منذ سنوات ولمرات عدة دعا المسؤولون الروس القائمين على الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا إلى التحاور والتفاهم مع النظام كجزء من الحلّ السوري، مع ضرورة الابتعاد عن «الرغبة الانفصالية» وعدم الاعتماد على الحليف الأمريكي الذي يتنازل بسهولة عن دعمه لأية قوى صديقة تُسانده، من أجل مصالحه، والأمثلة عديدة! ويوضحون قدرتهم بالتأثير القوي على النظام، إِن تلقوا إشارة حوارية للتفاوض من قبل الكُـرد، لكون الحوار كفيل بتحقيق الحلّ السياسي للأزمة السورية.
هنا يتبادر إلى الذهن، ماهية الضمانات التي يمكن أن يُقدمها الروس للكُـرد لتعزيز بوادر الدفع نحو التلاقي والحوار، رغم أنه جرى ذلك من قبل دون نتيجة حقيقية تُذكر!
الجدير بالذكر أن للسياسة البراغماتية الروسية اتجاه الأقليات والقوميات دور مريب وسيء منذ القدم، أما بعد تدخل روسيا في الحرب السورية خلال السنوات الماضية أثبتت ذلك بشكل واضح، خاصةً عندما منحت النظام التركي الفاشي الضوء الأخضر بالمرور عبر حدودها الجنوبية إلى الأراضي الشمالية السورية بموجب صفقات وتفاهمات آستانة- سوتشي، واحتلال مناطق عديدة؛ وبالأخص اتجاه حقوق القومية الكُردية، فهي التي سهَّلت على الأتراك باحتلال المدن الكُردية «عفرين ورأس العين وتل أبيض»، بِنية إفشال مشروع الإدارة الذاتية والقضاء على الحُلم الكُردي لنيل الحقوق القومية، حيث أَن يوميات السنوات الثلاث ونصف من احتلال عفرين شاهدةً على ذلك، فهل يُمكن الوثوق بالدبلوماسية الروسية؟ بالطبع ليس بسهولة! لما لتاريخها الغادر للقوميات المتواجدة ضمن خارطتها الجغرافية قبل من هي خارجها، وخاصةً هي الحليف التاريخي والمُسيطر الفعلي على قدرات النظام السوري في مواجهة المجتمع الدولي، وتمتلك حق النقض في مجلس الأمن الدولي لتلبية استراتيجيتها في المنطقة مُقابل النفوذ الأمريكي! فما بال المرء بالنسبة لكُـرد سوريا – قواهم مُشتتة أصلاً- الذين قُضمت ما يقارب نصف أراضيهم التاريخية من قبل الفاشية التركية ومرتزقتها بحجة تهديد أمنها القومي، وبتواطؤٍ من النظام وروسيا! وذلك في إطار عملية تغيير ديمغرافي حقيقية ممنهجة للمناطق الكردية، ومن ثم التفاوض بها أثناء الحل النهائي.
في الواقع، إن أي حوار جدي بين الإدارة الذاتية والنظام له استحقاقات دستورية تتطلب ضمانات قانونية دولية، لحدثه أمرٌ يُعيد الجزء الأصعب من حلّ الأزمة بعد أكثر من عقد مارس فيه النظام القتل والقمع ضد شعبه في ظل توازنات وصراعات إقليمية ودولية مقيتة، وقد يحقق الحلّ السياسي مُصالحةً بين مختلف المُكونات السورية التي جار عليها النظام والقوى المؤثرة على أرض الواقع، وهو الهدف الأسمى والواعي لمختلف السوريين الذين خسروا ما يملكونه خلال الحرب المسعورة من أحباء وأراض وممتلكات وأموال.
لذا الحوار الحذر بين الإدارة الذاتية والنظام ضرورة منطقية لأسباب تتعلق بالتعايش السلمي بين السوريين من أجل بناء مستقبل أفضل لأجيال تتهيأ لمرحلة العدالة الانتقالية، والوقوف صفاً واحداً أمام التحديات مع الاحتلال التركي والمرتزقة اللاهثة، سيما وأن الطرفين قد نجحا في بناء تفاهم أمني عسكري من قبل، مع وجود حاجة مصيرية للسوريين في البحث عن توافقات مُساعدة ودَاعمة لهذا الحوار بضمانات روسية جدية وموافقة أمريكية بعد تنازلات الأخيرة للأولى عن الملف السوري، وبإشراف هيئات الأمم المتحدة، «كالاتفاق على وحدة سوريا والعمل من أجل البناء والإعمار، والوقوف معاً في مواجهة الاحتلال التركي مستقبلاً، وإيلاء خصوصية كاملة لحقوق الشعب الكُردي»، هذه الأمور تشجع الطرفين على بدء حوار جدي، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار هواجس الكُـرد المُحقة، كاحتمال الانسحاب الأمريكي المُفاجئ من سوريا، كما يجري في أفغانستان والعراق وغيرهما، التهديدات التركية المتواصلة وإمكانية حصول صفقة تركية-أمريكية جديدة، والآثار الفظيعة لجرائم قوات تركيا ومرتزقتها التي تتجلى بأبشع صورها في ارتكاب جرائم التغيير الديمغرافي للمناطق الكُردية وتتريك المنطقة الشمالية لسوريا بكل التفاصيل، كما يُعرف أن أي تحرك عسكري مُنفرد للنظام مدعوم من حلفائه نحو شمال البلاد أو شرقها دون تفاهم الكبار له مُضاعفات مُدمرة.
أمام هذا الواقع المُعقّد، لروسيا نفوذ قوي، إذ تُسيطر بقوتها العسكرية الضخمة على أجزاء واسعة من سوريا ولها تأثير قوي وواسع على النظام، وهي بنفس الوقت مؤهلة لتنظيم تفاهم وحوار بين الإدارة الذاتية والنظام، خاصةً مع بدء تفاهماتها مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد لقاء بايدن-بوتين في جنيف، وتسلّمها الملف السوري توافقاً، بعد التوصل إلى آلية إدخال المساعدات الدولية إلى الداخل السوري والحديث عن عدم النية في تغيير النظام… فإن الأنظار موجهة لدور روسي جدي في الضغط على النظام لتحقيق حلّ مقبول يحقق رؤى متوافقة بين الطرفين والحفاظ على وحدة الأراضي السورية ويُحقق للكُـرد هويتهم وحقوقهم القومية دستورياً في إطار دولة لا مركزية تعددية ديمقراطية، لأنه حلٌّ بات يُشكل مصلحة سورية-روسية استراتيجية ضمن سياسة تعزيز الأوراق ومُنافسة النفوذ الأمريكي في شرق سوريا.
وإن نجاح الروس يحتاج إلى ترجمة فعلية ضامنة للحوار ينتهي إلى اتفاق قانوني يُقرِّب السوريين من أجل إيجاد حلّ سياسي يكون مُنطلقاً لاستعادة الاستقرار والسلام للوطن وأهله، ثم البدء بإعادة الإعمار تطلعاً إلى مستقبلاً مُشترك.
* جريدة الوحـدة – العدد /332/- 19 آب 2021م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).