القسم العامكتب و اصدارات

أكراد سوريا .. التاريخ و السياسة و المجتمع … جوردي تاجال

الترجمة عن الإنكليزية : الدكتور مسلم طالاس- “مدارات كرد”

 تعرفة بالكتاب والمؤلف

 هذا الكتاب مساهمة فاصلة في دراسة التاريخ الكردي في سوريا منذ فترة الانتداب الفرنسي (1920-1946) وحتى الوقت الحاضر.

من خلال تجنب منهجية جوهرية بعينها يقدم Jordi Tejel تحليلاً عميقاً ومعقداً ومتناقضاً أحياناً للتركيب بين القبيلة والهويات المحلية والإقليمية والدولية من جهة وتكوين الاحساس بالأقلية الكردية في مواجهة توطد القومية العربية في سوريا من جهة أخرى. يحلل Tejel الأسباب الكامنة خلف “الاستثناء” السوري في سياق الشأن الكردي, مستخدماً مواد غير منشورة , وبشكل خاص ما يتعلق بمرحلة الانتداب (السجلات الفرنسية والصحف الكردية) ونظرية الحركة الاجتماعية. على الرغم من استبعاد الكرد من الشأن العام, بشكل خاص منذ عام 1963, فإن أكراد سوريا تجنبوا المواجهة المباشرة مع السلطة المركزية,  واختار أكثرية الكرد استراتيجية “النفاق” ,  التي رعت داخلياً أشكال من الهوية تتحدى الأيديولوجيا الرسمية. يستكشف هذا الكتاب الآليات التي قادت إلى ترسيخ الاحساس بالأقلية الكردية في سوريا المعاصرة, وهي عملية جارية ويمكن أن تأخذ شكلا من الراديكالية او حتى العنف.

على الرغم من أن الكتاب يقدم منهجية مفاهيمية صارمة, فإن المادة الأثنية تجعل من المهم قراءته. وهو لن يجتذب فقط الباحثين ودراسي الشرق الأوسط, بل ايضاً سيجتذب المهتمين بالتاريخ والصراعات الاثنية والقومية ونظرية الحركة الاجتماعية……وغيرهم.

جوردي تاجال (Jordi tejel) [المؤلف]: يحمل درجة دكتوراه فلسفة في التاريخ من جامعة فريبورغ – سويسرا  والسوسيولوجيا من (Ecole des Hautes Etudes en Sciences Sociales-EHESS)- باريس –فرنسا. وهو الآن زميل ما بعد الدكتوراه في (EHESS). يهتم في أبحاثه بالتركيز على القومية في الشرق الأوسط, مع اهتمام خاص بحركية الكرد في الفترة ما بين الحربين. وقد الف العديد من الكتب والمقالات (Le mouvement kurde de Turquie en exil.Continuités et discontinuities du nationalisme kurde sous le  mandat français en Syrie et au Liban (1925–1946)).

Syria’s Kurds

History, politics and society

Jordi Tejel

jordi-tejel

 مقدمة

قلما تعرضت وسائل الاعلام للكرد السوريين. ويسري الأمر نفسه على البحوث الأكاديمية التي تناولت سوريا, وحتى البحوث التي تناولت المسألة الكردية. معظم البحوث ركزت على المناطق الكردية في تركيا والعراق و, بدرجة أقل,  في إيران [1]. وهذا الأمر لا يخص فترة زمنية بعينها. وكذلك كان العامل الكردي هامشياً في الأعمال الكلاسيكية التي تناولت الانتداب الفرنسي (Longrigg 1958;Khoury 1987) وفترة الاستقلال في المشرق (Raymond 1980). والاستثناء الوحيد لذلك هو أعمال عصمت شريف وانلي, والتي تتميز عموما بالانحياز للكرد ((Vanly 1968, 1978, 1992)).

       فقط منذ التسعينات [من القرن العشرين], ونتيجة لزيادة أهمية مسائل حقوق الانسان في كل البلدان, ظهرت دراسات كاملة ومفصلة تتناول الكرد السوريين (Human Rights Watch 1991, 1996; McDowall 1998). توفر هذه الدراسات بعض المراجع التاريخية الضرورية, لكنها تؤكد على الوضعة الكردية كـ”أقلية” فيما يتعلق بالإطار القانوني السوري. شجعت الاضطرابات في القامشلي في مارس 2004 بدرجة كبيرة إصدار سلسلة من الأعمال(Montgomery 2005; Yildiz 2005)  والمقالات(Gambill 2004: 1–4; Gauthier 2005: 97–114, 2006: 217–31; Lowe 2006: 1–7; Tejel 2006: 117–33, 2007b: 269– 76) حول المسألة الكردية في سوريا. وعلى الرغم من ارتفاع الاهتمام بالمسألة الكردية في سوريا, تبقى هناك ندرة في الدراسات ذات المنظور الأنتربولوجي والتاريخي والسياسي إلى هذا الموضوع.

هناك العديد من العوامل التي تتحمل مسؤولية هذه الفجوات في المعلومات. أولاً, وبشكل متناقض, اعتبر الكرد السوريين إما جماعة أمكن استيعابها من قبل بيئة الأكثرية العربية[2] أو اعتبروا سكان ملحقين لعبوا دوراً هامشيا في سوريا المعاصرة, على عكس أقليات اخرى (Hourani 1947) مثل الدروز والعلوية. واعتبر ضعف الحركة السياسية دليلاً على أن “بحث الكرد عن الهوية” مجرد ملجأ للنخبة (الوجهاء وملاك الأرض) نتيجة خسارتهم للسلطة في مواجهة التحولات الاقتصادية والاجتماعية في البلد.

في سياق آخر فإن حقل الدراسات الكردية, الذي لا يزال ضيقاً, أصبح حقيقة منذ الثمانينات والتسعينات [من القرن العشرين] [3]. من منظور أعرض, فإن تركيز المؤرخين وعلماء السياسة على الدور الديكتاتوري للدولة والعائلة الحاكمة, والقومية العربية والصراع العربي الاسرائيلي, وموقع سوريا في سياق الحرب الباردة (Van Dam 1979, 1996; Kienle 1990; Perthes 1995; Ehteshami and Hinnebusch 1997) ألغى كل الديناميكيات الـعرضية التي تؤثر على مجالات المجتمع السوري رغم التصريحات الرسمية فيما يتعلق بعروبة واشتراكية سوريا. تتضمن هذه الديناميكيات أنماط الاستهلاك والاثنية والتصوف والاستيطان العشوائي في المدن الكبرى والفروقات المتنامية بين الاجيال. يسعى هذا الكتاب للمساهمة في الاندفاعة الجديدة للدراسات المعاصرة حول سوريا التي بدأها جيل جديدة من الباحثين الذي توجهوا في دراساتهم باتجاهات جديدة, مظهرين الاهتمام بـ”الهوامش” مع اعطاء الأولوية للأبعاد الانتروبولوجية والسوسيولوجية (Chiffoleau 2006; Dupret et al. 2007), بدون إهمال الأبعاد التاريخية .

في الحقيقة أصبحت إمكانيات إجراء البحث الميداني في سوريا أكبر مع نهاية تسعينات القرن العشرين, مما أتاح المجال لبحوث انتربولوجية قيمة حول المشايخ الكرد في دمشق وحلب وكرداغ (Bottcher 1998; Christmann 1998;Pinto 2004). لكن تبقى هناك صعوبات بالغة في مواجهة إجراء بحث ميداني يركز على الهوية الكردية[4], لأن الكردية مازالت تعتبر علامة الفتنة (تقسيم المجتمع) من قبل النظام , على الرغم من التغيرات الكبيرة التي حدثت. وأخيراً فإن دراستنا استفادت من انتعاش الدراسات حول مرحلة الانتداب في نهاية التسعينات (Gelvin 1998; Méouchy 2002; Mizrahi 2003; Méouchy and Sluglett 2004; Provence 2005).

وبدلا من تلخيص كل الفصول التي تشكل الكتاب, فإننا سنركز الضوء على بعض القضايا التي نعتقد أنها هامة من المنظور النظري والتجريبي. وأول هذه القضايا تتعلق بضرورة إعادة تقييم دورة فترة الانتداب (1918-1946) في انبثاق حركيات سياسية واجتماعية في المجتمعات الكردية بدءاً من تأسيس سوريا المعاصرة إلى الوقت الحاضر والتي تنتمي للـ longue durée.. كذلك نرغب في التأكيد على أهمية فترة الانتداب في التأسيس لثقافة سياسية محددة لممثلي الكرد المدنيين والدينيين, والتي عرفت بالمواجهة السلمية والتكيف مع مشهد سياسي غامض. وأخيراً سنتناول باختصار موضوع “الهوامش” في المجموعات الكردية وضرورة تأسيس “الجسور” بين الكرد وغيرهم من سكان سوريا وصياغة مراجعة مفصلة لتاريخ الكرد الذي ينطوي أحياناً على تمايزات آنية عن باقي سكان سوريا.

الكرد في ظل الانتداب الفرنسي بين الاستمرار والتغير:

يثبت تحليل ارشيف الانتداب, والمنشورات الكردية خلال الثلاثينات والأربعينات, والدراسات الميدانية التي تمت حول سوريا, أن الفترة الانتدابية يجب أن تعتبر مرحلة استمرار فيما بتعلق بالمرحلة العثمانية ووقت للتغير لسكان المشرق, بما فيهم الكرد. يجب أن  تعتبر هذه الفترة مرحلة استمرار باعتبار أن ميراث التنظيم الاثنو-ديني للإمبراطورية العثمانية[5] لم يستأصل واستمر في صبغ مفاهيم السياسة والمجتمع بعد فترة طويلة من سقوط استانبول كمركز سياسي للمنطقة (Karpat 1988: 35–53).

المجموعة التي عرفت وميزت تحت الاسم العام “كرد” بعيدة عن التجانس. حيث تتضمن العديد من اللهجات والطوائف الدينية (سنة وشيعة وعلويين ويزيديين) والعديد من الهويات الاجتماعية والجغرافية (العشائرية وغير العشائرية). وعلى الرغم من ذلك يثبت الانتربولوجي (Martin van Bruinessen) ان الكرد كانوا مدركين لهويتهم المتميزة منذ عدة قرون, على الرغم من الانقسامات الداخلية. لكن “الحدود” التي تحدد الكرد تغيرت خلال الزمن. قبل الحرب العالمية الأولى كان التعارض بين الإسلام والمسيحية والقبلية واللاقبلية هي المحددات الرئيسية لتقسيم سكان الامبراطورية العثمانية (Bruinessen 1994: 21–6).

لم تكن الاثنية هي المسالة المهيمنة على السكان الكرد قبل نشأة الدول الجديدة في الشرق الأوسط. وكان الانتماء لمجموعة أثنية[6] هو فقط أحد مكونات هويتهم. وتقلبت أهميتها في سياق إعادة اكتشاف هويتهم, وعدلت وفقاً لرغباتهم في علاقات مع عوامل متعددة.   المهم هو الشبكات الشخصية للانتماء التي بنيت من قبل الافراد, والشبكة الاثنية هي واحد من بين العديد. ويمكن أن يكون للشخص أو الجماعة أكثر من خاصية معرفة, مثل الطائفة و الاثنية والتحضر. لذلك فإن تصنيفات مثل “الاثنية” و”المجتمع” وجدت وشرعت واستمرت في سياق معادلة سياسية معقدة. لم توجد كتصنيفات مسبقة (Geertz 1973) بل كجماعات في ديناميكية علائقية (Barth 1969). في ظل ظروف تاريخية محددة, يمكن أن توضع الهويات الاثنية أو القومية أو حتى العابرة للقومية في الواجهة وتحدد الرهانات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, لكن طول العمر هو الذي يحدد أي الهويات هي البارزة في جماعة محددة (Gershoni and Jankowski 1997: xx).

وسبب قدرة الاثنية على العمل كاداة سياسية هي أنه يمكن تصورها كمصدر طبيعي للتماسك (Berman and Lonsdale 1992: 317). إن اجتماع الافراد أو الجماعات حول هوية اثنية يمكن أن يحدث في سياق الحديث عن الهوية (Vali 2003) أو مذهب(Kedourie 1986) أو إيديولوجيا(Breuilly 1993) أو حتى قفزة خيال (Anderson 1983). إن القومية, بهيئتها الغامضة, قادرة على أن تجمع سوية تجمعات متنوعة يمكن أن تعرف ضمن ” جماعة اثنية”. من أجل تجاوز التقسيمات الموجودة في المجتمع, فإن على القومية أن تضم في سياقها مختلف الحساسيات (المحافظة والتقدمية والداعمة للغرب…..الخ) وتشجع الفعاليات القومية التي تمس كامل السكان الكرد وتدمج كل جوانب (الاجتماعية والدينية واللغوية والعشائرية والمحلية ) الجماعات المكونة.

إن دور ” المقاولين السياسيين” في ترسيخ العلاقات مع الجماعات الأخرى حاسم (Smith 1981: 108). وهي النخب التي تقدم نفسها كناطق باسم “المجتمع المتصور” (Anderson 1983) وتبني , بسبب قدراتها الفكرية والتنظيمية, المجموعة القومية. من أجل أن توجد القومية هناك حاجة للعوامل الموضوعية  (العرق واللغة والقرابة ….الخ) التي سيتوضع عليها الوعي بهذا التميز أو الاختلاف (الهوية). ومن ثم يمكن للمقاول السياسي أن يدخل هذه الهوية المتميزة للحقل السياسي الحديث كأداة واعية وعقلانية.

لكن, ووفقا  للانتربولوجي Olivier Roy, فإن القومية الاثنية نادراً ما تنطوي على فعل سياسي. غالباً ما يخُلق الفعل السياسي خارج المنطق الاثني الصارم, حتى إذا كانت الاثنية هي محور تميز اللاعبين. ” الأثنية هي ما ينطق به لكن ليست هي المفسر” (Roy 2004: 65). وهناك منطوق آخر مغذي في الحركية الاجتماعية مثل العصبيات ما دون القومية أو ما فوق القومية, كالعلاقات الدينية  مثل العصبية الشيعية في إيران التي خلقت نوع من الولاء لدولة إيران بالرغم من الاختلافات القومية .

يضاف لذلك, كما اكد رشيد حمو, أحد مؤسسي الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا عام 1957, فإن مفهوم المجتمع الكردي, المعرف كمجموعة متميزة بميزة واحدة, لغوية أو طائفية, والذي اعتبرته المجموعة هو الحد المحدد والعريض للتميز عن الآخرين خلال فترة النزاع, لم يكن حقيقياً في بداية عشرينات القرن العشرين[7]. من جهة أخرى, فإن العلاقات الأبوية والروابط المحلية والدينية والقبلية حددت الممارسات الاجتماعية وحركية السكان الكرد في شمال سوريا. فقط مع وصول المثقفين القوميين الكرد, الذين كانوا مقيمين سابقاً في استانبول, اتخذت فكرة “المجموعة القومية الكردية” صورة حقيقية في صفوف أقلية صغيرة من السكان الكرد في سوريا. منذ ذلك الوقت تم تحدي تصور الكرد كمجتمع معزز بالتماسك بين عوامله المختلفة على الأقل خلال فترة الانتداب الفرنسي.

كذلك كرست فترة الانتداب العلاقة الثلاثية بين القوى الأوربية والدول المحلية والأقليات التي كانت موجودة  منذ القرن التاسع عشر[8] والتي استمرت حتى الوقت الحالي ( Khoury and Méouchy 2007: 20–1). في النتيجة فإن تأسيس نظام الانتداب في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى سمح لفرنسا وبريطانيا العظمى بالبقاء في الشرق الأوسط. وبينما ركزت فرنسا على تأسيس الانتداب في سوريا ولبنان, انشغلت بريطانيا بإدارة الدولة العراقية الجديدة.

دفعت مشروعات التطوير الاقتصادي الاجتماعي للجزيرة والخلاف الفرنسي التركي حول رسم الحدود السورية التركية  لأن تستخدم فرنسا الورقة الكردية(Tatchjian 2004; Tejel 2007a). في النتيجة فإن الآلاف من المهاجرين الكرد, بما فيهم قادة الحركات الكردية في تركيا, انتقلوا إلى سوريا. وعلى الرغم من أن فرنسا لم تقدم سياسة واضحة ومتناسقة تجاه الكرد, فإن المثقفين “المقاولين السياسيين” الكرد وزعماء العشائر تمكنوا, بدرجة محددة, من تطوير استراتيجيات لمجتمعهم من أجل التكوين والعمل, بما فيها تنظيم الثورة المسلحة ضد النظام الكمالي, حول جبل أرارات شمالي شرقي تركيا 1927-1931 (Nouri Pacha 1986).

كان ثمن هذا التحالف بين النخب الحديثة وزعماء القبائل هو اعتماد الحركة القومية على الروابط ما دون القومية  ومن ثم الاختلاط المتبادل بما سمح بتكوين هوية بين العصبية والمجموعة الاثنية (Roy 2004: 47).  كذلك فإن انغماس الحركة الكردية في ثورة آرارات اشار إلى أن القوميين الكرد في سوريا النشطين في سوريا تحولت وجهتهم إلى مناطق كردية أخرى, وبشكل خاص في تركيا والعراق. ومنذ ذلك الحين ترسخت توجهات الكرد نحو هذين البلدين, وهو أمر تم ترسيخه بدرجة كبرى في عهد حافظ الأسد. وقد عزز ذلك الحقيقة غير القابلة للجدال في الصفة العابرة للحدود للمسألة الكردية (Bozarslan 1997: 291–347)  واعتبار الكرد السوريين بأن الحدود مساحة مشتركة, بمقاييس اللغة والروابط العشائرية والاثنية والعائلية, أكثر من كونها خط فاصل.

في نفس الوقت أكد استغلال الكرد من قبل الفرنسيين على الديناميكيات الموجودة بتعزيز التقسيمات الموجودة بين الجماعات الكردية المجزأة أصلاً. لذلك فإن الفرنسيين حثوا القوميين الكرد (وبدعم زعماء العشائر) على تركيز أنشطتهم السياسية على الجزيرة (Terrier Plan). وعوملت كل منطقة كردية كمنطقة منفصلة, بدون روابط سياسية بينهما. يضاف إلى ذلك ان الحالة السيئة للطرق بين مختلف المناطق الكردية في شمال سورية جعلت من الصعب جدا بناء العلاقات أو توحيد الحيز الكردي (Deutsch 1962).

السياسة وما دون السياسة:

المنهجيات الأداتية والحالية في تناول المسألة الاثنية لا تفسر لماذا يتشبث الناس من غير النخب بأثنيتهم ولماذا ينغمس أعضاء جماعة أثنية في حركة هوية. بالتأكيد يمكن لجماعات الروابط ما دون الاثنية, مثل قبائل محددة, أن تستخدم الاثنية لإخفاء مصالحها الأنانية في العصبية, لكن كيف يمكن تفسير اشتراك العناصر غير القبلية في الأعمال العسكرية باسم الهوية الاثنية؟ إذا استخدمت بعض القبائل الحركية الاثنية لتحسين وضعها, هل يعني هذا بالنسبة لأعضاء القبيلة, أن الاثنية غير ضرورية وجردت من معناها؟ واخيراً هل يعني نقص الفعاليات السياسية حول هوية اثنية في حالة معينة أنه ليست هناك مشكلة في المنطقة التي تلعب في تلك الأثنية دوراً مهيمناً؟

تقليديا استخدمت الحركة الكردية السورية استراتيجية العمل السلمي, مع برنامج سياسي معتدل. وقد سمح البرلمان السوري الذي نشأ خلال الانتداب, على الرغم من عيوبه, بتواجد ممثلين مدنيين للمجتمعات الكردية. لكن انفتاح الفضاء السياسي السوري خلال الانتداب ليس هو العامل الوحيد الذي يفسر التكييف الواضح للقادة القوميين الكرد مع النظام القانوني السوري.

