مجلة الحوار – العدد /77/ -2021م
يعد الأستاذ إبراهيم أحمد أحد أهم المثقفين والساسة الكورد في القرن العشرين. ولد عام 1914 بمدينة السليمانية في كورستان العراق. تخرج من كلية القانون بجامعة بغداد عام ١٩٣٧. وقام بنشاط سياسي وتنوري مبكر، فقد أسس منظمة باسم الشباب الكورد (لاوانی کورد) في مدينة بغداد، التي أصدرت مجلة باسم هدية الشباب (دیاری لاوان).
بعد انهيار جمهورية مهاباد ساهم في تأسيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني في إيران، وترأس منظمتها في مدينة السليمانية عام 1947، سجن لمدة عام ونصف سنة 1948، لينتقل للعمل السري حتى ثورة تموز 1958. انتخب عام ١٩٥١ في المؤتمر الثاني للحزب الديمقراطي الكردستاني – العراق سكرتيرا للحزب، وأصبح رئيسا لتحرير جريدة خبات عام 1961.
صاحب امتياز جريدة كردستان، الذي كان يرأس تحريرها الرئيس العراقي الراحل جلال الطالباني. إضافة إلى نشاطه السياسي كان قاصا وروائيا، بل شاعرا وصحفيا بارزا… من أهم كتبه، رواية مخاض الشعب (زاني كه ل)، البؤس (كويره وه ري)، ومن أوائل كتبه السياسية: الأكراد والعرب، الذي كتبها ونشرها سنة 1937، والتي نعيد نشرها هنا في مجلة الحوار، كونها أحد الخطوات الأولى لمسيرة الحوار والتضامن الكوردي – العربي. توفي إبراهيم أحمد في لندن عام (2000)
——–
بين الأكراد والعرب سلام ووئام
لسنا نقصد من كلمتنا هذه توضيح العلاقات التاريخية التي تربط الأكراد بالعرب إذ أن هذا يحتاج إلى بحث ودرس عميقين لا تتوفر لدينا وسائلهما الآن، وكل مبتغانا هو أن نرد على بعض ما بثه المغرضون من الآراء المسمومة الخاطئة عن نوايا الأكراد وموقفهم من العرب بمناسبة قضية الأسكندرونة.
إذا نظرنا إلى سير العلاقات بين الأكراد والعرب منذ أيام الفتح الإسلامي إلى اليوم نراها على أحسن ما تكون عيها العلاقات بين الشعوب المجاورة من ود وسلام و وئام ولا عجب , فإن الأكراد قد اعتنقوا الإسلام بإخلاص وتقبلوا مبادئه بكل ما تضمنها من وجوب نسيان الفروق بين مختلف الشعوب المسلمة فشاركوا في بناء المدنية الإسلامية تلك المدنية السامية مساهمة فعلية في كل نواحي نشاطها المتعدد , فمن يدرس التاريخ الإسلامي يرى بين كبار المؤرخين والشعراء والأدباء والفلاسفة والقادة الكثيرين ممن ينتمون إلى العنصر الكردي وقد خدموا اللغة العربية والثقافة الإسلامية حتى كأنهم فنوا فيها ولم يعودوا يشعرون بأي فارق عنصري أو لغوي وإذا كنت لا تعرف الآن إلا القلائل من هؤلاء فما ذلك إلا لأن الناس في تلك العصور لم يكونوا يهتمون بهذه المسائل و لأن الأكراد في الوقت الحاضر لا يتباهون بما قام به أجدادهم نحو الإسلام ومدنيته من الخدمات الواجبة شأن غيرهم من الشعوب المسلمة.
وهذا الأمر هو وحده ما جعل بعض المؤرخين يغمطون حق الأكراد ويقللون من أثرهم في بناء المدنية الإسلامية. إن الأكراد لم يكتفوا بالمساهمة في الحياة الثقافية للإسلام وإنما قاموا بدور مهم في الدفاع عن كيان الإسلام ومدنيته ضد الهجمات المتوالية التي كانت توجه إليهما من الشرق والغرب وليس بخاف على أحد الدور الذي لعبه البطل الإسلامي الخالد صلاح الدين الأيوبي في محاربته الصليبيين.
إن العلاقات التاريخية لم تتوقف على مساعدة الأكراد للعرب، وإنما العرب أيضا كانوا يساعدون الأكراد ويؤازرونهم، ولكن طبيعة الخلافة وأوضاع المدنية الإسلامية كانت تحد من مساعدات العرب للأكراد كيفية لا كمية، إذ كان العرب يظهرون مساعدتهم للأكراد وتقديرهم لهم فيما يعاملونهم به من الاحترام وما يكنونه لهم من العطف وما يقدمونه لهم من المساعدات المادية والمعنوية في الملمات.
إن ما أسلفناه من الوصف يطبق على العلاقات الكردية العربية في جميع أدوارها، ولكننا نجعله يخص أدوار الخلافة وزمن ملوك الطوائف لأن انتقال الخلافة إلى الأستانة يدخل في الوسط عاملا آخر.
في نير العثمانيين
لم يستطع السلطان إخضاع الأكراد إلى سلطته كما لم تستطع ذلك أية سلطة أخرى من قبل، فظل الكرد مستقلين في جبالهم لا يتبعون الخليفة إلا اسماً. إن انتقال الخلافة إلى الأستانة قلل من الاتصال المباشر بين الأكراد والعرب، ولكن الكرد ما فتئوا يقومون بواجبهم تجاه المدنية الإسلامية فيمدونها برجال يساعدون العرب ويساهمون معهم في إعادة النشاط إليها وتجديد قواها.
لسنا الآن بصدد بيان الحالة أيام الإمبراطورية العثمانية، ولكن لا بأس من اقتباس قطعة من الرسالة التي بعث بها الأمير مصطفى فاضل (حفيد محمد علي باشا) إلى السلطان عبد العزيز يصف له حالة الدولة وما وصل إليه الشعب من التعاسة والشقاء ويحثه على الإصلاح: ((خلت بلادك من رأي عام فأصبح عمالك غير مسؤولين أمام رعيتك، واستباحوا كل منكر وصار الناس طائفتين حاكم يظلم ولا من يردع ومحكوم يُظلم ولا من شفيع، حاكم يدعي أن سلطانه من سلطانك لاحد ولا قيد ويتذرع بذلك في النقائص والمعاصي ومحكوم يهوى إلى حضيض الذل بما يُساء إليه ولذا تولى اليأس الرعايا وأنوا تحت أحمال المظالم وهم صامتون وفات الأوان)).
إذ كانت الرأسمالية الغربية في أوج عظمتها آنذاك فكانت تريد وقوداً لمصانعها وأسواقاً لبضائعها ومحلاتٍ لاستثمار رؤوس أموالها الوافرة وكانت تجد كل ذلك سهل المنال في بلاد الرجل المريض. لقد كان التنافس بين الدول الرأسمالية قد وصل أشده وكان العالم يجمع الوقود للحرب العالمية عندما كانت مبادئ الثورة الفرنسية ثورة 1789 في بدء انتشارها بين الشعوب العثمانية، لم تكن الحركة التحريرية قاصرة على بعض العناصر دون غيرها لأن استبداد حكومة الباب العالي لم يكن مقصوراً على عنصر دون آخر وإنما كان شاملاً بقية العناصر العثمانية أيضاً وكان الشبان الترك الذين تلقوا روح الثقافة الغربية وتشبعوا بروح الحرية و الإخاء والمساواة لا يطيقون الصبر على هذا الجور فوطدوا العزم على قلب نظام الحكم وتعاونوا مع العناصر العثمانية غير الترك “القضية السورية ـ صفحة45″ فنجحت حركة سنة 1908 الانقلابية بمؤازرة كافة العناصر العثمانية وقابل الناس الدستور الجديد بحماس شديد. ثم افتتح مجلس المبعوثان العثماني وجاء مندوبو مختلف العناصر العثمانية لتربع كراسي النيابة. جاؤوا وملؤهم الأمل للتعاون مع أحرار الأتراك لمحو ما أفسده النظام الاستبدادي القديم وإشادة حكومة دستورية عادلة لا تفرق بين عنصر وآخر من مختلف عناصرها ” ثورة العرب لأسعد داغر صفحة 49″.
ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث. لأن الشبان الأتراك قد أسكرهم فوزهم على خصومهم من رجال العهد الحميدي وذهبوا إلى غاية أبعد من الدستور وإعلان المساواة بين مختلف العناصر. تلك هي الأخذ بالقومية التركية ووجوب سيادتها على بقية العناصر العثمانية في إدارة دفة الحكم فقد كان هؤلاء الاتحاديون قد شهدوا ما حدث في أوربا من الحركات القومية وتشبعوا بروح العصبية الجنسية.
عندما اتفق الاتحاديون مع العناصر العثمانية من غير الترك ولاسيما العرب وتعاونت هذه العناصر على قلب نظام الحكم أملاً بالحرية والمساواة كان موقف رجال تركيا الفتاة دقيقاً ودقيقاً جداً يتطلب شيئاً كثيراً من المرونة والحنكة السياسية تجاه هذه العناصر فقد كان هذا الظرف فرصة سانحة للاتحاديين لتوثيق عرى هذا الاتفاق وألا يدعو للقوة مجالاً بينهم وبين هذه العناصر وقد جاء مندوبو العناصر العثمانية المختلفة ولم يكن يدور في خلدهم الانفصال عن جسم الدولة، غير أن شباب الترك المتحمسين لم يقفوا تجاه العرب وبقية العناصر موقف الند للند كما كان يُنتظر هؤلاء بل وقفوا موقف من بيده السلطة ويريد أن يقبض على زمام الأمور السياسية والإدارية وأن يكون سيداً مطاعاً أضف إلى أن هؤلاء الاتحاديين عمدوا إلى القوة في سياستهم فشرعوا في عقد القروض الخارجية وإنفاقها على الجيش لضرب العناصر العثمانية من غير الترك إن بدا منها حراكاً ـ عن القضية السورية ـ وعهدوا إلى تنفيذ سياسة التتريك والقضاء على كل نأمة عنصرية وإنشاء امبراطورية طورانية تحيي مجد جنكيز خان وتيمورلنك وتعيد عهد الذئب الأغبر ـ ثورة العرب الكبرى ص322 ـ
وقد ألف الكاتب الكردي جلال نوري كتابا سماه “تاريخ المستقبل” قال فيه: ((يجب على الحكومة أن تُكرِه السوريين على ترك أوطانهم وأن تحول اليمن والحجاز إلى مستعمرات تركية لنشر اللغة التركية التي يجب أن تكون لغة الدين، ومما لا مندوحة عنه للدفاع عن كياننا أن نحول جميع الأقطار العربية إلى أقطار تركية لأن النشء العربي الحديث صار يشعر بعصبية جنسية وهو يهددنا بنكبة عظيمة يجب أن نحتاط له ـ ثورة العرب الكبرى ص 56 ـ
تلك هي السياسة التي سار عليها الاتحاديون تجاه العرب والكرد وغيرهم من العناصر العثمانية التي ساعدتهم في تسنم زمام الحكم وبهذه الطريقة كافأ هؤلاء القوم أنصارهم ومؤيديهم من الشعوب غير التركية.
فلما وجدت هذه العناصر أن ما كانت نفوسهم تصبوا إليه أصبح حلماً بعيد المنال ولا يمكن التفاهم مع الأتراك وطدوا العزم على توطيد الجمعيات الوطنية للنضال في سبيل حقوقهم المهضومة والمغتصبة فتأسست الجمعيات والنوادي القومية للمطالبة بحقوقهم والسعي وراء تحقيق مطالبهم القومية بالطرق السلمية المشروعة ضمن حدود القوانين وقد تألف بمساعي نواب العرب والكرد والأرمن والألبان *حزب الائتلاف* الذي كان القصد منه الجمع بين العناصر العثمانية المختلفة تحت شعار الأخوة والحرية والعدالة والمساواة ومناوأة الاتحاديين في سياستهم القومية الهوجاء.
كانت العلاقات بين الكرد والعرب في هذا الدور على أتم ما يكون من الود والإخاء بل مما زاد في هذه العلاقات متانة على متانتها هو دخول عامل آخر في الوسط وهو التعاون والتآزر في محاربة العدو المشترك ووحدة الهدف والغاية إذ كل يريد تحرير شعبه من نير الأجنبي ويسعى إلى سعادة شعبه ووطنه ولذا كثيراً ما حدث أن دخل شاب كردي الجمعيات العربية ويسعى لحرير العرب كما يسعى إلى ذلك العربي.
في الحرب العالمية
اندلعت نيران الحرب العالمية وكان العرب قد ملوا وعود الأتراك وتسويفاتهم وضاقوا بمظالمهم واستبدادهم ذرعا، فدخلوا الحرب إلى جانب الحلفاء سعياً وراء تحقيق استقلالهم الذي وعدهم الحلفاء بإعطائه إياهم، والبدء بتقسيم البلاد العربية إلى بلاد منتدبة ومناطق للنفوذ وغير ذلك من الحوادث التي يعرفها القراء.
أما موقف الأكراد تجاه الترك في الحرب العامة فكان مختلفاً عن موقف العرب، وذلك لحسن ظنهم الخاطئ في الحكومة العثمانية، واعتمادهم على وعودها الخلابة، وتعلقهم الزائد بالخلافة وتأثرهم بالدعاية الدينية التي كانت الحكومة تبثها بينهم آنذاك، فوقفوا بجانبها طيلة سني الحرب ولم يهتموا بالدعايات التي كان يبثها الحلفاء، ولا ركنوا إلى تحذير بعض الوطنيين الأكراد الذين كانوا قد عرفوا نوايا الحكومة التركية السيئة. ولذا نراهم مخلصين ليس في الدفاع عن الخلافة فقط، بل وفي الذود عن الأناضول ضد هجمات اليونان. يشير سليمان نظيف إلى دور الأكراد في الدفاع عن تركيا ومساهمتهم في معركة (سقاريا) الشهيرة بقوله في خطابه يوم تأبين الجندي المجهول ((أغلب الظن أن هذا الجندي هو جندي كردي)).
طُرِد اليونانيون من البلاد ولم يبق أي خطر خارجي يهددها فبدأ الأكراد يطالبون الحكومة التركية بإيفاء ما وعدت وما كان ما وعدت به استقلالاً أو انفصالاً، وإنما كان حقوقا طبيعية ضرورية لتفاهم الشعبين و تعاونهما، أراد الكرد أن يكونوا مع الترك على قدم المساواة فردت الحكومة التركية على هذا الطلب المشروع بسياسة عوجاء قد برهنت التجارب على سقمها وفسادها، ألا وهي سياسة ((التتريك)) التي مشى عليها الاتحاديون من قبل، مما أغار عليهم صدور الشعوب العثمانية الأخرى وسبب العداء والشقاق بين عناصر الدولة الواحدة، ولا حاجة إلى إيضاح هذه السياسة البغيضة فالعرب قد ذاقوا من مرارتها الشيء الكثير.
دور الثورات
يئس الكرد من إمكان الحصول على شيء من الحكومة التركية بالطرق المشروعة وسئموا معاملتها القاسية، فضاقت بهم السبل فركنوا إلى الثورة ملجأ الشعوب المضطهدة، ووليدة الإرهاق، وحاملة علم الحرية والانعتاق المغموس بالدماء.
ثار الكرد علهم ينالون بالقوة ما لم ينالوه بالطرق المشروعة والتوسلات والمفاوضات. ولكن أنى للحق الأعزل أن يقاوم القوة الغاشمة! ومع ذلك فلولا مساعدات الدول للحكومة التركية بتضييقها الخناق على الثوار وإسدائها المساعدات المادية والمعنوية إلى الحكومة، واستعمال جميع هذه الوسائل مهما كانت قاسية ووحشية للقضاء على ثورة الأكراد التحريرية… نعم لولا هذه الظروف القاسية لكان للأكراد من إيمانهم بحقهم المشروع واستبسالهم في جهادهم قوةٌ هائلةٌ تكفي لانتصارهم …
ولكي نظهر للقارئ الأعمال الوحشية التي ارتكبتها الحكومة التركية في قمعها لهاتيك الثورات، نقتبس فقرات من كتاب (أتاتورك) المطبوع بالعربية حديثاً وبذلك ننقذ أنفسنا من تهمة التحيز والتشيع، إذ أن الكتاب المذكور نشر دعاية للحكومة التركية بين الناطقين بالضاد.
يقول الكاتب:
((أي والله لقد اندحر الأكراد وكان القضاء عليهم مبرماً رهيباً! الطائرات تصب عليهم من السماء دماراً والمدافع من فوهاتها ترسل حمماً، والبنادق ترسل ناراً والسيف يحز الرؤوس، والخناجر تبقر البطون وأربعون ألفاً من الجنود ألهبهم كمال بخطبة نارية يقفزون في بلاد الكرد من رابية إلى قمة، ثم إلى الوهاد ينحدرون والناس يقتلون، والقرى يحرقون … وتشرق شمس 28 يونيو 1925 على مشانق تتدلى منها حبال تتأرجح بجثث خمسة وأربعين زعيما من زعماء الأكراد …
وأخيرا ها هو زعيمهم الأكبر الشيخ سعيد يتقدم إلى المشنقة مبتسماً. (صفحة 144)
يا له من منظر رائع! ويا لها من بطولة خالدة! كيف لا يحمر وجه القرطاس خجلاً إذ تسجل عليه هذه الجرائم والفظاعات…
يا لها من مفخرة! أتراهم كيف يفتخرون بحرق القرى الآمنة وبقر البطون الحابلة وحز الرؤوس البريئة ولكن لا بأس فلابد للاستقلال من ضحايا.
أنين المظلوم وضجيج الظالم
لم تقتصر أعمال الحكومة التركية تجاه الثورات الكردية على هذه الفظاعة والوحشية، وإنما حاولت جهدها تشويه حقائق الثورة وتلويث مصادرها وإلباسها ثوب الرجعية في نظر العالم الخارجي. فكانت تنعت الثوار بالعصابات والعصاة والدراويش والثورة بمشاغبات الرجعية لقلب الحكومة المدنية وإرجاع الخلافة وكانت تنسب الثورة إلى الدعايات والأموال الأجنبية والذهب الإنكليزي وغير ذلك من النعوت.
إننا لا نكلف أنفسنا الرد على هذه المزاعم التي ردت الأيام عليه أحسن رد ولكننا نتساءل: ألم تنعت السلطات الثائر في جميع الأزمان بالشقي المتمرد والمجرم السفاك؟
ألم تكن جميع الحركات التحررية في نظر الحاكمين حركات هدامة ورجعية ومؤامرات دنيئة سافلة؟
وأية قوة استبدادية عزت الثورة على طغيانها إلى غير الدسائس الأجنبية والأيادي الخفية التي تعمل من وراء ستار؟
وهم أنفسهم قادة الحركة التحريرية التركية الذين دافعوا عن بلادهم وحقوقهم ضد المعتدي الأجنبي زعماء الحكومة التركية الاستعمارية اليوم.
ألم يقل العدو إنهم أشقياء متمردون؟ ألم يحكم الخليفة على مصطفى كمال بالإعدام لتمرده؟
ألم تنعت الصحف الاستعمارية حركتهم بحركة سلب ونهب وزعيمهم بزعيم عصابة من اللصوص؟
ألم تكن الدول الاستعمارية ترجع سبب حركتهم الاستقلالية إلى الدسائس الأجنبية؟ وتقول: إنهم إنما يعملون لحساب دولة أجنبية تعينهم بالمال وتمدهم بالعتاد؟
ثورة رجعية؟!
يقولون: إن ثورات الأكراد كانت دائما ثورات دينية رجعية ترمي إلى إرجاع الخلافة وعهد الدراويش. ونحن نقول: ألم تكن ثورة مصطفى كمال في بادئ أمرها حركة دينية لطرد الكفار من ديار الإسلام وإنقاذ الخليفة من أسر الكفرة؟ أليس هو الذي كان يقول للناس في أرضروم: إنه نائب الخليفة وممثله جاء يحض الناس على إعلان الحرب الدينية والجهاد المقدس (فثوروا لكرامتكم ودافعوا عن عرينكم وعن دينكم وعن أعراضكم الملوثة وتطوعوا في الجيش الأهلي لتقهروا أعداءكم وأعداء الإسلام). ثم اسمع كيف يختم خطابا ألقاه على أعضاء المؤتمر في سيواس في بدء حركته وفي الختام أبتهل إلى الله واهب الآمال، الذي لم ينس أمتنا التي دافعت عن هذا الوطن المبارك، وهذا الدين الأحمدي الجليل- وستدافع عنهما إلى يوم القيامة – والذي لم ينس جل شأنه مقام الخليفة والسلطنة، أبتهل إليه أن يدفع بنا إلى النصر والتوفيق بعد أن أخذنا على عاتقنا الدفاع عن حقوقنا المغصوبة المقدسة – آمين – *كمال أتاتورك ص 72*
فهل كان الشيخ سعيد زعيم حركة الدروايش وقائد الثورة الرجعية! أكثر اعتماداً على شعور الناس الديني وأعظم استغلالاً له من مصطفى كمال زعيم الحركة الاستقلالية وقائد الثورة العلمانية!؟ وهل كان مصطفى كمال يدافع عن الدين والخلافة معاً؟ أم كان يستعملها وسيلة لبلوغ مآربه التحريرية؟ إذا كان هذا هو الواقع فلم لا يستطيعون الاعتقاد بأن زعماء الثورة الكردية أيضاً، إذا كانوا قد أثاروا شعور الناس الديني، فهم إنما صنعوا ذلك لاستمالة الجماهير إلى جانبهم في كفاحهم في سبيل ((الدفاع عن حقوقهم المغصوبة المقدسة؟)). لماذا لا يستطيعون فهم ذلك وقد أيدته نتائج محاكمات زعماء الثورة، والطرق التي سلكتها الحكومة في قمعها للثورات، إذ كانت تقضي على كل شيء كردي لا على كل شيء رجعي؟ ثم إذا كانت الثورات رجعية ودينية، فلم ينفرد الأكراد بالدفاع عن الرجعية وعن الدين!؟ أليس بين الترك متدين يناصر الخليفة؟ وكيف تكون الثورات استقلالية ورجعية ودينية في آن واحد؟[1]
كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن تلك الثورات لم تكن من الرجعية في شيء اللهم إلا إذا اعتبرت مطالبة الشعب بحقوقه رجعية.. ولا يخفى على متفرج منصف أن تلك الثورات كانت من الثورات التحريرية المقدسة التي تقوم بها الشعوب المستعبدة للانعتاق من نير أسيادها.
إن أعمال الحكومة التركية تجاه حركة الأكراد التحريرية ترينا بصورة واضحة إحدى مناقضات القومية بمعناها الضيق إذ نرى الأمة التي تعتمد في كفاحها ضد الاستعمار على نظريات حق تقرير المصير وتتمسك بحق السيادة الشعبية، وضرورة حكم القوم نفسه بنفسه، إذا انتصرت لا تعود تعترف بقدسية حق من هذه الحقوق لغيرها من الشعوب، بل نراها تطارد الاحرار وتحكم على المتمسكين بهذه المبادئ من غير أمتها بالنفي والسجن والاعدام والتشريد، متناسية إنها كانت ولا تزال تعتمد على هذه القواعد الأساسية في تأييد سيادتها ودفاعها عن كيانها.
الاستعمار يحرر
لم تكتف الحكومة التركية بنعت الثورة الكردية بالثورة الرجعية وإنما ذهبت إلى أبعد من ذلك فقالت إن الإنكليز كانوا يمدون الأكراد بالأموال والعتاد! يا لها من دعاية سخيفة وكذب صراح!
إن الأكراد الذين تزعم الحكومة التركية أنهم ساروا على الحكومة الكمالية لنصرة الدين ومحاربة البدع واسترجاع الخلافة بدأوا الآن يتقربون من الدول الأجنبية ويستنجدون بالكفار للبلوغ إلى مآربهم الإسلامية ولا ندري بأي عقل يتوصل هؤلاء إلى الجمع بين الثورة الدينية والاستعانة بالإنكليز…
كل شيء جائز في عرف السياسة! ولكن هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. إلا ان هذا رأي في السياسة جديد أن نرى إنكلترا أعظم دولة استعمارية على وجه البسيطة (لاحظ تاريخ الثورة الكردية) تتقدم لتأخذ بيد شعب مستعبد مظلوم. إنكلترا التي يئن في نير استعمارها مئات الملايين من البشر تأتي لمناصرة الأكراد وتمونهم بالمال والعتاد!!
يقول الكاتب الألماني داجو برت في كتابه المترجم إلى العربية بعنوان (مصطفى كمال المثل الأعلى): ((ومن المؤكد أن الأيدي الشيوعية كانت من وراء ستار، وزادت الاضطرابات إلى حد خطر في الأقاليم الشرقية، ولكن حركتهم قد قمعت بلا رأفة ونشطت المحاكم الثورية فحكمت على عدد كبير في أرضروم وطرابزون وغيرهما بالشنق أو بالسجن – ص 365ـ إلا أن هذا رأي جديد في أسباب ثورات الأكراد الرجعية!!) لنبتعد الآن عن تفنيد هذا الافتراء الذي لا يقوم على دليل من الواقع ولا المنطق ونتساءل: من الذي أرغم الأكراد على الاستعانة بالأجانب -إذا كانوا قد استعانوا بأحدـ أليس هو جور الجيران والأقارب واضطهادهم وعدم اعترافهم لهم بحق الحياة؟ ثم أي شعب لم يعتمد على المساعدات الخارجية في كفاحه ضد مستعمريه؟ ألم تعتمد حركة الأتراك الاستقلالية ذاتها على مساعدة روسيا التي كانت العامل المهم في انتصارها. هذا على فرض أن الأكراد كانوا قد استعانوا بالأجانب ولكن لم يقم دليل على صحة هذا الفرض فهل يمكن إخماد تلك الثورات الهائلة الدامية لو كان وراءها الذهب الإنكليزي والأسلحة الإنكليزية كما يقولون؟ أو هل كان يمكن قمعها لو لم تتعاون الدول بما فيها إنكلترا على إخماد نارها. إننا لا ننكر أن المستعمر يحسن الاصطياد في الماء العكر وأن الحكومة الإنكليزية ربما كانت ترغب في مثل هذه الثورات الى حد ما، وربما كان لها فيها جواسيس وعيون، ربما كان بين زعماء الحركة بعض مريدي الإنكليز وأتباعهم ولكن كل ذلك لا يعارض الحقيقة الواقعة وهي أن الجماهير الكردية كانت تضحي بكل ما لديها من نفس ونفيس وتجابه الآلات الجهنمية بتلك البطولة الخارقة والجرأة النادرة دفاعا عن كيانها المهدد وحقوقها المغصوبة وليس لتأمين المصالح الإنكليزية أو الفرنسية كما يزعمون.
ونقول في هذا الصدد: إن أكثر زعماء الثورات الكردية كانوا رجالا مخلصين في دعوتهم لم يريدوا الجاه ولم ينخدعوا بأية دعاية وكانت حركتهم تستمد قوتها من الجماهير الكردية. ومن اضطهاد الحكومة التركية، ولم تكن لهم أية صلة بأية دولة أجنبية وما كانوا قد أضرموا نيران الثورة راضين، وإنما أُرغموا على ذلك بما لاقوه من سوء معاملة الحكومة التركية وغمطها لحقوق الأكراد وعدم سماعها لشكاواهم الحقة وتماديها في سياستها القاسية تجاه العناصر غير التركية.
العرب يؤيدون الكرد
إن علاقات العرب بالكرد في دور المحنة هذه كانت كعلاقتهم بهم في الأدوار السابقة، تآزر قلبي. وعطف متبادل، وشعور عميق بالروابط التاريخية والثقافية.
وقد ناصر العرب الأكراد في هذا الدور كما كان منتظراً منهم فكانوا يظهرون عطفهم على القضية الكردية ويؤيدونهم في مطالبهم المشروعة وكانت الصحافة العربية تدعو الحكومة التركية إلى الرجوع إلى جادة الحق والصواب وسلوك طريق التفاهم والتعاون وذلك حقناً للدماء وحفظاً للحقوق التاريخية بين الشعبين المسلمين المتجاورين، وللضرب على أيدي المستعمرين المستفيدين من تطاحن الأمم الضعيفة فيما بينها، بغية تأسيس جبهة شرقية متحدة ضد الاستعمار ((مجلة الشرق الأدنى)). ولكن هذه الدعوات المخلصة الصادقة لم تجد من زعماء الحكومة التركية آذاناً صاغية إذ كيف يسمعون نصح العرب وهم يبذلون الجهود الجبارة لإرغام الشعب التركي على بغض العرب وكره ثقافتهم وازدراء دينهم، وكانت صحفهم تشن الحملات الشعواء على الثقافة الإسلامية والعنصر العربي لا لسبب إلا لأن الشعب العربي كان قد استيقظ وثار ضد طغيانهم ولم يعد يستطيع مشاهدة جثث أبنائه المدلاة على حبال المشانق.
نعم كان الشعب العربي قد سقى شجرة الحرية من دم المهج مما يكفي لإنمائها فأراد أن يقتطف الثمرة.
وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة تدق
لم تقتصر مساعدة العرب للأكراد في هذا الدور على الرغبة في التوفيق بين الأكراد وزعماء الحكومة التركية، بل تجاوزت إلى الدفاع عن الأكراد وقضيتهم ورد مزاعم الحكومة التركية وتفنيد افتراءاتها.
ولا يمكن تقدير أهمية هذه المساعدة إلا إذا عرفت أن الشعب الكردي كان يقارع الاستعمار ـ المسلح بجميع آلات الحرب الجهنمية، والمجهز بأحدث وسائل الدعاية العصرية ـ وهو أعزل تقريباً. ضرب عليه العدو نطاقاً من الرقابة لا يستطيع معه إيصال صوت شكواه إلى العالم الخارجي وأنى للعالم الخارجي أن يسمع أنين شعب مضطهد وقد ملأ المستعمر الظالم العالم صياحاً وضجيجاً ودعاية وكذباً!
لقد أسدت الصحافة العربية إلى الكرد جميلاً يذكرونه لها أبد الدهر. قد يقال إن ما قام به العرب نحو الكرد ما هو إلا إحدى الواجبات المترتبة على الشعوب المضطَهدة المناضلة في سبيل تحررها، نعم قد يقال ذلك وهذا هو الصواب ولكن أين هم الذين يقومون بهذا الواجب؟
أقرأ الفقرة الأتية المقتبسة من مجلة (الطائف المصورة): بعنوان:
الأكراد يثورون مرة أخرى في سبيل استقلالهم
((.. إن أمر الثورة الكردية قد استفحل في تركيا من جديد فاضطرت حكومة أنقرة أن تجرد الجيوش الجرارة لمقاتلة الأكراد في معاقلهم الجبلية. والشعب الكردي شعب قوي ذو بأس وصولة ينزع إلى الحرية والاستقلال وقد ثار مراراً كثيرة في عهد السلطان عبد الحميد وثار ثورته الأخيرة سنة 1925 ولكن جيوش أنقرة تمكنت من قمع تلك الثورة… ونشط الأكراد ثانية للمطالبة بحقوقهم وشاع أن للكولونيل لورانس الإنكليزي يداً في إشعال نار هذه الثورة وأنه موجود مع الأكراد الثائرين ينظم حركاتهم على أن المصادر الرسمية كذبت هذه الإشاعة .
هذا هو المثال لما يجب أن يكون موقف الشعوب تجاه كفاح غيرها التحرري. انتهينا الآن من بيان موجز لما كانت عليه العلاقات بين الشعبين العربي والكردي منذ البداية إلى اليوم وإننا نعترف أن البحث ناقص في كثير من نواحيه نقصاً بارزاً، ولكن ضيق المجال، واستعجال الأمر وشرف الغاية جعلنا نصرف النظر عن إكمال هذه النواقص. ولا سيما ونحن لا نريد تأليف كتاب عن العلاقات المتشابكة والصلات المتداخلة التي تربط هذين الشعبين العريقين وإنما قصدنا الآن إلى بحث موجز عن ماضي هذه العلاقات بغية تنظيمها وتقويتها للاستفادة منها في المستقبل.
لا عداء بين الشعوب
قبل أن نبدأ ببيان رأينا حول تنظيم العلاقات الكردية العربية يجب أن ننبه القراء إلى ما قد يقعون فيه من الخطأ. قد يظن البعض من قراءته لما سبق وصفه من الحوادث أننا نضمر الشر للشعب التركي النبيل ونريد معاداته، ولكن حاشا أن نكون في هذه الدركة من الجهل والضلال، وحاشا للتعصب الأعمى أن يسوقنا إلى هذا الرأي الخاطئ. فما الحوادث القاسية التي سبق ذكرها إلا نضال شعب مضطهد ضد حكومة جائرة لا تعترف له بحق الحياة، أما الشعب التركي النبيل الذي تربطنا وإياه روابط تاريخية وثقافية وشيجة والذي تقام كل هذه المظالم باسمه وتحت ستار مصالحه! فلا يتحمل في نظرنا أكثر من مسؤولية الحبل في حادثة الشنق، وإننا نتألم لما وصلته حالته من البؤس والشقاء في ظل الدكتاتورية الكمالية جد التألم ونكن له كل عطف وإخلاص ونتمنى له الخير والسعادة، لأننا نعتقد تمام الاعتقاد بأن الشعب الذي يستعمل الحكام الظالمون اسمه ومصالحه ستاراً لمظالمهم، هو أدعى إلى الرحمة وأجدر بالشفقة من الشعب المظلوم، ونعتقد أيضا، بأنه ليس في صالح الشعب التركي بشيء معاداة الكرد أو العرب أو أي شعب من الشعوب.. وأي فائدة تجنيها الجماهير التركية من التنكيل بالشعب الكردي وحرق مئات القرى والبلدان بسكانها الآمنين، وقتل آلاف الأبرياء، وإجبار عشرات الألوف من الأكراد على الهجرة وترك الأوطان إلى أقاصي البلاد التركية حفاة عراة في زمهرير الشتاء وفصل الثلوج الجارفة، لا لسبب إلا لأنهم لم يروا داعياً لتبديل لغتهم الأصلية وإنكار عنصرهم وترك ثقافتهم فقاموا يدافعون عن الحقوق المقدسة التي ساعدوا الأتراك في الدفاع عنها.
ثم أليس أجدر وأنفع للشعبين التركي والكردي وللإنسانية جمعاء أن يعيش هذان الشعبان في سلام ووئام، كما عاشا طيلة قرون عديدة؟ نعم إن من مصالح الشعبين أن يتفاهما ويتصالحا ويقر كل منهما لصاحبه بما يريده لنفسه من الحقوق فيتعاونا في إعلاء شأن الوطن وإسعاد الشعبين. أجل إن هذا هو الصراط السوي، ولكن الذين تعلقوا بحبال الآمال والمطامع الاستعمارية، ومشوا وراء تطبيق النظريات السقيمة البالية، المستغلون للوضع والمستفيدون منه العائشون من ورائه لا يريدون هذا الحل ولا يقبلون عن سياستهم القومية الهوجاء بديلاً إذ يستحيل عليهم التفكير في غير نطاق الاستعمار والاستغلال فيتمسكون به ويقصدونه في جميع تصرفاتهم تجاه طبقات شعبهم وتجاه الشعوب الأخرى، تلك هي القومية بمعناها القديم وفي نطاقها الضيق. ولكنك هل تظن أن هذه الأفكار البالية هي وليدة تفكير الشعب التركي؟ وهل أن الدعايات السيئة ضد كل ما هو شرقي وما ينسب إلى الشرق عامة والعرب والإسلام خاصة غيَّرت رأي الشعب في العرب والإسلام؟ هل تظن أن ما تبذره الحكومة من بذور البغضاء والكراهية بين الشعوب يجد بيئة صالحة في أذهان الجماهير التركية؟ إن هذا هو الغلط بعينه فالجماهير لا تعتقد ولا تستطيع أن تتصور الفوارق العنصرية والميزات الجنسية التي تخلقها عقلية هؤلاء الحكام، إنها لا تستطيع فهم نظريات العداء المتوارث بين الشعوب وتفريق الأجناس إلى منحطة وراقية وتقسيم الدماء إلى نقية وغير نقية. أجل لا تفقه الجماهير مدلول هذه الكلمات السحرية التي إن هي إلا مخدرات جديدة تستعمل لاستغلال الشعوب واستثمارها، إنها لا تعلم عن هذه التعابير شيئاً حتى ولو حفظها عن ظهر قلب بنتيجة التلقين المستمر والدعاية الدائمية.
تآخي الكرد والعرب
لنأت إلى بيان كيفية تنظيم العلاقات الكردية ـ العربية في المستقبل، تكلمنا سابقا عن الروابط التاريخية والثقافية والجوارية التي تصل ما بين الكرد والعرب وعلمنا أن العلاقات بين هذين الشعبين كانت ودية للغاية في جميع أدوارها والآن اعتماداً على ما كنا قد بيناه في الماضي من العلاقات وما يجمعنا في المستقبل من وحدة الهدف والغاية علينا تنظيم جهودنا بصورة تأتي بأحسن الثمار في صالح الشعبين المتآخيين.
إن الشعب الكردي. كالشعب العربي، شعب مجزأ الأوصال مشتت الكلمة، وهو كالعربي يناضل في سبيل حقوقه المقدسة. ويسعى للتعاون والتفاهم مع الشعوب لكي ينال نصيبه من الحياة والحرية حتى يستطيع أن يساهم في بناء المدنية العالمية، كما قد ساهم في بناء المدنية الإسلامية في السابق. إن الكرد كالعرب يسعون وراء غاية شريفة يسعى إليها كل إنسان ذي مروءة وشرف. وإن الثورات الكردية كالثورات العربية وليدة شعور عام لأمة حية اقتحمت الأهوال وركبت الأخطار لتحيا حياة حرة سعيدة أو تموت موتاً خالداً إننا نريد أن نعامل على قدم المساواة. لا نريد أن نكون أسياداً ولا عبيداَ
لا نريد أن نكون تحت مستوى الشعوب ولا فوق مستواها وإنما نريد أن نعمل معها في سبيل الإنسانية وإسعادها، إننا نناضل لكي نستبدل الحرب بيننا وبين حكامنا بالسلم على قدم المساواة وحتى يحل الحب والوئام محل الحقد والكراهية في القلب.
إن الأكراد كإخوانهم العرب يريدون الانعتاق من قيود الذل والعبودية. يريدون الاحتفاظ بلغتهم وثقافتهم وعنصرهم لأن هذا الاحتفاظ لا يضر بمصلحة شعب من الشعوب بل يُفيده وينفعه لأننا نعتقد أن مصلحة الشعوب، هي واحدة في كل حال ولذا فعليها أن تتعاون فيما بينهما في سبيل الوصول إلى أهدافها المشتركة، فالأكراد أصدقاء العرب وشركاؤهم في المحنة، كلاهما يشكو داء واحداً .وكلاهما يتطلب علاجاً واحداً … إذاً فنحن رفاق في طريقنا إلى الانعتاق … فلنتكاتف ولنتفاهم ونتآزر أكثر مما نحن الآن … فليتآخ الشعبان الكردي والعربي ولنعمل لذلك بكل ما لدينا من قوة ولننظم جهودنا لمقارعة الاستعمار مهما كان نوعه وشكله ولنكافح في سبيل أهدافنا المشتركة.
التعصب القومي الأعمى
وقبل أن نبين القاعدة التي نقترحها لتكون أساساً لتعاون الشعبين الكردي والعربي يجب أن نحذر الشعبين، وخاصة المتنورين منهما – عاقبة التعصب القومي الأعمى، نقول للمتنورين خاصة لأن الجماهير، كما أسلفنا، لا تدرك من هذه الخيالات شيئاً. أجل فإن على المثقفين، من كرد وعرب. ليس تجنب التعصب القومي والعنصري الأعمى فقط، بل ومحاربة نظرياتها الهدامة التي يبثها المغرضون للتفريق ما بين أبناء القطر الواحد ومعاداة الشعوب الأخرى لا لأن هذه النظريات لا تقوم على أساس من العلم والعقل فحسب، بل لأنها من الأسباب المهمة في بث روح الكراهية بين الشعوب وإثارة الحروب والقلاقل فيما بينها. علينا مكافحة هذه الآراء العنصرية السقيمة، بصورة خاصة في الوقت الحاضر، لأن هناك دولاً استعمارية تخدر بها شعوبها وتسوقها إلى الحرب والاستعمار من جهة، ويضعف بها وحدة الشعوب الضعيفة وتكاتفها في صد الاستعمار من جهة ثانية.
وفي الختام ندعو الشعبين العربي والكردي إلى التعاون والتآخي والسير معاً في مقارعة الاستعمار والاستغلال فهما رفاق في طريقهما إلى التحرر.
القاعدة الذهبية
أما القاعدة الأساسية التي يجب أن تبنى عليها العلاقات ليس بين الشعبين الكردي والعربي فحسب، بل بين الشعوب الأرض قاطبة، والتي بدونها يكون السلام العالمي، وتآخي الشعوب وتعاونها، تعابير جوفاء سخيفة هي اعتراف كل شعب للآخر بحقه في الاستقلال استقلالاً فعلياً لا صورياً، ضمن حدود الطبيعية، وبسيادته التامة في إدارة جميع شؤونه الخاصة والعامة، وتنظيم العلاقات بين الشعوب تنظيماً اختيارياً يكون القصد منه التعاون فيما يعود بالخير والسعادة على الإنسانية، كل ذلك على أساس من الحرية والمساواة، وتقديم الشعب الواحد للآخر جميع المساعدات المستطاعة لتحسين حالته الاقتصادية وتنمية ثقافته الخاصة، حتى يستطيع المساهمة في إشادة صرح المدنية العالمية، وتحقيق الديمقراطية الشاملة.
—————-
قرار المحاكم الاستقلالية في وقته في أعداد من جريدة الوقت التركية[1]