القسم العاممختارات

إلى هذا العالم …. عربون لعنة*
رواية (بوق) للروائي الليبي محمد الأصفر

محمد دلي

مجلة الحوار – العدد /79/ – السنة /29/ – 2022م

كان الوقت صباحاً وقد رن جرس بيتي تكراراً، استقبلته بحفاوة، وضعَ بين يدي وليدته المسماة (بوق) قائلا: لقد وصلتْ توا!

كأبٍ جاء مبتهجا بلمِ شملِ ابنته بالسلامة، قادمة بعد طول انتظار من تونس، يمعن في ملامحها، يتلمسها، يحتضنها، يفرح بها مع أصدقائه ومنتظريها، طار فرحاً يتراقص في بردِ هذا الشتاء وصمتِه الكوروني، يحتفي بذاك الـ (بوق)، فيما نحن مكفهرون في بيوتنا، ننتظر فرحاً يكسر وجومَنا، يفِرج قليلاً عن أحزاننا ونحن أسرى الخوف من الفيروس اللعين، جاء ببوقه لتحفل بيوت القراء بالموسيقى الراقية نشيد الحياة الأجمل.

كتب على صفحتها الأولى:

وقتا طيباً مع هذه الرواية حيث الحب والحرب والسلام والموسيقى

صديقك محمد الأصفر –       7/1/ 2021

«كتبتُ هذه الرواية عام 2018م، لكنها كانت حاضرة في ذهني منذ عام 2003م عندما زرت صحبة صديقي “عوض الشاعري” المقبرة الألمانية في طبرق وهي مقبرة على شكل قلعة بها قبر جماعي وقد نُقشت على الجدران كل أسماء القتلى…»

نعم كان وقتاً طَيباً مع هذه الرواية التي قمت بقراءتها على ضجر من حال الإبداعات المكتوبة لكتابنا في هذا الزمن الفيسبوكي العَجول، المخلِف وراءه كتباً مستودعة، تعبَ عليها كتابها ومنقحوها ومراجعوها ومدققوها اللغويون وعَمل عليها المنضدون والعاملون في الطباعة والنشر والتوزيع، نقلوها لتُرسل بالبريد أو محمولة على الآلات أو بالآباط والأيادي، لتصل للقراء تُغذي روحهم وتغني حياتهم…

رغم صداقتي مع هذا المبدع لأكثر من سنتين نتشارك اهتمام الثقافة وحالة الغربة وهموم وأخبار الحرب اللعينة في وطنينا ليبيا وسوريا. لكنني لم أقرأ له إلا بعضاً من نتاجاته الكثيرة منها هذه الرواية مع بداية السنة الجديد ة 2021.

كنت أنتظر أن أقرأ ماذا يوجد في علبته (علبة السعادة)، فلم احظَ بها إلا مؤخراً، قرأتها وهي تنتهي باحتفال رأس السنة في مدينة كولونيا (كولن) الألمانية وكرنفال يشارك فيه بشر من مختلف الجنسيات وحدث «شجار كبير خرج عن السيطرة به ضرب حقيقي وصراخ جدي ودماء تسيل… ثمة خدعة قد حدثت… يبدو أنهم عصابة حقيقية اندست في العرض لتقوم بأعمالٍ تخريبية وإرهابية، ها هم خليطٌ هائج من شباب حليقي الرؤوس يرتدون ملابس غامقة… هاجموا جمع العازفين والراقصين من كل الجنسيات»، قبل أن اهديه شيئا، سلمني (دم على مئذنة) و (مخطوط بطرسبرغ1.

فاجأني ذلك اليوم مستهلاً العام الجديد ببوقه المعتق وقد أهداني إياه، لأضعه على منصة القراءة وأحتسي الخيال بعد الخيال سائراً بالقارئ من بون وبرلين إلى طبرق وريف ليبيا وناسها.

يقول الكاتب “محمد الأصفر” عن هذه الرواية: (كتبتُ هذه الرواية عام 2018م، لكنها كانت حاضرة في ذهني منذ عام 2003م عندما زرت صحبة صديقي “عوض الشاعري” المقبرة الألمانية في طبرق وهي مقبرة على شكل قلعة بها قبر جماعي وقد نُقشت على الجدران كل أسماء القتلى).

ويضيف “الأصفر”: (عندما جئت إلى ألمانيا ألحّت عليّ فكرة الكتابة عن الحرب والموسيقى والحب والسلام، الكتابة عن بتهوفن وسيمفونيته التاسعة، وأنشودة النصر لشيلر، وكثير من الأحداث التي دارت في ليبيا وألمانيا في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي).

أخذ بي هذا المبدع الكبير، في القراءة الأولى لهذه الرواية وهي واحدة من أكثر من 15 رواية صدرت له، لأن استعجل الاستمتاع في القراءة الثانية فقاد خيالي إلى ضفة نهر الراين، طالما كنت هناك، قبل الملعونة كورونا، استمع ليس فقط لموسيقى الطنبور والزرنا ولتراقص الأشجار معها هناك، في تنزهات الأصدقاء وجمعية رامان الطلابية الكردية وغيرها … بتُ استمع لبوق ذلك العاشق الألماني مع حبيبته وموسيقاه وصداها يتردد هناك بخيالي في فضاء المكان والزمان.

مضيت بالقراءة كطائر انتشى، يحوم في سماء حبيبين هناك: وضعت كلارا رأسها على فخذِ حبيبها كارل مستمتعة بعزفه الجميل على بوقه الذي أصبح جزءا من جسده، مقرراً الا يفارقه حتى بعد الموت، يصبح جندياً في الجيش الألماني ولتقع الحرب العالمية الثانية فيشارك ضمن الفرقة الموسيقية في الحرب ضد الحلفاء في ليبيا.

هكذا يفترقُ الحبيبان دون أن يتزوجا وتفرقهما أحداثُ الرواية إلى أن تصبح في برلين صديقة لشخص آخر يروي غريزتها الجنسية بعد انقطاع أخبار كارل، فيما يصبح كارل في كهف قديم في ليبيا بعد خسارة الجيش الألماني في الحرب أمام الحلفاء هناك وسقوط أكثر من ستة آلاف قتيلٍ هناك وتمضي الأحداث باستمتاع جميل، تختلط موسيقى الطبيعة بسيمفونية بتهوفن. يشدّ الأصفر الحكاية من قلب المعركة، وتصير الموسيقى سيّدة الموقف، ويتقدّم السّرد ويتأخّر على إيقاعٍ ضاجّ تارةً وساكنٍ تارةً أخرى، وئيدِ وسريع. استقرار اللغة…

تقول ريم غنايم

(يشدّ الأصفر الحكاية من قلب المعركة، وتصير الموسيقى سيّدة الموقف، ويتقدّم السّرد ويتأخّر على إيقاعٍ ضاجّ تارةً وساكنٍ تارةً أخرى، وئيدِ وسريع. استقرار اللغة، هدوؤها، ثباتُ الخيال، بلا تصنّع، بلا تكلّف، دون تحميل الأحداث أكثر ممّا ينبغي، ودون أن ينسلخ جلد الحوار عن عظم سرده.) وتضيف: (في هذا التحليق الذي يحاول الأصفر أن يأخذنا عبره متنقلا بين مدن ألمانية ومدن ليبيّة وباحثًا عن حلقة الوصل الإنسانيّة بين البشر بعيدا عن الحرب، وفي قلب أجوائها.)3

يجول الكاتب بخيال القارئ في البيئة الليبية حيث الطيبة والحياة الفطرية بلغة سلسة تمضي الرواية مع بطلها (كارل) وتنقذه غريزة البقاء متتبعا قطيع الجمال لتنقذه عشيرة ليبية (الحاج مفتاح) وتتبناه ساكنا في كهف ريفي قديم ذي اسم محلي، إلى حيث الطيبة والكرم والنخوة في الريف الليبي، ليعزف الموسيقى ويعلمها لأصدقائه الجدد.

يصبح هذا الألماني داوودا ليبيا، يتعلم اللهجة المحلية هناك ويعزف ببوقه السيمفونيات، لتعشقه الراعية الدرويشة ذات الصرخات والتي قضمت قطعة من انف شاب حاول الإيقاع بها، إنها نفس الراعية التي تصرّح لكارل: “أغنامي وعنزاتي سعيدات بعزفك وضروعهنّ بعد سماع الموسيقى تكاد تتفجّر من وفرة الحليب”4. وتسير الأحداث لتصبح كلارا في طبرق بمهمة إنسانية تبحث عن مترجم وتصادف تاجرا يوصلها الى داوود الليبي في كهفه وهناك يتفاجآن ببعضهما ويعملان معا في فريق واحد لإقامة قبر جماعي يشمل جثث وأشلاء أكثر من ستة آلاف عسكري ألماني قتلوا في الحرب هناك، وتكون المقبرة بشكل بوق ضخم مفتوح الفوهة للأعلى، وفي صيد الغزلان يفلت داوود رضيعيَ غزال ربطهما أصدقاؤه، بعد الإمساك بهما بُعيد ولادتهما وليهرب لفعلته هذه من أصدقائه الصيادين باتجاه حقل ألغام خلفته الحرب، ينفجر به، ينتهي به المطاف عبر الفوهة السماوية مدفونا في تلك المقبرة البوق كجزء منه في حياته ومماته.

دعا إلى عمل لا يقوم به المنتصرون أو المنهزمون بالحرب عادة. بلاغة الصور البيانية والمشاعر تتوالى بين سطور الرواية يعزفها الكاتب بمهارة في هذا البوق، تجعل الأشلاء تجتمع والقتلى يتحدثون ويرون ويسمعون المحتفين بهم في مقبرتهم الجماعية وتحلق أرواحهم في الفضاء، تزور جماعياً أمهاتها في وطنها، ثم تعود إلى مرقدها المشترك في ليبيا وطنها الأبدي الحزين، هكذا دعا إلى عمل لا يقوم به المنتصرون أو المنهزمون بالحرب عادة.

تتوالى تفاصيل الرواية موزعة على عناوين داخلية: ألماني قرب البئر ـ كلارا في طبرق ـ كهف كارل ـ الراعية ـ التاجر المتجول ـ ألغام ـ مفاجأة الترجمة ـ ساعي البريد الظريف ـ المقبرة الألمانية ـ العودة الى الكهف ـ تحت شجرة الخروب ـ بوق ونابين ـ كائنات المقبرة ـ موسيقى من جديد ـ رحلة صيد الغزال ـ لحن أخير لعيني كلارا.

لا يخلو فصل من فصول الرواية الا وكان هذا البوق هو مبتدأ الحكاية وخبرها

يقول Elkbiri Ahmed عن هذه الرواية (لا يخلو فصل من فصول الرواية الا وكان هذا البوق هو مبتدأ الحكاية وخبرها. على مستوى البناء، ستتطور الحكاية بسلاسة وبتقطيع ذكي، يصعب معه على أي قارئ، توقع أفق انتظاره منها… ويضيف: ويمكن أن نخلص، إلى أن الرواية، نوع من العرفان من الشعب الليبي، المتمثل في قبيلة الحاج مفتاح وأهله، للألمان ودولة ألمانيا والعلاقة الجيدة التي ربطت بينهما في الماضي والحاضر، نكاية في الانجليز والطليان. وقد يكون احتضان ألمانيا للاجئين العرب بسبب الحرب، ومنهم الليبين، نوع من الاحساس بالدين، فكان رد الجميل من الكاتب، محمد الأصفر، المقيم هو الآخر بألمانيا، هذا البوق الموسيقي العظيم.)

هذه الرواية الرائعة تمزج في الخيال وتبني في النفس سمو الحب والسلام والموسيقى وتدين الحرب ومرتكبيها.

طرح الكاتب أسلوباً درامياً جديداً لعالم جديد، للعلاقة بين أناس أحياء وأموات، جمعتهم الحرب إلى آماكن فيها أناس بأوطانهم المعرضة للاحتلال، سيقوا إليها وباتوا جزءا منها ومن أهلها دون أن يتخلوا عن أوطانهم. جمع علاقة المرأة بالرجل بين البيئتين الليبية والألمانية بمشترك الحب والموسيقى والموت.

نعم لقد أدان بعض الأبواق دون أن يوردها صريحة في أحداث هذه الرواية، الأبواق التي ينفخ فيها مسببو الكوارث والمآسي للأموات والأحياء، دعاة وفاعلي الحرب وتجارها وناشري الكراهية والعنف والتمييز والحقد.

سرٌ خفي يجذب القارئ ليقف أمام إشكالية دور الموسيقى في الحرب والسلم ومصير الناس بعد الحرب مقتولين وضحايا ومنتصرين.

ويقف مؤلف (بوق) ايضاً عند اشكالية الانتماء لوطن يدفع حكامه (الطغاة) الناس لمحارق الحرب في اوطان محتلة (ليبيا) فتقوم الضحايا بإنقاذ (الجنود) الغرباء ـ المتحاربين فيقول على لسان العازف كارل: «لا أرغب في العودة إلى الديار، لقد وجدت نفسي هنا، القوم الذين أنقذوني من الموت ارتبطت بهم جدا، يمكنك القول إن ولائي للمكان تجاوز ولائي للدم، المكان منحني دما إنسانيا جديدا، وبالمناسبة لدي دماء كثيرة في هذا الوطن أفارقها، دماء شربها هذا الطين، سأبقى هنا حالياً، هؤلاء القوم يحبون موسيقاي ويتأثرون بها ويتفاعلون معها بقلوبهم وأرواحهم، لقد عزفت كثيرا للحرب، وحان الوقت لأكفر عن ذنوبي وأعزف للسلام، بوقي يؤنبني كثيرا، ويقول لي: لا فرق بين أصابع تضغط على الزناد لتقتل، وأصابع تضغط على أزرار نغم لتجعل جماعات من البشر تندفع نحو القتل، وآه من فمي الذي ما عاد يتركني أغني قبل أن أنظف جرحي من لعاب الألم، وآه من فمي الذي ما عاد يتركني أبتسم أو أضحك أو أبتهج».

تقول رشا حسني في مقال لها عن هذه الرواية في صحيفة القاهرة تحت عنوان: الروائي محمد الأصفر يواصل إنعاش الذاكرة الوطنية:

«بوق». عزف على جدار الروح «وكما بدأت الرواية بصوت البوق مستغيثا انتهت بصوته مودعا صاحبه بنغمات صاغتها الراعية من روحها… موسيقا كأنها بشر متداخلين في بعضهم البعض، موسيقى كأنها حضن نغم فسيح، موسيقا تشتعل في الذاكرة ولا تتبدد في العدم.»

*****

اسم الرواية: بوق

الكاتب: محمد الأصفر

إصدار مسكيلياني للنشر والتوزيع ـ تونس العاصمة 2020

عدد الصفحات: 173 صفحة من القطع المتوسط

خط الغلاف: الفنان سمير بن قويعة

لوحة الغلاف: الرسام الليبي عدنان معيتيق

تصميم الغلاف: الشاعر محمد النبهان

الناشر: مسكيلياني للنشر والتوزيع ـ تونس العاصمة – الطبعة الأولى 2020

الهوامش

*إلى هذا العالم…. عربون لعنة: نص الإهداء في هذه الرواية

1-   دم على مئذنة ومخطوطة بطرسبرغ: عنوانا روايتين للكاتب الكردي جان دوست

2-   مقتطف من موقع عصير الكتب

3-   من موقع طيب

4-   رواية البوق صفحة 37

5-   Elkbiri Ahmed

6-   رشى حسني

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى