القسم العاممختارات

إسماعيل عُمــر: داعية السلم والحوار

إعداد: أسرة التحرير

مجلة الحوار- العدد /79/- السنة /29/-2022م

«إسماعيل عمر – سنة 1974م»

كان سياسياً متزناً برؤيةٍ موضوعية للواقع

«الوطنُ يجب أن يكون للجميع حتى يكون الجميعُ للوطن، والمواطن الكردي يجب أن يكون كردياً بقدر ما هو سوري، لا كما يريد له دعاة التمييز أن يكون معرباً مجرداً من خصوصيته القومية، أو كردياً محروماً من حقوقه الوطنية، ليصلَ الحرمانُ حتى إلى حق الجنسية

ولدَ إسماعيل عمر سنة 1947، في قرية قره قوي الواقعة جنوبَ بلدة الدرباسية بمحافظة الحسكة، وترعرعَ في كنف أسرةٍ فلاحيةٍ متوسطة الحال، اكتسبَ منها معارفه الأولى ثم درسَ الابتدائية في مدرسة القرية، والإعدادية والثانوية في بلدة الدرباسية ليلتحقَ بعدها بجامعة دمشق، حيثُ درسَ في كلية الآداب – قسم الجغرافيا، تخرّجَ منها عام 1969. عمل مدرّساَ في ثانوياتِ مدينة القامشلي عشرين عاماً، من عام 1970حتى 1990. قدّمَ استقالته من مهنة التدريس ليتفرّغَ للعمل السياسي.

انتسبَ إلى صفوف الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا (البارتي) عام 1963وانتخِبَ في مؤتمر الحزب عام 1980 عضواً قيادياً ثم عضواً في المكتب السياسي بالعام نفسه.

بعد الانشقاقِ الأولِ الذي طالَ البارتي عام 1965، توالتْ عملياتُ الإنشطار والتشظي المؤلمة في جسد الحركة السياسية الكردية التي لم تتوقفْ حتى يومنا هذا، إذْ وصلَ عددُ التنظيمات الكردية حداً لا يقبلُه عقلٌ ولا منطق، مما خلقَ حالة من اليأس والتذمّر لدى حاضنتها التي لم تعدْ تكترثُ بها كما يجبُ أن يكون الاكتراث، فحصلتْ فجوةٌ عميقة بين الحركة السياسية وجماهيرها الوطنية مما أفقدَها القوة التي بدونها لا يمكن أن تحقق أيّ انجازٍ للصالح العام على الأرض.

تولّى الراحلُ مهامَ سكرتارية حزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي) منذ المؤتمر التأسيس الأول في ربيع سنة 1993، ثم رئيساً له حتى تاريخ وفاته 18/10/2010.

من خلال قراءته وثقافتهِ وسِعة اطّلاعه، توصلَ الراحلُ إلى نتيجةٍ مفادُها أن الشعاراتِ الطنانة ومخاطبة أمزجة الناس البسطاء بدل َمخاطبة عقولهم إنما يساهمُ إلى حدٍ بعيدٍ في صبِّ الماء بطاحونة الشوفينية التي تفنّنتْ بتنفيذِ مشاريعَ عنصرية ترمي في جوهرها إلى صهر الشعب الكردي في بوتقة القومية العربية والتنكر لوجوده وحقوقه، فتصدّى لهذه العقلية الضارة بكلّ امكانياته، ووضعَ نصب عيينه العملَ من أجل ترتيبِ البيت الكردي المنقسم ونشر ثقافة التسامح والسلام، وتأمين الحقوق القومية للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد والعيشِ مع المكوناتِ الوطنية السورية الأخرى عرباً وسرياناً وأرمناً وغيرهم على قاعدة احترام كل الثقافات والمعتقدات، واعتبار التنوع القومي والديني غنىً لسوريا وازدهاراً لثقافتها الوطنية، معتمداً على مبدأ التحاور في حل القضايا الخلافية بعيداً عن منطق العنف وقرقعة السلاح، ودعا إلى حلّ القضية الكردية العادلة عبر الحوار، وأجادَ الربط بين  القضية القومية الكردية التي تستدعي حلاً عادلاً والقضية الوطنية السورية التي تشتركُ كافة المكونات في الالتزام  بها.

جدير بالذكر أنّ الراحلَ كان من أبرز المشجّعين والداعمين لصدور مجلتنا المستقلّة هذه (الحوار) وذلك لتنشيط الحوار العربي- الكردي، ولا تزالُ تلقى الرعاية من جانب رفاقه، سواء من ناحية طباعتها أو توزيعِها في ظلِّ الظروف الأمنية والسياسية بالغة الصعوبة التي كانتْ تمرّ بها البلادُ والعقبات التي كانت تعترضُ التواصل مع العمق العربي.

وإيماناً منهُ بأنّ القضيةَ الكردية في سوريا هي قضيةٌ وطنية تهمّ كلَّ السوريين كرداً، عرباً وسرياناً، فقد بادرَ مع العديد من  المناضلين الكرد في حزبه والأحزاب الوطنية الكردية الأخرى إلى فتح بابِ الحوار مع القوى والشخصيات الوطنية السورية العربية والآشورية تمهيدا لإعلان دمشق عام 2005، بهدف إرساء أسس الثقة بين الجميع والنضالِ المشترك للتغيير الديمقراطي السلمي وتداولها في البلاد، وإنهاءِ حالةِ الفساد وتغييبِ السياسة من المجتمع ورفع حالة الطوارئ المكبّلة للحريات الديمقراطية وإيجاد حلٍّ عادل للقضية الكردية في سوريا.

وإنصافاً لهذه القامة الوطنية المخلصة للكرد ولكل السوريين، نوردُ في هذا العددِ بعضاً من آرائه وأفكاره المنشورة التي تحتفظُ حتى اليوم بصوابيتها وتصلحُ كخطوطٍ عريضة لبرنامج عمل يضمّ كل السوريين، كي يطلعَ عليها قرّاءُ العربية.

ففي مداخلةٍ له بندوةٍ سياسيةٍ جمعتْه مع بعض القوى الوطنية السورية والشخصيات المستقلة في شهر أيار 2005 تحدث الأستاذ اسماعيل عمر قائلاً:

أيها الحضورُ الكريم:

أشكرُ في البداية منظّمي هذه الندوة، التي أتاحتْ لنا جميعاً تبادلَ الآراء ومناقشة أفضل السبل لخدمة بلدنا سوريا، وتحصين جبهتها الداخلية، والنضال معا ً للمباشرة بإجراء عملية إصلاحٍ حقيقيةٍ تضعُها على طريق التطور الديمقراطي، وتفتحُ أمامَها الطريق لمسايرة الركب الحضاري العالمي.

وحتى نتمكنَ من تشخيص الواقع، وبالتالي البناءَ عليه، لا بدَّ من الإحاطةِ بالتطورات المتلاحقة التي شهدتْها منطقةُ الشرق الأوسط  في السنوات الأخيرة، خاصةً  بعد أحداث أيلول 2001 التي كانتْ منطلقاً لحربٍ كونية جديدة أخذتْ عنوانَها من الحرب على الإرهاب، التي تغيَّرَ معها مفهومُ الأمن القومي الأمريكي ليطالَ مناطقَ واسعةَ من العالم، وتغيرتْ معه الإستراتيجيةُ الأمريكية، لتنتقلَ من دعم الأنظمة الدكتاتورية التي كانت ترى فيها ضمانةً لحماية مصالحها، إلى التخلي عنها، بصفتها حاضنةً طبيعيةً للإرهاب الذي يتغذى من غياب الحريات السياسية. كما صعّدتْ دعوتَها إلى نشر الديمقراطية كوسيلةٍ لمكافحة العمليات الإرهابية التي تهددُ أمنَها ومصالحَها، ومن هنا جاءتْ الحربُ على العراق عام 2003، والتي وضعتْ منطقة الشرق الأوسط أمام تحولاتٍ كبيرة، غيرتْ خارطتها السياسية نتيجة تدخلِ العامل الخارجي كحافزٍ وضاغطٍ من أجل المباشرة في إحداث إصلاحاتٍ سياسية تنشطُ المطالباتِ الداخلية من أجل تنفيذها. وعلى وقع تلك الحرب وانعكاساتها جرتْ لأول مرة انتخاباتٌ محلية في السعودية، والتزامٌ تركي بشروط الانضمام للاتحاد الأوربي واستعدادٌ لبناني لإجراء انتخاباتٍ برلمانيةٍ بعد انسحاب الجيش السوري وإقرار مبدأ المنافسة على رئاسة الجمهورية في مصر.

أما في سوريا، وفي ظلّ تلك الأجواءِ الإقليمية المحيطة والضغوطات الدولية المتزايدة، فإنّ السلطة لا تزالُ تصرُّ على إبقاءِ هيمنة حزب البعث على مؤسساتِ الدولة ومراكز السلطة، وتسعى للمماطلة والتكيّف مع التطورات الجديدة والضغوطات الخارجية، بدلاً من المباشرة بإجراء إصلاحاتٍ جدية يتطلبُها الوضعُ الداخلي المتميز بغياب الحريات الأساسية وتردّي الأوضاعِ الاقتصادية واتساع دائرة الفقر وانتشار الفساد في مختلف دوائر الدولة ومؤسسات القطاع العام، واستمرار العمل بالأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية وغياب استقلالية القضاء.

ويُعتبر حزبُ البعث، بحكم احتكاره لقيادة الدولة والمجتمع بموجب المادة الثامنة من الدستور، هو المسؤولُ عن تلك الأوضاع، ولذلك فإنّ أية عملية إصلاحٍ حقيقيةٍ يجبُ أن تبدأ من تغيير نهج ودور هذا الحزب، الذي يستعدُّ الآن لعقد مؤتمره القطري، والذي لا يبدو في الأفق أيةُ بوادرَ للتخلي عن تلك الهيمنة، وعن مفهوم الحزب القائد والجبهة الواحدة التي تم توسيعُها مؤخراً بانضمام الحزب القومي الاجتماعي، وذلك في دلالةٍ واضحةٍ على استمرار عملية تعطيلِ الحياة السياسية تحت مسمياتٍ شكليةٍ، قد يكونُ إصدارُ قانون أحزاب يقوم على إنكار التعدد القومي أحدَ أشكالها، في الوقت الذي يفترضُ فيه أن يراعي القانونُ المنشود مصالحَ جميع مكونات الشعب السوري من خلال الاعتراف الدستوري بتلك المكونات ومنها الشعب الكردي الذي يشكلُ القومية الثانية في البلاد، كما يفترضُ ترجمةَ تصريحاتِ السيد الرئيس بشار الأسد بأن القومية الكردية هي جزءٌ رئيسيٌ من النسيج الوطني السوري ومن التاريخ السوري، بشكل عملي.

كما أنّ حزبَ البعث، وبحكم كونه حزبٌ قوميٌ يمارسُ التمييزَ والاستعلاءَ القومي، ألغى التعددية القومية، وطالبَ القوميات الأخرى التي تعيشُ في إطارِ الحدود التي رسمَها للوطن العربي بالصهر أو الطرد، بموجب المادة الحادية عشر من المبادىْ الأساسية لدستوره.

وتطبيقاَ لهذا النهج فإنه بالنسبة لنا، كشعبٍ كردي وكحركةٍ كرديةٍ، أساءَ للعلاقات التاريخية العربية الكردية، من خلال ممارسة التمييز القومي وأشكاله المتمثلة بإنكار الوجود الكردي والتنكر للحقوق القومية وتجاهل شرعية الحركة الكردية، وتطبيق المشاريع العنصرية والقوانين الاستثنائية في المناطق الكردية.

وعلى هذا الأساسِ فإنَّ أية عمليةِ إصلاحٍ تتجاهلُ أيضاً إيجادَ حلٍّ ديمقراطي للقضية الكردية في سوريا، سيكون مشكوكاً في جديتها، حيث لا يمكنُ لسوريا أن تتقدمَ على حساب تعطيل دور أحد مكوناتها القومية الأساسية وطمس وجوده.

ومن جهةٍ أخرى ،فإنّ سياسةَ التمييز القومي المنتهجة بحق الشعب الكردي في سوريا والغيابُ الطويل للبديل الوطني الديمقراطي لحلِّ قضيته القومية وعرقلة تطور المجتمع الكردي اقتصادياَ واجتماعياَ وثقافياَ، وحرمانه من حقوقه القومية الديمقراطية التي يطالبُ بها في إطار وحدة البلاد، تنعكسُ سلباً على المجتمع الكردي الذي يشهدُ تنامياَ لحالاتِ الإحتقان والاغترابِ والانعزالِ، ويؤثرُ على أدائه الوطني ويضعفُ دورَ الحركة الكردية في حشد الطاقات الوطنية الكردية وتسخيرها لخدمة تقدم البلاد وتطورها، كما أنّ تلك السياسة تغذي نزعاتِ التشكيك بالولاء الوطني الكردي واتهامات الاستقواء بالخارج، كما تخلقُ عدمَ الثقة بين أبناء الوطن الواحد، ولذلك، وبين الحالتين، حالةَ الاحتقان هنا وحالة التشكيك هناك، انفجرتْ أحداثُ القامشلي الدامية في آذار 2004 و تركتْ جروحاَ عميقة لا تزالُ بحاجةٍ إلى المعالجة، وهددتْ بعواقبَ سلبيةٍ في المستقبل.

وهذا يقتضي من كافة القوى الوطنية داخل السلطة وخارجِها البحثَ عن حلٍّ عادلٍ ينصفُ الشعبَ الكردي ويحصّنُ الجبهة الداخلية ويعزّزُ مهامَ التصدي لكل المخاطر والضغوطات الخارجية ويكرسُ مفهومَ الشراكة الوطنية بين جميع مكونات الشعب السوري، بدلاً من الإقصاء، لتصبح سوريا وطناَ دائماَ للجميع، بقدر ما يكون الجميع للوطن.

فالشعبُ الكردي في سوريا لا يشكلُ حالةً طارئة أو أقلية وافدةً، فهو يعيشُ أباً عن جدٍّ في مناطق الجزيرة، كذلك كوباني وعفرين بعد أن رُسمتْ خارطة سوريا في إطار تقسيماتِ سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا عام  1916 … وهذا يعني أنَّ مواطني سوريا الحاليين من عربٍ وكردٍ وأقلياتٍ قومية، جمعتْهم ووحّدتْهم تلك التقسيماتُ دون إرادتهم… لكنهم جميعاً ارتضوا هذا الواقع وناضلوا معاً لتحرير هذا البلد، وكانتْ مساهماتُ وتضحياتُ الأكراد مشهودةً، خلّدتْها معاركُ جبل الزاوية والغوطة وبياندور وعامودا، وسقطَ العديدُ من الشهداء الأكراد لتمتزج دماؤهم مع دماء أشقائهم العرب وغيرهم حتى تحققَ الجلاءُ وأصبحتْ سوريا، بموجب العقد الوطني والنضال المشترك، وطناً مشتركاً للجميع كأمرٍ واقع، أي أنَّ أحداً من مكوناتِ الشعب السوري لم يلحقِ الآخرَ بالقوة ولم يجبرْه على التعايش المشترك، وارتضى الجميعُ بإرادتهم الحرة أن يكونوا شركاءً في بناء سوريا وتحديدِ معالم مستقبلها، مثلما كانوا شركاءً في النضال من أجل تحريرها، وذلك على أسسٍ من المساواة والاحترام المتبادل لخصوصية وثقافة كل طرفٍ ولانتمائه وحقوقه القومية .

وفي حين اختارَ الجانبُ الكردي التعايشَ المشتركَ مع شقيقه العربي، طوعاً واختياراً، وسعى لتعزيز وحدة هذا الوطن، مقابلَ الحفاظ على مقوماته القومية، فانَّ تياراتِ الفكر القومي العربي، التي تشكلتْ بعد الاستقلال، تصرفتْ بمنطقٍ متشنج تجاه الأقليات القومية بشكلٍ عام والأكراد بشكلٍ خاص، خاصةً في أواخر الخمسينات بعد إعلان الوحدة مع مصر حيثُ تحولَ الاسمُ الرسمي لسوريا من الجمهورية السورية، وذلك تعبيراً في ذلك الوقت، عن كونها وطناً لكلّ السوريين، إلى الجمهورية العربية المتحدة، ثم تحولتْ بعد الانفصال، إلى الجمهورية العربية السورية، وذلك في إنكارٍ واضحٍ لوجود القومياتِ الأخرى وإنذارٍ لها بأنّ سوريا هي بلدُ العرب فقط، أي بلدُ القومية الواحدة واللغة الواحدة والثقافة الواحدة،  ومنذ ذلك التاريخ خضعتْ سوريا، وفي إطار محاولةِ تزويرِ الحقائقِ التاريخية والطبيعية، لسياسةِ تعريبٍ شملتْ التجمعاتِ البشريةَ والمعالمَ الطبيعيةَ، وامتدتْ حتى إلى تسمية الولادات الحديثة في المناطق الكردية التي خضعتْ أيضاً لجملةٍ من المشاريع العنصرية مثل الإحصاء الرجعي الذي عبّرَ عن حالةٍ شاذةٍ في تعامل الدول مع مواطنيها، حيثُ تمَّ تجريدُ عشراتِ الألوف من المواطنين الأكراد من جنسيتهم السورية، والحزام العربي الذي عبّرَ عن تشكيكٍ عميقِ بالولاء الوطني الكردي، واستهدفَ المشروعانُ تغييرَ الطابع الديمغرافي لمنطقة الجزيرة ذات الأغلبية الكردية، وفرْضَ اللونِ الواحد والتنكر لأهمية التنوع العرقي الذي حظيتْ به سوريا، والذي يُعَدُّ نعمةً، إذا تمَّ التعاملُ معه بمنطقٍ حضاري عصريٍّ وديمقراطي ينطلقُ من مصلحةِ الوطن الذي يزيدُ تعددُ الثقافاتِ القومية من جمالِ لوحته الوطنية، في حين رأتْ فيه الأوساط الشوفينية، ولا تزال، نقمةً لأنها تتعاملُ مع القوميات الأخرى وحقوقها بمنطق الدونية والشكّ، مثلما كانت تتعاملُ منذ بداية الستينات مع القضية الكردية في كردستان العراق التي كان غلاة القوميين العرب يسمونها بالجيب العميل، وكانت الحركةُ التحرريةُ الكرديةُ فيها تصنَّفُ، في القاموس الشوفيني، في إطار الحركاتِ الانفصالية في الوطن العربي مع غيرِها من الحركات، مثل الحركة الشعبية لجنوب السودان وحركات أخرى. لكن ثبتَ مع الزمن أن إرادة الولاء للوطن الواحد انتصرت في النهاية، هنا وهناك، فقد شاهد هؤلاء الغلاة على شاشات التلفزيون، قبل حوالي شهرين، رئيساً عراقياً من أصل كردي هو الأستاذ جلال الطالباني يقسمُ اليمينَ الدستوري باللغتين العربية والكردية، ليصبحَ رئيساً لكل العراقيين، ورمزاً لوحدة العراق … كما رفضَ أمثالُهم من العنصريين في الجزائر الاعتراف بالأمازيغ، البالغ تعدادهم 10 ملايين، كشعبٍ له خصوصيته وحقوقُه، لكنهم الآن يسمعون في الإذاعة الجزائرية الرسمية برامجَ وأغانٍ أمازيغية …. وينطبقُ نفسُ الشيء على جنوب السودان حيث تم إقرار الكونفيدرالية التي أنهتْ عقودا طويلة من الحرب الأهلية.

…. وفي كل الحالات السابقة يُفترضُ أن يتساءلَ الجميعُ، ماذا خسرت القومية العربية في العراق، بإقرار الفيدرالية، سوى تحرير القيود التي كانت مفروضةً على الأكراد العراقيين الذين انطلقوا الآن من أربيل والسليمانية إلى بغداد للمساهمة في بناء العراق الجديد، واستعادة وتعزيز وحدته؟! وماذا خسرتْ أيضاً في الجزائر، بعد أن استقرت الأوضاع وهدأتِ الاضطراباتُ في منطقة القبائل، أو في جنوب السودان بعد أن وضعت الحربُ أوزارها وتفرغ الجميع للعمل والتنسيق من أجل إيجاد الحلول لقضاياهم المشتركة والتصدي معاَ لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

«كان إسماعيل عمر دائم الحضور إلى جانب أصدقائه ومحبيه»

وبالمقياس نفسه، ماذا ستخسرُ سوريا من إيجاد حلٍ ديمقراطي عادل للقضية الكردية فيها، فهذه القضية هي بالأساس قضية وطنية عامة تهمُّ كلّ السوريين بقدر أهمية مختلفِ قضايا الوطن بالنسبة للمواطنين الأكراد الذين يعانون من معاناةٍ مضاعفةٍ، فهم محرومون، مرةً بوصفهم مواطنين يعانون ما يعاني الآخرون من أبناء الشعب السوري، وهم مضطهَدون ومحرومون مرةً أخرى بوصفهم أكراداَ تشكُّ الشوفينية في ولائهم الوطني!… وفي الحالتين فإنّ رفعَ الاضطهاد القومي عن كاهل الأكراد يجبُ أن يكونَ أحدَ واجباتِ العرب وغيرهم من مكونات الشعب السوري لكي يستعيدَ الشعب الكرديُّ دوره الوطنيَّ التاريخيَّ، كما أن قضية الديمقراطية والإصلاح هي أصلاَ شأنٌ كردي تدخلُ في إطار الحراك السياسي للحركة الكردية التي تطالبُ بعقد مؤتمرٍ وطني سوريٍ عامٍ تحضرُهُ جميعُ القوى السياسية الوطنية الفاعلة في البلاد بما فيها حزب البعث، مهمتُه صياغة برنامج إصلاحٍ وطني، يلبّي مطالبَ الداخل السوري، بدلاً من الاستجابة للضغوطات الخارجية.

OOOOOOOO

في منتدى الأتاسي

وفي ندوةٍ أقيمتْ بمنتدى الدكتور جمال الأتاسي، ألقى الأستاذ اسماعيل عمر كلمة سلطَ فيها الضوءَ على معاناة الكرد السوريين الذين يعانون من سياساتِ التمييز العنصريِّ الممنهجِ على أيدي السلطات السورية التي تنظرُ إلى الكردي نظرة التشكيك بوطنيته وولائه لوطنهِ سوريا التي لم يبخلْ في الدفاع عن حياضِها واستقلالها وتطورها، حيث قال:

بدايةً، أشكرُ الأخوة في منتدى الاتاسي على هذه المبادرة الطيبة، التي نعتبرُها بدايةَ تعاملٍ جديدٍ مع الحركة الوطنية الكردية في البلاد، التي ظلتْ تبحثُ دائماً عن منابرَ تطلُّ منها على الساحة الوطنية السورية، لتُلقي بعضَ الضوء على معاناة شعبنا الكردي في سوريا من سياسة التمييز القومي وأوجُه الاضطهاد والحرمان الممارَسة بحقه، مما تسببَ إلى حدٍ كبير في عرقلة تطوره الاجتماعي والثقافي والسياسي، وخلقَ بين أوساطه حالةً من الاغتراب، وأحدثَ خللاً في نفسية الإنسان الكردي نتيجةَ عدم التوازن بين واجباته  التي تصدى لها دائماً، وحقوقه التي حُرم منها على الدوام، إضافةً إلى إخضاعه لجملةٍ من المشاريع العنصرية والقوانين الاستثنائية التي لا يستطيعُ مشرّعو سياسة التمييز هذه الدفاعَ عنها، والتي تعبّرُ عن حالةٍ شاذة في تعامل الدول مع مواطنيها.

فالإحصاءُ الجائر الذي تجاوز عددُ ضحاياه اليوم ربع مليون إنسانٍ بين مجردين من الجنسية ومكتومي القيد – والعدد يزداد عاماً بعد عام نتيجة التكاثر الطبيعي – لا يستطيعُ أحدٌ حتى في السلطة  الدفاعَ عن شرعيتهِ، لكن، ولأنَّ الموضوعَ يتعلقُ بالأكراد، فإن هناك تجاهلٌ لهذه المأساة الإنسانية التي تجبرُ آلاف الناس على الهجرة إلى المدن الداخلية وإلى دول أوربا التي تمنحُهم جنسياتِها بعد مرور المدة القانونية لإقامتهم فيها، في حين يُحرَمون فيه ويجرّدون من جنسية وطنهم، مما يشكلُ مفارقةً عجيبة تدعو للتساؤل عن ماهية الجهة المستفيدةِ من استمرار هذا الاستهتار بالإنسان المواطن وحقوقه!.

والحزامُ العربيُّ الذي استغلَّ مشرّعوهُ مسألة غمرِ مياه بحيرة سد الفرات لبعض الأراضي الزراعية في محافظتي حلب والرقة لنقل الفلاحين العرب إلى المناطق الحدودية في محافظة الحسكة وتنفيعهم بالأراضي الزراعية التي كان يستثمرُها الفلاحون الأكراد أباً عن جدٍّ، خلقَ حالة من الاستياء حتى بين المواطنين العرب أنفسِهم في هذه المحافظة، عدا عن كونه يأتي في إطار مشروعٍ سياسي عنصري، أساءَ للعلاقاتِ التاريخية العربية الكردية، ووضعَ الحواجزَ بين أبناء الوطن الواحد، كما أساءَ للاقتصاد السوري. فمنطقة الحزام لم تتحولْ إلى مزارعَ نموذجيةٍ مثلما ادّعى أصحابُ (الحزام الأخضر) الذي سُمي به المشروع في بداية الأمر.

وإلى جانبِ تلك المشاريع، فإنَّ سياسةَ التمييزِ تسيرُ في المناطق الكردية على قدمٍ وساقٍ في كافة المجالات، في المدرسة والوظيفة والعمل وغير ذلك، تحت مسمياتٍ أبرزُ عناوينها مقولة (خطر على أمن الدولة)، وهي بذلك تضيفُ إلى الحرمان المزمن من الحقوق القومية، معاناةً إضافية يوميةً.

وبالمقابل، فإنَّ معظمَ أطرافِ المعارضة الديمقراطية السلمية خارجَ السلطة، لم تستطعْ حتى الآن، رغمَ معاناتها، أن تتفهمَ الجوهرَ الوطني الديمقراطي لطبيعة القضية الكردية، وظلّت العديدُ من أطرافها تتعاملُ معها حتى الآن بمزيد من التشكيك في طبيعتها وأهدافها… وبين هذا وذاك، بين سياسة الاضطهاد التي تمارسُها السلطة، وسياسة التجاهل التي تمارسُها أطرافٌ أساسية من المعارضة، فإننا لا نخفي عليكم بأن المجتمع الكردي يشهد تنامياً لحالاتِ الاغترابِ واليأس والانعزال، خاصةً في ظل الغياب الطويل للبديل الوطني الديمقراطي لحلّ قضيته القومية والديمقراطية، مما يُضعفُ دورَ الحركة الكردية في قيادة هذا المجتمع وتحصينه، ويهددُ بنتائجَ سلبيةٍ في المستقبل.

فالقضيةُ الكردية هي قضية وطنيةٌ بدون أي شكٍّ، لأنها تهمُّ أكثرَ من مليوني إنسانٍ كردي في سوريا، ولذلك فهي تعني الجميعَ، وأنَّ المهمة الأساسية لجميع الأطراف الكردية هي إدراجُها بين القضايا الوطنية العامة في البلاد التي تتطلبُ حلولاً عادلةً وعاجلةً، ولن يُكتبَ النجاحُ لهذه المهمة ما لم تنجحْ هذه الحركة في تعريفِ الشعب السوري بعدالتها من خلال التواصُلِ مع مختلف الأحزاب والقوى الوطنية والفعاليات الاجتماعية والثقافية، والانخراطِ في النضال العام الديمقراطي للعمل معاً من أجل إيجادِ الحلول للقضايا الوطنية الأخرى. وهذا يستدعي ارتقاءَ مختلف القوى والنخب العربية والكردية إلى مستوى المسؤولية المطلوبة، لوضع أسسٍ متينةٍ لشراكةٍ وطنيةٍ، فسوريا كدولةٍ، تشكلتْ بحدودها الحالية وفقَ تقسيماتِ سايكس – بيكو، وهذا يعني أن مواطنيها الحاليين من عربٍ وأكرادٍ وأقلياتٍ أخرى، وحّدتْهم تلك التقسيماتُ دونَ إرادتهم، وربطتْهم أواصرُ التاريخ والإرادة المشتركة، وبالتالي، لم يتمْ في حينه أنْ أُلحِقَ أحدٌ من مكوّناتِ هذا الوطن المكوّنَ الآخر بالقوة، وبذلك، أصبحتْ سوريا وطنَ الجميع كأمرٍ واقعٍ … وفي حين سعى الجانبُ الكردي لتعزيز وحدة هذا الوطن مقابلَ الحفاظِ على مقوماته والتمتعِ بحقوقه القومية، كان من المفروضِ أن يستوعبَ الطرفُ الآخرُ أيضاً هذه الحقيقة ويحترمَ هذا الحقَّ الطبيعي، لكن قواهُ السياسيةُ التي تشكلتْ بعد الاستقلال تصرفتْ بمنطقِ الأكثرية ومارستْ عملية الشطب على كل ما هو غيرُ عربيٍّ بهدف صهر القومياتِ الأخرى، وفي المقدمة منهم الأكراد … ومع الزمن، تنامتْ النزعةُ الإقصائية التي مارستْها الأنظمة المتعاقبة على دستِ الحكم مما ألحقَ أفدح الأضرار بمفهوم المواطنة وبقضية الوطن، الذي كان ولايزالُ، يفترضُ أن يكون الوطنُ للجميع حتى يكون الجميعُ للوطن، يدينون له بالولاء ويدافعون عنه بكلِّ الإمكاناتِ، ويحافظون في ظلِّه على خصوصيتهم القومية ويصونون وحدتَه وسيادتَه، ويتمتعون فيه بحقوقهم المشروعة، التي لا تتعارضُ مطلقاً مع ولائهم الوطني، بل بالعكس، فهناك علاقة جدلية وثيقة بين درجة هذا الولاء بالنسبة للمواطن الكردي، ومدى تمتعهِ بحقوقه وخصوصيته القومية، فهو بهذه الحالة يكون سورياً بقدر ما هو كردي، لا كما يريدُ له دعاة التمييز أن يكون معرّباً مجرّداً من خصوصيته القومية، او كردياً محروماً من حقوقه الوطنية، ليصلَ الحرمانُ حتى إلى حق الجنسية … أي أنّ تمسكهُ بانتمائه القومي والوطني السوري معاً لا يعيبه ككردي، ولا ينتقصُ شيئاً من كرامة الأشقاء العرب وحريتهم، ولا يسيءُ إلى مصلحة الوطن، بل على العكس تماماً، فإنه يضيفُ لوناً جديداً إلى ألوان الطيف الوطني ويزيدُ من جمال اللوحة الوطنية، ويغني الثقافة الوطنية، فالوجهُ الجميلُ لا يبرزُ جمالُه إلا  بوجود كافة أجزائه.

وهذا يعني، أنّ كلَّ السوريين بكافة انتماءاتِهم القومية والدينية والمذهبية يجبُ أن يكونوا متساويين في الحقوق والواجباتِ أمام القانون، لا أن يكون الأكرادُ متساوين فقط أمام القوانين الاستثنائية! وأنْ يتمَ تعريبُ أسماء المدن والبلدات والقرى والمعالم الطبيعية، مما ينسفُ أحدَ أهمِّ مرتكزات الوحدة الوطنية، ويشيعُ أجواءَ عدم الثقة بين أبناء الوطن الواحد، ويخلّ بالعقد الوطني الذي كُتب بتضحيات وجهود الجميع، في حين أثبتتْ فيه التجربة التاريخية للشعوب أن مشاريعَ الصهر القومي لن يُكتبَ لها النجاح، وأنَّ محاولاتِ تغيير المعالم القومية لأي شعبٍ سيكون مصيرها الفشل، فالاسم الأصلي لقرية مواطنٍ كردي سوري، لن يُمحى من الذاكرة مهما بلغتْ قوة المعرّبين وجبروتُهم، لأنه غُرس في وجدانه، وتحوّل إلى جزءٍ هامٍ من حياته وارتبط بملاعب طفولته، وتحول الحفاظُ على هذا الاسم إلى واجبٍ قومي ووطني معاً.

لكنّ ما يُؤسف له، إنَّ السلطةَ لم تستطعْ حتى الآن استخلاصَ دروسٍ مفيدةٍ من تجربة عشرات السنين من تاريخ الاضطهاد والتميز القومي بحق الشعب الكردي في سوريا، ورغم أنَّ أحداثَ آذارِ الأليمةِ والدامية أحدثتْ ارتباكاً واضحاً في السياسة المنتهجة بحقه والتي درجتْ على إنكار الوجود التاريخي الكردي الذي لم يعدْ قابلاً للتجاهل، خاصةً بعد أن رسمتْ تلك الأحداثُ خارطة عملية لهذا الوجود و تحول الاعترافُ به إلى أمرٍ واقع قام بإقراره أكثرُ من مسؤول، وتوّج بإعلان السيد الرئيس بشار الأسد في مقابلته مع قناة الجزيرة الفضائية بأن القومية الكردية هي جزءٌ من النسيج الوطني ومن تاريخ سوريا وبراءة تلك الأحداث من العلاقة بالخارج، وما خلقته تلك المقابلةُ من ارتياحٍ في الوسط الكردي المتخوّف أصلاً من الاضطهاد، وما ساهمتْ به تصريحاتُه من تخفيفٍ لوتيرة الكراهية والحقد تجاه الأكراد لدى العديد من الأوساط السورية التي أوهمتْها بعضُ الجهات، بأن تلك الأحداث تعبّرُ عن نزوعٍ كردي نحو الانفصال واستقواءٍ بالخارج، وذلك بهدف إثارة حساسيتها الوطنية واستعدائها على الأكراد، فإنَّ الوقائعَ على الأرضِ لا تزالُ  تثيرُ المزيد من القلق. فبعد أن كان الجميعُ بانتظار إقدام السلطة على المباشرة بإجراء تحقيقٍ محايدٍ وتقييمٍ معمقٍ لمعرفة الأسبابِ والدوافعِ، ومحاسبةِ المسؤولين عنها، والبحثِ عن الضمانات الكفيلة بعدم تكرارها مستقبلاً، واعتماد سياسة حكيمة في المعالجة، فقد تصرفتْ معها من منظورٍ أمني بحتٍ، وكأنَّها مجردُ قضيةُ خارجين على القانون! حيث لجأتْ لاعتقال الآلاف من المواطنين الكرد بشكلٍ عشوائيٍّ، وجرتِ العديدُ من حالات الاعتقال على الهوية القومية، وخاصة في ضواحي دمشق حيث يعيش الآلاف من المهاجرين الكرد التائهين هناك بحثاً عن لقمة العيش ضمن حزامها الفقير، ولا يزال حوالي 200 مواطن كردي رهن الاعتقال حتى الآن، وذلك في دلالةٍ واضحة بأن السلطة تجهدُ لتجريم شعبنا الكردي وإرهاب أبنائه ومصادرة حقهم في مقاومة سياسة التمييز، وتهدفُ من وراء إحالة العشرات منهم لمحاكم أمن الدولة والجنايات العسكرية إلى معاقبة الشعب الكردي.. كما أنَّ أجواءَ الاحتقانِ التي فجَّرتْ أصلاً تلك الأحداث لا تزالُ سائدةً، فقد رسمت السياسة الشوفينية المنتهجة منذ عشرات السنين صورة مشوهة لحقيقة الوضع الكردي، واستغلت من أجل ذلك غيابَ دورِ الحركة الكردية في تصحيح تلك الصورة، لتقوم  بإثارة الرأي العام السوري وإلهائه بالخطر الكردي المزعوم و تغذية حالة الاحتقان المتفاقمة ضد الكرد، بهدف تحويل أنظار الرأي العام السوري عن حقيقة الأوضاع المتأزمة في البلاد، والتهرُّبِ من استحقاقات الإصلاح المطلوبة، وهذا يعيدُ للأذهان ما أقدمتْ عليه حكومة الانفصال في أوائل الستينات من إقرار مشروع الإحصاء وتأليب العرب ضد الأكراد، لتغطي بذلك على جريمة الانفصال في ذلك الوقت.

إن الحكمة والمسؤولية الوطنية تقتضيان من كافة القوى الوطنية داخل السلطة وخارجها، والفعاليات الثقافية والاجتماعية في البلاد، البحثَ عن حلٍّ ديمقراطي عادل للقضية الكردية، وذلك من خلال تمكين الشعب الكردي، باعتباره جزءاً أساسياً من النسيج الوطني السوري، من ممارسة حقوقه القومية، من سياسية وثقافية واجتماعية. وإلغاء المشاريع الاستثنائية المطبقة بحقه، لكي يستطيعَ مواصلة دوره الوطني والتصدي لكل التحديات الداخلية والخارجية.

وشكراً.

OOOOOOOO

 حوار صحفي حول ماهية إعلان دمشق

وفي معرض إجابته على الأسئلة الثلاثة التالية:

عن ماهية إعلان دمشق من موقع (عامودا.كوم)  بتاريخ 1/11/2005

1-   ماهي المطالبُ الكردية القومية التي لا يمكن المساومة عليها؟

2-   هل يلبي «إعلان دمشق» المطالب القومية للشعب الكردي في سوريا؟ إذا لا، ماذا ينقص؟ أي (ما هي نواقصُها)؟

3-   ما هو المطلوب لكي تناقش الحركة الكردية في سوريا بموقف موحد مع المعارضة السورية حول المطالب الكردية القومية؟

أجاب الأستاذ اسماعيل عمر:

بدايةً، كنت أتمنى أن لا تكون الأسئلة التي وجهتَها بشأن (إعلان دمشق) مقتصرةً على البند المتعلق بالقضية الكردية فقط، رغم أهمية وخصوصية هذه القضية بالنسبة لنا كحركةٍ كرديةٍ، كونُنا معنيين ببقية البنود أيضاً، لأن معظمَها تتعلقُ بالنضال الديمقراطي، وما يعنيه من إقرارٍ بالتعددية السياسية والقومية، وحرية الرأي والتعبير وضرورة التداول السلمي للسلطة عبر انتخاباتٍ حرةٍ ونزيهةٍ ينبثقُ عنها برلمانٌ حقيقي وحكومةٌ شرعيةٌ، وصياغة دستورٍ جديدٍ يقرُّ بالوجود القومي الكردي.

وقبل أن أجيبَ عن تلك الأسئلة، أودُّ التأكيدَ على أنَّ أي شعارٍ أو هدفٍ لا يستمدُّ شرعيته فقط من عدالته، بل كذلك من إمكانات تطبيقه، وأنَّ الأعمالَ أو البرامجَ المشتركة، سواء المتداولة منها فيما بين أطراف الحركة الكردية، أو بين هذه الحركة وبقية القوى الوطنية والديمقراطية السورية، تُصاغ عادةً على أساسِ توافقاتِ وتقاطعاتِ الأطراف المشاركة التي تلتقي عند الحد الأدنى المشترك.

وعلى هذا الأساس فإنَّ إخلاصَنا للقضية الكردية لا يُقاسُ فقط بمقدار وحجم التضحية من أجلها، بل كذلك بقدرتنا على إقناع الآخرين بها، لرفع سقف ذلك الحد الأدنى المشترك، وتوسيع دائرة الأصدقاء والأنصار حولها، ومن هنا فإنَّ إعلانَ دمشق، بما جمعَهُ من طيفٍ واسعٍ، وبالصيغة التي أقرها للقضية الكردية، نقلَ هذه القضية إلى موقع متقدمٍ، حيثُ دخلتْ معه إلى كل محفلٍ وتجمّع وطنيٍّ سوريٍّ في مختلف أنحاء البلاد وخارجها، أي أنها أصبحت قضية وطنية سورية، وأصبح النضالُ من أجل حلِّها على أساسٍ ديمقراطي عادل، في إطار مجموع الأفكار والتوجهات التي تضمنها الإعلان، مطلباً وطنياً سورياً عاماً، ويعتبرُ ذلك مكسباً لا يستهانُ به لشعبنا الكردي في سوريا.

من جانبٍ آخرَ، فإنَّ التحالفَ الديمقراطي الكردي والجبهة الديمقراطية الكردية، اللذين شاركا في صياغة الإعلان، تمكّنا من تثبيت حقوق شعبنا الكردي بالشكل الذي تراهُ الحركة الكردية عموماً، فصيغة (الحل الديمقراطي العادل للقضية الكردية) تُجمعُ عليها كلُّ الأحزاب الكردية في سوريا، داخلَ الجبهة والتحالف الكرديين وخارجِهما، حيثَ وافقَ الجميعُ، باستثناء الحزب الديمقراطي الكردي السوري، بتاريخ 17/1/2005على بيان تأسيس (لجنة التنسيق الوطني للدفاع عن الحريات الأساسية وحقوق الإنسان )، وأعتبرَ ذلك البيان، في حينه، برنامجاً للعمل المشترك لجميع الأطراف الموقعة، وتضمن بند: (العمل على إيجاد حل ديمقراطي للمسألة الكردية…) مما يؤكدُ أنَّ الإقرارَ بوجود وحلِّ القضية، أو المسألة الكردية، هو مطلبٌ عامٌ لا يمكنُ المساومة عليه، وهو يعني بالضرورة وجودُ شعبٍ كردي يعيشُ على أرضه التاريخية.

وفي التفاصيل فقد حرصْنا في الجبهة والتحالف على أن نؤكدَ على عبارة (بما يضمن المساواة التامة للمواطنين الأكراد السوريين مع بقية المواطنين من حيث حقوق الجنسية والثقافة وتعلم اللغة القومية وبقية الحقوق الدستورية والسياسية والاجتماعية والقانونية…)، وكانَ الهدفُ من التأكيد على عبارة (بما يضمن) في مجال استعراض الحقوق، لكي لا يعني ذلك تحديدها والاقتصار عليها، بل تعتبرُ تلك الحقوق، رغم تنوعها، بعضاً من شروط ومستلزمات الحلِّ الديمقراطي للقضية الكردية في سوريا، وليست كلَّها بالضرورة.

أخيراً أتمنى أن تعلن بقيةُ الأطراف الكردية تضامنها مع هذا الإعلان الذي استقطبَ حتى الآن أغلبَ أطرافِ المعارضة السورية بتلويناتها وتكويناتها المختلفة، علماً أن بنوده ستكون قابلةً للمناقشة والمراجعة مستقبلاً على ضوء ملاحظاتِ وآراءِ المتضامنين معه والمنضمين إليه، وأعتقدُ أنَّ الموقفَ الوطنيَّ الكرديَّ سيكون موحداً، لأن في ذلك مصلحة شعبنا وقضيتنا الكردية.

OOOOOOOO

في مقالةٍ له نُشرتْ في العدد السادس من جريدة الخليج (عدد6/6/2005)، عبّرَ الأستاذ إسماعيل عمر عن رأيه حيالَ العديد من القضايا ومن أهمّها ما يتعرضُ له الشعب الكردي في سوريا من سياساتٍ استثنائيةٍ أساءتْ إلى معيشته ووضعه النفسي وتطوره الطبيعي، حيث كتب:

العلاقات العربية الكردية

الشعبُ الكردي في سوريا لا يشكلُ حالة طارئةً أو أقلية وافدةً، فهو يعيش أباً عن جد في مناطق الجزيرة – كوباني – عفرين بعد أن رُسمتْ خارطةُ سوريا في إطار تقسيمات سايكس- بيكو بين فرنسا وبريطانيا عام 1916، وهذا يعني أنّ مواطني سوريا الحاليين من عربٍ وكرد وأقلياتٍ قوميةٍ، جمعتْهم ووحّدتْهم تلك التقسيماتُ دون إرادتهم… لكنهم جميعاً ارتضوا هذا الواقع وناضلوا معاً لتحرير هذا البلد، وكانت مساهماتُ وتضحياتُ الأكراد مشهودةً، خلّدتْها معاركُ جبل الزاوية والغوطة وبياندور وعامودة، وسقط العديدُ من الشهداءِ الأكراد لتمتزجَ دماؤهم مع دماء أشقائهم العرب وغيرهم حتى تحقق الجلاءُ وأصبحتْ سوريا، بموجب العقد الوطني والنضال المشترك، وطناً مشتركاً للجميع كأمرٍ واقع، أي أن أحداً من مكونات الشعب السوري لم يُلحقِ الآخرَ بالقوة ولم يجبرْهُ على التعايش المشترك، وارتضى الجميعُ بإرادتهم الحرةِ أن يكونوا شركاءً في بناء سوريا وتحديد معالم مستقبلها، مثلما كانوا شركاء في النضال من أجل تحريرها، وذلك على أسسٍ من المساواة والاحترام المتبادل لخصوصية وثقافة كل طرفٍ ولانتمائه وحقوقه القومية.

وفي حين اختار الجانبُ الكردي التعايشَ المشتركَ مع شقيقه العربي، طوعاً واختياراً، وسعى لتعزيز وحدة هذا الوطن، مقابل الحفاظ على مقوماته القومية، فان تيارات الفكر القومي العربي، التي تشكلتْ بعد الاستقلال، تصرفتْ بمنطقٍ متشنجٍ تجاه الأقليات القومية بشكل عام والأكراد منها بشكلٍ خاصٍ، خاصة في أواخر الخمسينات بعد إعلان الوحدة مع مصر حيث تحول الاسم الرسمي لسوريا من الجمهورية السورية، وذلك تعبيراً، في ذلك الوقت، عن كونها وطناً لكلّ السوريين، إلى الجمهورية العربية المتحدة، ثم تحولت بعد الانفصال، إلى الجمهورية العربية السورية، وذلك في إنكارٍ واضح لوجود القوميات الأخرى وإنذارٍ لها بأن سوريا هي بلدُ العرب فقط، أي بلد القومية الواحدة واللغة الواحدة والثقافة الواحدة!. ومنذُ ذلك التاريخ خضعتْ سوريا، وفي إطار محاولة تزوير الحقائق التاريخية والطبيعية، لسياسة تعريبٍ شملتْ التجمعاتِ البشرية والمعالم الطبيعية، وامتدتْ حتى إلى تسمية الولادات الحديثة في المناطق الكردية التي خضعتْ أيضاً لجملة من المشاريع العنصرية مثل الإحصاء الرجعي الذي عبّر عن حالةٍ شاذةٍ في تعامل الدول مع مواطنيها، حيثَ تمَّ تجريدُ عشراتِ الآلاف من المواطنين الأكراد من جنسيتهم السورية، والحزامُ العربي الذي عبَّرَ عن تشكيكٍ عميقٍ بالولاءِ الوطني الكردي، واستهدفَ المشروعان تغييرَ الطابع الديمغرافي لمنطقة الجزيرة ذات الأغلبية الكردية، وفرض اللون الواحد والتنكر لأهمية التنوع العرقي الذي حظيتْ به سوريا، والذي يُعدُّ نعمةً، إذا تم التعاملُ معه بمنطقٍ حضاريٍّ عصري وديمقراطي ينطلقُ من مصلحة الوطن الذي يزيد تعددُ الثقافات القومية فيه من جمال لوحته الوطنية.

في حين رأتْ فيه الأوساطُ الشوفينية، ولا تزال، نقمةً لأنها تتعاملُ مع القومياتِ الأخرى وحقوقها بمنطقِ الدونية والشكِّ، مثلما كانت تتعاملُ منذ بداية الستينات مع القضية الكردية في كردستان العراق التي كان غلاةُ القوميين العرب يسمونها بالجيب العميل!، وكانت الحركة التحررية الكردية فيها تُصنَّفُ، في القاموس الشوفيني، في إطار الحركات الانفصالية في الوطن العربي مع غيرها من الحركات، مثل الحركة الشعبية لجنوب السودان وحركات أخرى. لكن ثبت مع الزمن أن إرادة الولاء للوطن الواحد انتصرت في النهاية، هنا وهناك، فقد شاهد هؤلاء الغلاة على شاشات التلفزيون، قبل نحو شهرين، رئيساً عراقياً من أصلٍ كردي هو جلال الطالباني يقسمُ اليمينَ الدستوري باللغتين العربية والكردية، ليصبحَ رئيساً لكل العراقيين، ورمزاً لوحدة العراق… كما رفض أمثالُهم في الجزائر الاعترافَ بالأمازيغ، البالغِ تعدادهم 10 ملايين نسمة، كشعبٍ له خصوصيته وحقوقُه، لكنهم الآن يسمعون في الإذاعة الجزائرية الرسمية برامج وأغانٍ أمازيغية، وينطبق الشيءُ نفسه على جنوب السودان حيث تم إقرار الكونفدرالية التي أنهت عقوداً طويلة من الحرب الأهلية.

وفي كل الحالات السابقة يفترضُ أن يتساءل الجميع.. ماذا خسرت القومية العربية في العراق، بإقرار الفيدرالية، سوى تحرير القيود التي كانت مفروضةً على الأكراد العراقيين الذين انطلقوا الآن من أربيل والسليمانية إلى بغداد للمساهمة في بناء العراق الجديد، واستعادة وتعزيز وحدته؟ وماذا خسرت أيضاً في الجزائر، بعد أن استقرت الأوضاع وخفّت الاضطراباتُ في منطقة القبائل، أو في جنوب السودان بعد أن وضعت الحربُ أوزارها وتفرغَ الجميع للعمل والتنسيقِ من أجل إيجاد الحلول لقضاياهم المشتركة والتصدي معاً لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية..

وبالمقياس نفسه، ماذا ستخسرُ سوريا من إيجاد حلٍّ ديمقراطي عادل للقضية الكردية فيها، فهذه القضية هي بالأساس قضية وطنية عامة تهمُّ كلَّ السوريين بقدر أهمية مختلف قضايا الوطن بالنسبة للمواطنين الأكراد الذين يعانون من معاناةٍ مضاعفةٍ. فهم محرومون، مرة بوصفهم مواطنين يعانون ما يعاني الآخرون من أبناء الشعب السوري، وهم مضطهدون ومحرومون مرة أخرى، بوصفهم أكراداَ تشكُّ الشوفينية في ولائهم الوطني… وفي الحالتين فإنَّ رفع الاضطهاد القومي عن كاهل الأكراد يجب أن يكون أحدَ واجبات العرب وغيرهم من مكونات الشعب السوري لكي يستعيدُ الشعب الكردي دورَه الوطني التاريخي، كما أن قضية الديمقراطية والإصلاح هي أصلاَ شأن كردي تدخلُ في إطار الحراك السياسي للحركة الكردية التي تطالبُ بعقد مؤتمرٍ وطنيٍ سوريٍ عامٍ تحضره جميعُ القوى السياسية الوطنية الفاعلة في البلاد بما فيها حزب البعث، مهمته صياغة برنامج إصلاحٍ وطني، يلبّي مطالب الداخل السوري، بدلاً من الاستجابة للضغوطات الخارجية.

يتبع في العدد القادم

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى