القسم العاممختارات

المواطن الكلب مدعواً إلى الحوار العربي الكردي!

الأستاذ: إبراهيم العلوش

مهندس مدني، كاتب وروائي من الرقة

مجلة الحوار- العدد /77/- 2021م.

قد يبدو العنوان قاسياً ولكن لقب “المواطن الكلب” هو الوصف الصحيح للمواطن في بلادنا من قِبل مسؤولي المخابرات والجيش، والأحزاب، والموظفين، الذين يتوقعون بأن المواطن خائن، وعميل، ولا يحب القائد المعجزة حامي الحمى والأفكار، وكذلك من قِبل رجال الدين المتشددين الذين يتوقعون أنه كافر أو مرتد ولا يركنون إلى توسلاته الكاذبة، وهو الوصف الصحيح من قبل أبناء العشائر لمنافسيهم من العشائر الأخرى، وهو الوصف المتبادل بين حاملي لواء القوميات ضد بعضهم البعض، بالإضافة إلى النكهات المحلية المضافة إلى صفة “المواطن الكلب” مثل هربجي وحرامي الدجاج أو ماسحي الأحذية، أو عملاء وقبضايات الأمريكان أو عملاء أردوغان!

المواطن الكلب هو الوصف الثابت الذي يعتمده أبناء طائفة دينية ضد أبناء الطوائف الأخرى، وضد أتباع المذاهب الأخرى، وهو الوصف الأكيد المتداول من قبل السلفيين ضد الصوفيين مثلاً، وهو الوصف البليغ بين أتباع الأحزاب السياسية المتناحرة، ومن الطبيعي أن يقول الماركسي إن البعثيين كلاب، والعكس بالعكس، رغم أنهما يحملان السلاح معاً لحماية بشار الأسد، ويمارسون التعذيب كجلادين في معتقلاته، ولا تستغرب أن يتداول هذا اللقب أعضاء الأحزاب بين بعضهم البعض في التكتلات الحزبية مثل أن يقول أتباع (فلان) عن أتباع (علان) إنهم مجرد كلاب يلعقون حذاءه!

وهكذا نجد أنفسنا أمام مستنقع هائل من الألقاب المتبادلة، والتي يلخصها وصف “المواطن الكلب” الذي تم زرعه في آذاننا من قبل معلمينا في المدارس، ومن قبل أخوتنا وأبناء أقاربنا الذين يكبروننا بالسن، ومن قبل الشرطة، والموظفين الحكوميين حتى ولو كانوا من أقاربنا ومن معارفنا، وكانت الرشوة هي السبيل الوحيد لصدّ هذا اللقب البغيض عن آذاننا، فالموظف يبتسم لك ويتخلى عن شتيمته مجرد أن يرى قطعة النقود مع أوراق الاضبارة، وكان عنصر المخابرات يرشدك إلى ما يجب أن تقوله له من أجل أن تتجنب الاستدعاء إلى المفرزة، أو إلى الفرع، أو إلى العاصمة، وكل تهمة بوزن، وبمبلغ مالي يعادل وزنها!

مع بدء الثورة السورية 2011 التي تعيد تشكيلنا اليوم، حصل التقارب الكبير الذي حصل في بدايتها بين السوريين، وكان اسم جمعة آزادي من أجمل التسميات التي تقارب بين العرب والأكراد، واسترجع النشطاء السوريون الخطأ الكبير الذي ارتكبوه بعدم الاستفادة من ثورة 2004 في الشمال السوري التي عتّم عليها النظام حتى سحقها ماهر الأسد، وكان صوت مشعل التمّو في ثورة 2011 من أعلى الأصوات المنادية بالحرية للسوريين، وستظل ذكراه رمزًا عزيزًا على السوريين جميعاً!

ولكن مع توحش النظام اندلق المخزون الكارثي للألقاب المخزية، وأصبح علنيًا ورسميًا وكان مشهد “بدكن حرية” الذي يقوم فيه أحد العسكر من أزلام بشار الأسد بعفس مواطن بحذائه العسكري ويردد مستنكراً: بدكن حرية!! مشهداً معبراً عن كل ما يجري تداوله من البراميل المتفجرة والتعذيب حتى الموت في المعتقلات، لقد خرج المارد الطائفي والنازي البعثي بكل ما يمتلك من التراث الهتلري وصار لقب “المواطن الكلب” كلاسيكيًا ولطيفًا أمام صياح الجلادين في المعتقلات، وأمام انفجار البراميل والصواريخ في المدارس وفي المستشفيات!

وجاءت فاشية داعش لتكمل ما بدأه النظام من وحشية، وكان لها نكهة بعث العراق الصدّامي مع الجلافة الصحراوية ونكهة البترودولار التي أضفتها الوهابية عليها، وبدأت تفترس الجميع في استغلال ديني واسع يحاول إعادتنا إلى القرون السالفة لنأكل الشعير ونركع عند قدمي الخليفة حامي الدين، وحامي الشرف، ورافع لواء الجهاد، ليفتح روما عبر مفرق (مرج دابق) وصولاً إلى إسطنبول ولاحقاً إلى فتح روما!!

بالمناسبة قامت داعش بتغيير لقب المواطن الكلب إلى ألقاب العوام والمرتدين والكفار، رغم أنها استعملت نفس طرق نظام البعث في التعذيب، وفي نشر المخبرين، وتشليح الناس أملاكهم بشتى التهم الجاهزة، ولابد هنا من توجيه التحية إلى روح نيسان إبراهيم الفتاة الكردية العنيدة التي ظلت في الرقة مع النشطاء الرقاويين والسوريين الشجعان الذي ساهموا بهزيمة داعش، ولا يزال أهالي فراس الحاج صالح وإسماعيل الحامض وعيسى الغازي ومئات غيرهم ينتظرون أحباءهم المخطوفين من قبل مجرمي داعش، بالإضافة إلى التحية لأكثر من 1200 شهيد أعدمتهم داعش في ساحات القتل، ورمت جثثهم في “الهوتة ” التي تقع قرب بلدة حمام التركمان شمال الرقة.

هربنا من وطن المواطن الكلب والتقينا في تركيا بالانتظار من أجل العبور عبر اليونان إلى أوروبا عرباً وأكراداً وتركماناً مسلمين وغير مسلمين فارين من مستنقع التهم والألقاب، تاركين بيوتنا وشقاء العمر للمجهول، لم نعد نحتمل تبدلات المشاهد المسرحية التي يتناوب على تمثيلها أصحاب المعالي، والسيادة، والرفاق، والشيوخ، ولم نعد نحتمل الأحلام العظيمة كتوحيد الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، وقيام كردستان في أربع دول دفعة واحدة، أو العودة إلى زمن ابن تيمية وفتاويه العدوانية ضد البشر!

أثناء تدفق السوريين، عرباً وأكراداً ومن كل الألوان، إلى اليونان قابلت كردياً سورياً في سوق الخضار في مدينة أورفا باركت له انتصار البشمركة على داعش وطردها من كوباني عين العرب، التفت إليّ باعتزاز، وابتسم وقال نحن الأكراد شجعان ولسنا جبناء مثلكم! ورغم معرفتي بأنه هارب مثلي وكلامه مجرد أعراض لمرض استخدام ألقاب المواطن الكلب، فقد تركته يبحث عن بندورة وباذنجان بسعر أرخص، وينتظر تقلبات المسرحية السورية التي ما تزال تتوعد الجميع بأهوالها!

ولكن الأكراد في أورفا التركية الذين يؤلفون حوالي 60 بالمئة من المدينة، كانوا أكثر انفتاحاً، وأقل ضجيجاً قومياً، وأكثر دبلوماسية منا نحن السوريين القادمين من وطن “المواطن الكلب”، ورأيتهم أيام احتلال كوباني عين العرب يساعدون العائلات بتنظيم وبصمت، وقد قال لي أحدهم يوم محاولة الانقلاب العسكري في تركيا 15 تموز 2016 إننا نقف مع أردوغان ضد الطغمة العسكرية، لأن تجربتنا مع العسكر كانت أليمة، وكان المواطنون يُضربون في الشارع، وكانت الصلاة شبه ممنوعة، وإمام المسجد يجب أن يلبس طقماً غربياً، وعصا الموظف الرسمي تهشّم أكبر رأس واقف في الطابور. بينما ما يزال الكثير من أكراد سوريا يعتبرون كل من لجأ إلى تركيا من العرب هو أردوغاني، ولكنهم يعفون اللاجئين الأكراد من هذه التهمة الشاملة لأربعة ملايين إنسان، وهذا هو نفس منطق نظام الأسد في التخوين!

أما عرب أورفا فممزقون بين الفوضى وعدم الإيمان بالذات بعيدًا عن التهويمات القومية التي لا تعني لهم أكثر من شرب القهوة العربية والحفاظ على اللهجة، ووحدهم المتدينون منهم قد اشتركوا مع الأتراك والأكراد وقاموا بمساعدة السوريين في بدايات اللجوء وضمن المؤسسات الخيرية التركية شديدة التنظيم إلى درجة مدهشة وتثير الإعجاب، وقد استفاد منها السوريون جميعاً من عرب وأكراد وتركمان ومن مختلف المذاهب!

وصلنا إلى أوروبا ووجدنا أنفسنا في عالم آخر لا يعترف بلغتنا ولا بقومياتنا إلا كديكور تراثي، ووجدنا صغارنا لا يفهمون علينا، ولا نفهم عليهم لأنهم يكتسبون معارفهم بلغات جديدة، لم نستطع إتقانها نحن القادمين بعمر كبير من وطننا الذي وصمنا بصفة “المواطن الكلب”. نحن هجرنا بلادنا وهاهم أولادنا قد يهجرون لغتنا وماضينا.. في سبيل الخلاص!

وعندما أسأل نفسي لماذا خضعنا لكل هذه القسوة، لا أجد جواباً إلا أننا لم ننظر إلى بعضنا البعض كبشر أحرار، وإنما ككائنات قومية أو أيدلوجية أو مذهبية، وقد نكون مثل الدواعش نعيش في كهوف ومغارات مظلمة، ولعل ظلام هذه الكهوف العمياء واستحالة الحوار فيها، وأمراضها الفكرية قد أوصلتنا إلى هذه النتيجة العنيفة!

وجدنا أيضاً أن الناس في أوروبا لهم ذات الوزن وذات المكانة، ويخاطبونك باحترام حتى ولو كانوا من أنصار اليمين، وتفاجأنا بأن المسؤول يركب البسكليت وليس “المرسيدس بنز”، التي تحلو للمسؤولين في بلدنا، الذين يبيعون ضمائرهم من أجل أن يستلموا سيارة فخمة، أو من أجل أن يركبوا مع مسؤول يستعرض إمكاناته وهو يتجول فيها. ولا يقوم المسؤول الأوروبي بالزعبرات القبلية أو الطائفية وسط زعرانه ومحازبيه، فهو مجرد مواطن له ما له، وعليه ما عليه!

الآن عرفنا حجم المستنقع الذي كنا فيه، وحجم الحقد المتبادل بيننا وقسوة الألقاب التي نتداولها بيننا فهل نستطيع أن نتحاور؟

يجب أن ينطلق الحوار بيننا اعتباراً من حق الاعتراف بنا كبشر نأكل ونشرب ونذهب إلى المرحاض، ونقول ما يخطر ببالنا، قبل أن ندخل إلى فصل الأيدولوجيات العظيمة والأهداف التاريخية المجيدة، يجب أن نعرف بعضنا أولاً كبشر يحلمون بقول ما يريدون خارج سلطة رهبان الدولة البوليسية وخارج سلطة رجال الدين المتعنتين، وخارج سلطة العصابات المسلحة التي تحمل آلهة التمر القومية أو الاشتراكية وتأمرنا بعبادتها، وكذلك خارج الألقاب المهينة..

يجب ألا ننسى المصائب التي حلّت بنا، وألا نتساهل مع مرتكبيها اعتباراً من جرائم النظام التي دمرت الخريطة السورية، مروراً بجرائم داعش في تدمير المدن والقرى وترحيل أهلها مثل أكراد الشمال وقبيلة الشعيطات قرب دير الزور، والتحقيق في الجرائم التي ارتكبت في كوباني عين العرب و إعادة إعمارها كمحطة للاهتمام بإرادة الناس وقدرتهم على البناء وصد المجرمين، وصولاً إلى تدمير الرقة الذي كسر قلوب مئات الألوف من أبنائها بسبب المعارك بين داعش والقوات التي اقتحمتها، ومحاسبة كل من تعمد التدمير أو قصّر في واجبه في حماية الناس، ليتسبب مع غيره بقتل أكثر من ستة آلاف من أهالي الرقة ولاجئيها بالإضافة إلى تدمير 80 بالمئة من المدينة، علماً بأن الاتفاقات مع داعش والأطراف المتحاربة من عرب وأكراد وأمريكان كانت ممكنة وتم تنفيذها في العديد من المدن الأخرى مثل الطبقة ومنبج دون أن تصاب بكل هذا الدمار المروّع الذي ما تزال متروكة فيه دون تعويض على أهلها المنكوبين!

ولابد من إعادة الاعتبار للإنسان وعدم وصمه بصفات عنصرية وعدم تحميل الأبناء وزر جرائم آبائهم أو من ينتمي إلى قوميتهم أو إلى مذهبهم الديني أو الأيديولوجي، وحتى أبناء الدواعش يجب ألا نصمهم بتلك الوصمة التي تدفعهم لتكرار ما فعله آباؤهم من جرائم، يجب أن نقبلهم كبشر وأن نحترم إنسانيتهم ونحاكم من ارتكب جريمة منهم، وأن يتم التحقيق بمجازر الباغوز التي تسببت بها كل من داعش والقوات المهاجمة حسب تقارير الأمم المتحدة، يجب أن نرتفع عن الأحقاد لكي لا نصنع دواعش جدد ولا شبيحة جدد يدمرون بلادنا من جديد بعد عقد أو عقدين  من الزمن!

نحن الذين كنا نحمل لقب “المواطن الكلب” أعدادنا هائلة ومن الممكن أن نشكل وزناً ليس قليلاً في معادلات الحوار وإعادة السلام والتعايش بين أهالينا وأقوامنا، وبدوننا لن يجد المسؤولون الحزبيون والدينيون والعشائريون جمهوراً لهم، فهل تزيلون عنا الألقاب المخزية هل ترضون أن تكونوا مجرد بشر مثلنا؟

لا اريدك أن تصبح عربياً ولا أريد أن أصبح كردياً ولكننا نريد أن نعيش كبشر ونتعلم ونستمتع بالحياة كمواطنين أحرار، لا نعبد الأسد، ولا خليفة داعش ولا أبطال الخزعبلات الطوباوية، وأن نحترم بعضنا خارج الأهداف العظيمة والعقائد الأسطورية التي سحقت كرامتنا بالدمار و بلقب “المواطن الكلب”!

لا نريد توحيد قصة ممو زين مع قصة قيس وليلى.. ولكن نجاح لغة الحوار بيننا، ولو بشكل نسبي، سيمّكن الأجيال القادمة من بناء قصص حب أجمل وأكثر انفتاحاً من حكايات الأقوام المنغلقة على نفسها، خاصة وأن أجيالنا القادمة ستعيش في عالم مفتوح وغير آبه بنا إذا لم نلحقه وننتمي إليه!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى