مجموعة من العوامل والمؤثرات على الساحة الدولية وكذلك جملة من التراكمات الداخلية تفاعلت لإزاحة أوربا نسبياً عن موقعها الجيوتاريخي، وبالتالي عن صدارة المشهد العالمي. لدرجة أن بات الدور الأوربي موضوع تقييم وشك، خاصة في القدرة على أداء وظيفته الريادية المركزية، كما كان طوال القرون والعهود الماضية. حدثت هذه الإزاحة في سياق إعادة تموضع وتمركز القوة والسلطة والرأسمال، فضلاً عن تقنية انتاج السلاح على أطراف الساحة الدولية. فأوربا كانت ومنذ القرن السادس عشر مركزاً للفكر والعلم، للطباعة والأهم للصناعة.
عملية التقييم هذه تنبثق بصيغة ما عن الحدث الأوربي الراهن الأبرز، أي الغزو الروسي لأوكرانيا، وبالتالي سعي روسيا لتحطيم جدار السلم الاعتباري بينها وبين دول الغرب الرأسمالي. فالحرب الروسية الأوكرانية أفصحت بيسر عن أنها حرب بين ما تبقى من النظام الشرقي المتبلور خارج سياقات المنظومة الليبرالية الأوربية بقيادة روسيا والنظام الأوروأمريكي المركزي الذي وصل إلى ذروة قوته المعنوية والعسكرية إبّان انهيار النظام السوفيتي (المعسكر الاشتراكي) مطلع تسعينيات القرن العشرين. فالارتداد الروسي العسكري هو أيضاً صيغة من صيغ الرفض لحالة الركون والستاتيكية التي صبغت علاقة الشرق الناهض (الصين – روسيا) مع الغرب المهيمن المستظلّ بمظلّة حلف شمال الأطلسي (ناتو) أو بالتحالف المدني – السياسي بين الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية.
يمكن مقاربة توصيف الحالة المتولّدة في الأشهر الأخيرة بخلاصات ومقدمات نظرية بسيطة، تكمن في حقيقة أن كل المعطيات والمؤشرات على الساحة الدولية قد تغيرت تماماً في الثلاثين السنة الأخيرة التي تلت تفكك النظام الشيوعي في روسيا وانفكاك عرى دول أوربا الشرقية من حولها. ولم يكن التغيير نصيب هذه المنظومة التي توزعت على الليبرالية وأنظمة حكم برلمانية شبه ديمقراطية، بل أوربا نفسها قد تغيرت اقتصادياً وتكنولوجياً وفكرياً، فقد تصاعدت تيارات الاشتراكيين الديمقراطيين والخضر، وانشغلت مجتمعات أوربا بتفاصيل ترفيهية عالية النخبوية. بالتوازي مع ذلك ازداد الشرق تنظيماً وسكاناً وسلاحاً وتماسكاً داخلياً، خاصةً الصين الصخرة الكبيرة الساندة للنهوض الروسي الجديد.
من هذه المقدمات والاختلالات يستنتج ولادة اضطرابات، لقد انسحبت بريطانيا من الاتحاد الأوربي، وأهانت إدارة ترامب الأوربيين في جزئية حمايتهم من القوة الروسية، كما ظلّت ألمانيا منشغلة باقتصادها… هذه العوامل والكثير غيرها تفتح أبواب التغيير والصدام، في الوقت الذي كنا نعتقد بأن أوربا قد طوت صفحة الحروب والصراعات إلى الأبد، ربما توهّم الكثير منّا بهذا الافتراض، لكن القارّة والمجتمع الذي فجّر حروب عديدة كان آخرها الحربين العالميتين بضحاياها الذين تجاوزوا أربعين مليون قتيل ومعوق، ورثتها مجتمعات أوربا اليوم. للأوربيين أيضاً دولهم العميقة، منظوماتهم الأمنية والعسكرية، مصالحهم الاقتصادية، تناقضاتهم الداخلية والخارجية، وبالتالي استعدادهم وقابليتهم على خوض الحرب.
الشرارة الأوكرانية، شكّلت صدمة لتستفيق أوربا على واقعها الجديد، قارّة قد تراجعت ديمغرافياً وعسكرياً وباتت تستند على دعم دولةٍ عسكرية كبرى كأمريكا، ودولةٍ أخرى هي من تراث الماضي الإسلامي الاستبدادي المناهض تاريخياً لأوربا، أي تركيا. وهنا أيضا يكمن جانب من المأزق الأوربي.
أوربا الحائرة:
اكتشفت أوربا ربما ليس فجأةً وإنما بصيغةٍ صادمةٍ أنّ مركزيتها ودورها التاريخي الريادي على المحك، وربما بات من الماضي المجيد. لذلك ستعمل للمحافظة على أمنها وسلم مجتمعاتها الداخلي في المقام الأول، فالمعارك تدور بالقرب من شوارع أوربا الوسطى وحتى الغربية، وأوكرانيا ليست مجرّد حدث عابر، ولا خطأ في حسابات دولة، أو مجرد نزوة لرئيس يفكر بأمجاد القيصرية. الحرب الأوكرانية كانت تعبير عن نهاية منظومة توزان وتفاهم سياسي على الصعيد الدولي، بداية لتفعيل مرحلة جديدة، سواءً من الصراعات أو التفاهمات، وصولاً إلى ضرورة صياغة نظام عالمي سياسي وقانوني جديد.
تحرّكت قيادات أوربية لتطويق الحرب الأوكرانية ولمواجهة تمدد روسيا، وللتأكيد للحليف الأمريكي وحتى البريطاني بأنه لدى أوربا من القوة والوحدة والإرادة ما يؤهلها أن تبقى صاحبة المبادرة والدور المركزي. لذلك عقد اجتماع مهم في كييف عاصمة أوكرانيا، بين كل من المستشار الألماني أولف شولتس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراجي، وكذلك الرئيس الروماني كلاوس يوهانيس يوم 16 حزيران الماضي. دلالة الاجتماع كانت واضحة ومتعددة الجوانب: قد أشارت شكلاً إلى أجواء الحرب، حيث لا استقبال ولا مراسم ولا سجاد أحمر في المطارات. كم شكّلت خطوة سياسية أولى منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في أواخر شباط 2022، خطوةً أوربية جماعية متأخرة نسبياً، إلاّ أنّها خطوة جادة للتضامن السياسي الميداني مع أوكرانيا، ومحاولة انقاذها ولو جزئياً من بين أذرع النمر الروسي بوتين. وهذا ما تبين من مؤتمرهم الصحفي إذ لم يبدو أي من الرؤساء متفائلاً أو حتى متوعداً حازماً في التعامل مع الانعطافة الكبرى التي تتجه نحوها أوربا. لدرجة أن عبر عن ذلك المناخ المتشائم الرئيس الأوكراني ملخصاً المشهد: ليس هنالك زعيم أوربي قادر أن يوقف بوتين عند حده. وفي اليوم التالي لم تضيف زيارة رئيس وزراء بريطانيا جونسون أي جديد، سوى تشجيع المقاومة الأوكرانية ضد روسيا. وحتى اجتماع الناتو الأخير في مدريد لم يكن ذات وزن عملي إلاّ من زاوية تحديد العدو بدقة.
يمكن تلخيص وتكثيف الرأي بأنّ الحرب التي تجري على أرض أوربا وتتعرض أحد أكبر دولها مساحةً للقضم والضم وإعادة التشكيل على يد قوة عسكرية ودولة آسيوية وشبه أوربية هي روسيا ستؤثر على كل أوربا، وعندما تؤثر أي ظاهرة سياسية أو عسكرية أو حتى فكرية على أوربا فبالضرورة سيتأثر العلم كله بها، وسيترجم عملياً كتغيير عميق في البنى والنظم السياسية على الصعيد الدولي.
لذلك نفترض أنّ دور أوربا المركزي منذ معاهدة ويستفاليا سنة 1648م وحتى الحرب العالمية الأولى قد بدأ في الانتهاء، بمعنى قدرتها على التجديد والريادة منذ القرون الوسطى، والتأسيس للدول القومية والتأثير على العالم وصياغته مطلع القرن العشرين.
أوربا ليست موحّدة تماماً في الموقف من كيفية مواجهة روسيا، لكن أغلب نخبها وقادتها أدركوا اليوم بصيغ متفاوتة أنهم أمام جار قوي وجديد، جديد بمسعاه الانقلابي، إذ لم تعد روسيا حجراً ثقيلاً وبارداً في توازن القوى العالمية، وإنما صخرة ملتهبة تتدرج وقد تحرق وتهدم الكثير من بنيان النظام الأوربي فالعالمي.
تبدو أوربا وكأنها لم تقرأ المشهد المعقّد بدقة، لذلك تبدو حائرة وخائفة، فهي على مفترق طرق صعبة. لقد تركتها بريطانيا وأدارت ظهرها، حتى أغلقت الحدود في وجه المواطن الأوربي إلاّ بالفيزا… وأمريكا طبخت (الطبخة – اللعبة)، وقد يَسرُّها أن يظل الصراع أوربياً – روسياً لحين استثماره لصالح خططها المستقبلية.
أوربا والعالم أمام عهد جديد، وقد بدأت مرحلة خطرة بالنسبة للمجتمعات الأوربية التي ركنت للسلم والسكينة وحياة الرخاء لعهود طويلة. الساسة الأوربيون محتارون اليوم، فثمة صعوبة في اختيار اتجاه ومسار الحركة؟ لأن كل الخيارات صعبة، العسكرة، أو الاستسلام للإرادة الأمريكية والانضواء التام تحت راية الحلف الأطلسي الذي وصفه ماكرون منذ عدة سنوات بأنها (ميتة سريرياً). الخيار الأصعب السماح لروسيا البوتينية بدعم صامت من الصين التمدد غرباً والتوغل داخل أوربا عن طريق تحقيق النصر عسكرياً.
مهما تكن الخيارات الأوربية فقد انتفضت روسيا في وجه النظام العالمي المهيمن واختارت التوقيت والمكان المناسبين. قالها بوتين بوضوح شديد قبل أيام: «إن زمن الهيمنة ونظام الأحادي القطب قد انتهى». إن ضريبة مواجهة الآلة الحربية الروسية باهظة بالنسبة لأوربا منفردة. واحتمالات الحرب والعسكرة واردة، باقي القرارات والخيارات كلها صعبة، فالمواقف التاريخية صعبة الصياغة، خاصةً في ظل غياب أحزاب جماهيرية وقادة سياسيين كبار.
إن كانت أوربا مصدومة وحائرة فهذه مشكلة، لكنّ المشكلة الأكبر أنّ الرئيس الشاب زيلينسكي الذي مارس الكوميديا والدراما، يتحرك بأدوات غير سياسية، وغير معرفية، وكأنه لم يفهم ولم يستوعب (الجيوبوليتيك التاريخي)، ويفترض أنّ جوهر الصراع ثنائي وعسكري ومن الممكن ردع أو هزيمة روسيا التي أعدّت نفسها ربع قرن لهذا المنعطف والانقلاب التاريخي الكبير. فسواءً كان بوتين مريضاً بالسرطان وعمره الجسدي قصير، أو مختلاً نفسياً ويتقمص شخصية بطرس الأكبر، فقد نفخ في روح القومية الروسية وزعزع النظام العالمي الرتيب تحت قيادة أوربية – أمريكية، وقد لا يكتفي بهذا القدر.
مع افتراض انتهاء أو تراجع دور أوربا المركزي المشكلة تكمن في أنّ مركز العالم المستقبلي لم يعد واضحاً في ظل التخبط الأمريكي، والصمت الصيني المريب.
تظل أزمة أوربا هي أزمة آليات اتخاذ القرار، فالقرار في الدول الأوربية ليست محصورة بيد الرئيس أو زعيم هذا الحزب أو ذاك. بالتالي تفاقم الأزمة قد توحي، حتى للمفكرين والقادة المدنيين من أنصار السلام، أن التسلّح والعسكرة والعودة إلى المصالح الوطنية وحمايتها هي الخيار الذي لا بديل عنه، وعندئذ يكون الطريق إلى الحرب سالكة، وإن لن تتضح الاتجاهات تماماً. وأوربا التي تدخل الحرب ليست هي التي ستخرج منه. وعلى الأرجح بدأ زمن القارّة المريضة، وطويت صفحة القارّة العجوز.
* جريدة الوحـدة – العدد /338/- 05 آب 2022م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).