ الأفقَ رعباً وبرودةً وسوادً، لكنّه يبقى أفضل من الصّمت. ضجيجٌ سبق العاصفة واضمحلَّ. ليأتي الصّياح من بعيد، جاءت القواربُ… هيّا ادفعوا الآن النّقود… اصطفّوا… النّساء والأطفالُ أوّلاً…
بدأ الصّمت يملأُ المكان، حان الموعد، القوارب تخور من بعيد، تمتلئ بالهواء… إنّها فكرةٌ تجريديّةٌ، قليل من الهواء والبلاستيك سوف يحملنا إلى جزيرةِ الأحلام… ربّما تكون مزيجاً من لا شيء، كالبالون، فقّاعةَ حلمٍ تلوّح من بعيد، ربّما مجرّد خوفٍ سيزول عندما تلامس أصابعُ أقدامنا الأرض… خوفٌ يصبح مجرّد ذكرى مرتعشة… خوفٌ يضمحلّ مع الأرواح المتراقصة المنتظرة قواربَ النّجاةِ… البحر ينادي من بعيد ويجزم بالأمواجِ الهائجةِ لم ترَ عيناه البحر أبداً، إنّه يرتجفُ. طفلٌ صغيرٌ لا يعرف سوى وعاءً صغيراً مملوءاً بالماء، يصنع قارباً ورقيّاً ويراقصه ويغنّي له في الوعاءِ… عيناه ترى ولأوّلِ مرّةٍ عُمقَ وزرقة المياه…. أبي… أبي، هل ستأكلنا الأسماك؟ … أبي… أبي، أين نذهب؟ … عيناه تائهتان… شاردتان… أبي… أبي… لا يسمع سوى صوتَ الموجِ والخوفِ.
لحظةُ صمتٍ مُطبق ملأَ الأنفاس الّلاهثة والمختنقة… لحظةٌ… فيها صورٌ وذكريات ملأتْ القلوبَ بحفنةٍ من تراب الأماكن… لحظةٌ… تلفظُ الأنفاسَ الأخيرة للرّحيل بلا عودة.
جلسوا جميعهم وعيونهم متجمّدة وأفواههم مزمومة، يتزاحمون على مكانٍ صغيرٍ فوقَ فقّاعةَ هواءٍ على موجٍ مترامٍ هائج… نعم لقد بدأت تلك الأمواج تتراقص حولنا هبوطاً وارتفاعاً… الجميع ينادي نحن وسطَ البحر، سنصل قريباً… نظرَ الطفلُ المسكين حوله، إنّه ليس مكاننا يا أبي… نظر إلى قدميه، مياه البحر تغمرُ جسده الصّغير، تلك المياه كانت تلعب معه لعبةَ الوعاء… تدريجيّاً ملأت المياه فقّاعةَ البالون ليصبح الغرقُ وشيكاً… الجميع يلفظُ كلماته ببطء، الفقّاعة تغرق، هيّا اسبحوا نحو الجزيرة… الطّفل… أبي… أبي… أين أنت، لا تتركني، إننّي أغرق في الوعاء… البحرُ يعشقُ جسدَ ذلك الطّفل، غمره بكلِّ لطفٍ، حمله على أمواجه بكلِّ حبٍّ، حضنه نحو أعماقهِ… لا تخف يا طفلي أنت لي، لقد تركوك وحيداً لا تخف… التّنفّس أصبح معدوماً والقلب أصبح يدقّ فقط كلَّ دقيقةٍ مرّة، بدأت الرّوح تناجي الجسد… لقد تركتُك، سأطير نحو السّماء، ستبقى وحيداً هناك في قاعِ الوعاءِ… لا تقلق جزيرتك تنتظرك هناك…
بقيَ العجوز قابعاً عند الباب ينتظر لقاءً آخر من نوع آخر، لترشد مصائبُ النفوس القلقة إلى مصيرها المتزامن مع صروح البقاء الضّائعةِ وسط الرّغبات والانفعالات.
شريعةُ الإنسانِ يصنعها خالقها، أمّا شريعةُ الخوف يبتدعها أرواحٌ مقهورةٌ تزور مقابرها في كلِّ جزءٍ من الانفعالات والزّمكان الملامسِ لفضاءاتٍ متمرّدةٍ نحو ظلمٍ إنسانيٍّ لا يعرفُ خطوط الّلانهاية وراء أفقٍ متهاوٍ، وطرقٍ وممرّاتٍ يختنق فيها الأمل ليشقّ طريقه إلى مثواه الأخير.
قارعةُ الطّريقِ المزدحم بأصواتِ الأرواحِ المبعثرة تبحث عن طيورها المهاجرة نحو قلبٍ ابتعد عن الرّوح ودفع ثمنها باهظاً ليبقَ وحيداً قابعاً في غرفة مربّعة ذو جدران حديديّة وسقفٌ غزته غيومٌ سوداء مكفهرّة تبحث عنّ مصير إنسانٍ بلغَ الخوفُ فيّه صوتاً خفيّاً ووجهاً مجعّداً بابتساماتِ الكذبِ وروائح العفن المنتشرِ تحت الطّينِ المبلولِ.
صنّاعُ السّعادةِ يبشّرون بالأملِ القريبِ وراءَ مصائب الكون المتتالية لينفصل الرّوح عنِّ البشرِ مختبئاً وراءَ الأحلام… صنّاعُ السّعادةِ ينتظرون سبعَ دقائقٍ ويرسمون لوحاتٍ بألوانٍ على الصّقيعِ المتراكم في أرواحٍ تجرّدت من أجسادها لتبقَ وحيدةً هناك على صخرةٍ جانبَ أمواج البحر الهائج.