كما هو الحال مع زعماء القبائل الآخرين وممثلي المجموعات الدينية, فإن القادة الكرد جندوا من قبل السلطات الفرنسية, مما خلق نوعا من الاتكالية فيما يتعلق بالآلية الإدارية. على الرغم من أن هذه العلاقات التفضيلية فتحت الطريق للأثنية الكردية لتأسيس سلطتها المحلية, فإن مساحة المناورة المتاحة لممثلي الكرد كانت محددة من قبل الفرنسيين. أجبرت النخب الكردية على العمل في مجال سياسي فيه العديد من اللاعبين الآخرين (سلطات الانتداب وضباط المخابرات والدولة المحلية ولاعبي الأقليات ..الخ) الذين غالبا ما اتخذوا مواقف معارضة لهم وكات هم مواقف مشوشة تجاه مزاعم الهوية الكردية في سوريا, وهي مواقف تم الحفاظ عليها طوال الانتداب والفترة التالية.

في فترة ما بعد الانتداب أصبح الجو السياسي السوري بشكل متدرج أقل تسامحاً تجاه التعددية الاثنية. عروبة سوريا ومعاداة الامبريالية (وبشكل موازي معاداة الديمقراطية الغربية) ومعاداة اسرائيل, وبالنسبة لبعض القطاعات, روحية العروبة كانت عاملا مؤسساً للإجماع بين القوى السياسية والعسكرية في البلد, مستبعدة كل الرؤى الأخرى لبناء المجتمع السوري. شجع التقدم المتدرج للإجماع الايديولوجي في سوريا استراتيجية “التقية” (Mardin 1977; Scott 1990) في المجتمعات الكردية. وهذا الفعل الاستراتيجية يبين أنه في ظل ظروف محددة, يمكن للجماعات الاثنية أو الاجتماعية أو الدينية اختيار التخفيف من تمايزاتها من أجل مواجهة الاجماع الايديولوجي الرسمي. وشفافية التمويه تعتمد على درجة الهيمنة في العلاقة: وكلما كان هناك تفاوت أكبر في القوة بين المهيمن والتابع, وزاد تعسف ممارسة الهيمنة, كما زادت النسخ العامة[9] للتابعين  التي تمارس النمطية والشعائرية (Scott 1990: 3).

ومثل كل المواطنين السوريين  فإن الكرد أكرهوا على العمل كما لو كانوا مخلصين للنظام وقيادته ومبادئه (Wedeen 1998, 1999). لكن الكرد أيضا شجعوا, خلال عقدين (1964-1984), على تهذيب هويتهم بعيداً عن المجال العام. وهذه الحقيقة تجذب اهتمامنا نحو الأنشطة والاستراتيجيات التي مارسها اللاعبون الكرد في المجال (دون السياسي), “وهي شريك صامت للنموذج المتكلم من المقاومة الشعبية” (Scott 1990: 199). وتأكيد أهمية الانشطة (ما دون السياسية) هو تاكيد أيضاً أنه خلف الواجهة الرسمية الاجماعية في سوريا, فإن تكوين  المجتمع الكردي سوريا, والمجتمع السوري عموماً, لم يعرقل بالقدر الذي يقوله البعض (Droz-Vincent 2004). في المقابل وفي مكان ما بين التمرد والخضوع (Badie 1987: 226, 231–2) هناك منطقة سياسية أكثر صعوبة على الفهم بالمقارنة مع الصراع السياسي المفتوح.

إن حيوية المجموعات التابعة في (ما دون السياسة) يمكن أن تقاس بسهولة بعض رفع القناع. الطريق من التقية إلى التصريح يعتمد, بدرجة كبيرة جداً, على الفرص السياسية, لأن “أي الاعتماد على الظروف والهياكل السياسية , وحتى القوميات الأكثر مقاومة يمكن أن تختار التأكيد على وضعها الاقتصادي الاجتماعي أو هويتها المدنية أو التزامها الديني أكثر من تمايزها القومي الأثني”( Natali 2005: xxiii). لكن كما أثبت الحركة الجماهيرية للكرد السوريين في عام 2004, فإن إدراك نوافذ الفرص من قبل المستكشفين يمكن أن يتأثر بالذاتية. وهنا تظهر ضرورة النظر ليس فقط للعوامل المنطقية بل أيضا المساحات الذاتية.

المرحليات المتعددة:

كانت مرحلتا الانتداب وما بعد الانتداب (1946-1963) شاهداً على آليتين متوازيتين غير حصريتين: من جهة هناك زيادة الطابع الأثنين للأفراد والجماعات التي تعرف بالكرد, ومن جهة أخرى تكون مجتمع مدني[10] اعتمد على المساهمة النشطة لأفراد من كل الجماعات, غير المعتمدة على الروابط المشتركة, بل المعتمدة على الالتزام الإيديولوجي والفصائل السياسية (القوميين السوريين والقوميين العرب والشيوعيين).

تعرض الكرد لعدد كبير من الإجراءات القانونية التي أثرت على كل سكان سوريا, مثل فرض حالة الطوارئ منذ عام 1963. وبجانب نشأة نظام شمولي في موقفه من الحريات الفردية, كان هناك أعمال رعاها النظام البعثي لم تؤثر فقط على الكرد بل على بعض الجماعات الأخرى, مثل تعريب أسماء القرى المسيحية. وقد كانت الهجرة من الريف إلى المدينة عاملاً آخر للتحول الاقتصادي الاجتماعي الذي لمس كل المناطق الطرفية. بوضوح كانت هناك العديد من الامكانيات لجسر الفجوة بين الكرد وغالبية المجتمع السوري.

لكن من الضروري أن نتذكر أن سياسات النظم السورية ساهمت بشكل غير مقصود لكن بشكل مباشر في تطبيع العلاقات بين الكرد وباقي السكان بالطابع الأثني. خضع الكرد, الذي ميزتهم الحكومة كمجتمع أو جماعة, لسياسات تميزية , مثل المنع من تعليم لغتهم ومشروع تعريب منطقة الجزيرة الذي جرد 120000 مواطن من الجنسية, بالإضافة للعنف الرمزي المؤسسي الكامن في استبعاد هويتهم من تعريف سوريا[11]. وأخيراً فإن التصريح بأن  الكرد أجانب غذى بشكل تدريجي لدى الكرد فكرة أنهم “اقلية قومية.

كذلك فإن الكرد بالإضافة لتأثرهم بالتحولات الاقتصادية الاجتماعية المحلية والقومية, فإنهم تأثروا بالديناميكيات العابرة للحدود, فيما يتعلق بهويتهم الاثنية الواسعة (Roy 1991: 22). تضمنت هذه الديناميكيات العابرة للحدود الشبكات القبلية والعائلية والدينية والثورات الكردية المسلحة في تركيا(1927- 1931 و1984-2007) والعراق (1943-1945 و1961-1970 و1986-1988), وزيادة استقلال كردستان العراق منذ عام 1991. لذلك أصبح ضرورياً وجود نظرة بديلة لتاريخ سوريا العام بتفصيلاته مع تناول الحقيقة الكردية فيها.

نعلم أننا لم نضع يدنا على كل مستويات التحليل(Revel 1996), ولا غطينا كل المناطق الجغرافية أو المجال العام للموضوع, بما فيها قضايا الجنس وتوزيع الأراضي والزواج المختلط وغيرها, التي تتواجد في الهوامش ليس فقط في النظام السياسي السوري, بل أيضاً لدى الأحزاب السياسية الكردية, لكي نلقي الضوء على الطابع المعقد للسكان الكرد واندماجهم في المجتمع السوري. لكن هذه المهمة تتطلب وصولاً أسهل للمجال والمعلومات. مع ذلك نأمل أن نكون قد أدخلنا تساؤلات جديدة وقدمنا معلومات إضافية, تسمح في تنمية معرفتنا وفهمنا  لكرد سوريا.

الكرد خلال الانتداب الفرنسي

أثر دخولالإمبراطورية العثمانيةفيالحربمباشرة علىالمشرق العربيمن خلال فتح
جبهة على قناة السويس. خلال نفس الفترة، كانتدول الشرق الأوسط تتأثربطموحاتالقوى الأوروبيةفي المنطقة.وبدأت طموحات فرنسا في التبلورخلال تلك فترة, وكانت سوريا والشرق عموماً خلالها تخضع لتحولاتهامة، سواء كانت اقتصادية، من خلال اندماج المنطقةفي الاقتصاد العالمي، أو سياسية، من خلال سياسات التنظيمات (Tanzimat)  ونمو الطموحاتالقومية العربية، مع ملاحظة الارتباط الواضح بين هذين التطورين.

على الرغم من استمرار السلطة المحلية في عهد الانتداب الفرنسي، لكن تم تحدي  النخب القديمةفي سوريا  خلال هذه الفترة من قبل جيل جديد من القادة ومن قبل أيديولوجيات جديدة, نتيجة لتغيرات عميقة  اجتماعياً ومؤسسياً،بما في ذلك انخفاض أهمية ” علاقات التبعية العمودية” داخلالسياق الأوسع للتسلسل الهرمي الاجتماعي.وظهر في مكانهم ” تنظيم جديد للسلطةبتبع العلاقات غير النخبويةالمرتبة على نحو متزايد حسب التقسيمات الأفقية والمهنية والقومية”. وكانت سلطة الانتداب مسؤولة إلى حد كبير عن المزيد من التحولات في المنطقة.  كانت السلطاتالفرنسيةعنصراً مهماً  في تحديد جماعات عرقية ودينية المحلية  على أنها أقليات و في خلق الدول القومية ، وبالتحديد سوريا ولبنان.  وأصبحت الأقلياتمصدرا دائما للاحتكاك بين النخب السنية المحلية وسلطة الانتداب.  لقد كانت مسألة اعتبار جماعات اجتماعية وثقافية محددة “أقليات ” مفهوماً جديد ، حل حديثاً محل النظام الملي العثماني وانبثق عن إنشاء الدول  الجديدة والمتجانسة قومياً.  ومثل الكرد بين الاقليات المجموعة المسلمة السنية غير العربية الأكبر بدءاً من عام 1920 وما بعد.

السكان الكرد في ظل الانتداب الفرنسي:

يتكلم أكثرية أكراد سوريا اللهجة الكرمانجية ( لهجة يتكلمها أكثرية الكرد في تركيا والشمال الشرقي لكل من العراق وإيران) وهم من المسلمين السنة باستثناء اليزيديين الموزعين بين الجزيرة وجبل سمعان ووادي عفرين وكرداغ. كان الكرد في ظل الانتداب الفرنسي موزعين على ثلاث مناطق ضيقة معزولة عن بعضها البعض على طول الحدود التركية : الجزيرة وجرابلسوكرداغ. وتشكل المقاطعات الثلاث امتدادات طبيعية للمناطق الكردية داخل تركيا والعراق. لكن أكراد سورية, وبسبب أصولهم الجغرافية  ونمط حياتهم (البداوة والاستقرار) واستقرارهم في بيئات متنوعة (مثل الاسكندرونة وحوران والجزيرة ) لم يشكلوا مجموعة متجانسة في بداية القرن العشرين.  على العكس فإن السكان الذين اعتبروا كرداً تميزوا بطبيعتهم المجزأة, وهي سمة عززها الفرنسيون خلال الانتداب.

في النتيجة لم يكن ممكناً الحديث عن كرد سوريا بمقاييس خصائص محددة متميزة خلال النصف الأول من القرن العشرين. بالنسبة للأفراد والجماعات (أي العشائر والقبائل والعائلات) كان الاحتمال الأكبر هو أن تتحدد الهوية الاثنية وفقاً لمصالحهم وارتباطاتهم الاجتماعية والسياسة أكثر من أن تتحدد بالسمات اللغوية والتاريخية. حتى انطلاق سوريا المعاصرة , كانت النقطة المرجعية الطبيعية للجماعات الكردية تتحدد بمقاييس العلاقات, بما في ذلك الأصل الجغرافي (وادي أو قرية أو حارة) أو العائلة أو العشيرة  أو الطائفة (كما في حالة اليزيديين). في ضوء هذه العوامل من الصعب اعتبار الكرد “اقلية” بمفهوم مرحلة الانتداب.

حافظ عدد محدود من القبائلالكردية,التي وجدت في بلاد الشام (الأراضي السورية) في القرن الثامن عشر, على هياكلها الداخلية أو صلاتها مع كردستان شرقا, بينما تم استيعاب الأخرى في قرى واتحادات (قبلية) تركية وعربية. وهكذا فإنه بينما تكامل كرد شمال حلب في المجتمع العثماني الريفي  خلال هذه الفترة, محافظين على “حدودهم”  الاثنية, فإن القبائل التي أقامت في هضبة القصير تم استيعابهم بسرعة من قبل السكان العرب. خلال الانتداب الفرنسي كانت هناك خمس قبائل كبيرة تتقاسم منطقة كرداغ , هي : أميكان وبيان وشيخان وشكاكان وجوم. وكانت هناك العديد من القبائل الصغيرة الأخرى مثل: روباريا وخرزان وكوجار وكاستيا. وكانت أكثرية قرى اليزيدية, بعدد سكانها البالغ حوالي /1140/, خاضعة لزعماء روباريا.

من بين الاتحادات القبلية الكردية المتأصلة في شمال سورية, يشكل المليون اتحاداً بارزاً. إن وجود المليين موثق في المصادر العثمانية منذ عام 1518 وما بعد. مع الحاق ديار بكر بالإمبراطورية العثمانية سيطر الملييون على تلال قرج داغ , وكثير ما الحقوا بالولاية القبلية لجوار ماردين.

بدءاً من أواخر القرن السابع عشر خضع الملييون لمشروع التوطين القبلي, واجبروا في البداية على الاستقرار في جوار ديار بكر ومن ثم إيالة الرقة. وكثيراً ما غادروا الأراضي المخصصة لهم وعادوا شمالاً سعياً وراء المراعي الأفضل. وبدءاً من القرن الثامن عشر بلغت القبيلة درجة من القوة جعلتها ترفض دفع الاتاوات وتخوض الحرب ضد السلطة. ضعف الاتحاد الملي كثيراً نتيجة الصراع  الداخلي والصراع مع القبائل العربية من شمر, حتى وصول الزعيم الجديد إبراهيم باشا للزعامة , الذي أسس لمرحلة  جديدة للقبيلة. لكن إبراهيم باشا لم يعارض الحكومة المركزية بشكل فعال. بل على العكس ساعد السلطان من خلال تقديم الرجال للفيالق الحميدية, التي أسست في نهاية القرن التاسع عشر. خلال ثورة تركيا الفتاة, وقف ثانية مع السلطان وحاول الحصول على الدعم من سوريا. ولوحق من قبل تركيا الفتاة وواجه الرفض في سوريا, وتوفي في ظروف بائسة. ولم يكن وريثه محمد (محمد باي) (محمد بن ابراهيم باشا) يتمتع بأي من صفات سلفه. ولاحقاً فإن الحدود الدولية الجديدة التي وضعتها فرنسا والحكومة الكمالية في أنقرا في أكتوبر 1921 قسمت المنطقة , وتركت جزءاً كبيراً من أراضي أجداد المليين ضمن مناطق الانتداب في سوريا.

بجانب المليين, كانت هناك قبائل نصف بدوية ومقيمة في الجزيرة  مثل الدقوريوهفيركا وحسنان وميران. على الضفة اليسرى من الفرات حوالي جرابلس وسروج وبعض المناطق من الضفة اليمنى للفرات استقر الأكراد في بداية القرن السابع عشر بعد هجرة إجبارية فرضها السلاطين. لذلك ـتأسس في جرابلس الاتحاد [القبلي] البرازي, الذي ضم مكونات غير متجانسة بدرجة كبيرة, وبعضها كان يدعي الأصل العربي. قبل وصول الفرنسيين ورسم الحدود السورية التركية, تجول البرازية في منطقة التلال بين سهل سروج وجرابلس. وهذه المجموعة الكردية القوية والتي يبلغ تعدادها /16000/ شخص والمقيمة في جرابلس يمكن ان تقسم إلى خمس قبائل هي: عليدينان وشدادان وشيخان وكيتكانوبيجان.

لم تكن العلاقات الكردية العربية تتحدد كلياً بأي سلسلة مجردة من التفاعلات بين هاتين المجموعتين. ابعد الكرد عميقاً وبأعداد كبيرة إلى عمق البلدان العربية عقاباً لهم أو لأغراض تتعلق بإدارة الدولة أو لأغراض عسكرية. ويمكن أن نلاحظ المستعمرات العسكرية الكردية ذات المدى الطويل في دمشق وحوران والجليل الأعلى والاردن على طول طريق الحج.

تشكلت المستعمرة الكردية في دمشق من الكتائب الكردية التي رافقت صلاح الدين الأيوبي في القرن الثالث عشر, الذي كان هو نفسه من أصل كردي, خلال الحملات الصليبية. في البداية أقامت تلك الكتائب في منطقة سوق الساروجة قبل أن تهاجر لاحقاً إلى جبل قاسيون. في ظل الامبراطورية العثمانية تعزز الدور العسكري للمجتمع الكردي في دمشق. وفرضت الشرطة والعسكر الكرد النظام في البلدة وفي نفس الوقت ضمنت حماية طريق الحج نحو مكة. انضم العديد من الكرد من المناطق الداخلية الريفية لسوريا للقوات الانكشارية المحلية yerliyye.  وهناك آخرون دربوا في استانبول ووصلوا لدمشق كجزء من الانكشارية الامبراطورية qapi-qul. وبالنسبة للكثير من الكرد في دمشق فإن فهمهم لطبيعة مهمتهم ساهم في الشعور العميق بالانتماء لمجموعة أثنية مختلفة.

في النتيجة فإن المهاجرين الكرد من مختلف  الأصول (دياربكر والموصل وكركوك)  الذين أتوا للانضمام للفعاليات العسكرية تسببوا في توسع المنطقة الكردية. وفقط في ظل الانتداب الفرنسي اندمج حي الأكراد, الذي قدر سكانه في الثلاثينات بـ 12000, كلياً في دمشق نتيجة بناء الشوارع المعبدة التي وحدت المنطقة الكردية مع باقي المدينة. لكن قبل هذه المصالحة المتأخرة مع المدينة, وفي القرن التاسع عشر, نجح العديد من الشخصيات الكردية البارزة في اكتساب سمعة اقتصادية وسياسية في العاصمة السورية. وفي النتيجة فإن إصلاحات التنظيمات, وبشكل خاص قانون الأرض, سمح للوجهاء المحليين بالحصول على مساحات واسعة من الأرض في الريف المحيط بدمشق. كذلك فإن إعادة التنظيم الإدارية للمدينة بين عامي 1840-1860 سمحت لأرستقراطية ملاك الأرض الجديدة  الدمشقية بتعزيز موقعها على حساب السلطة التقليدية للقادة الدينيين .

من بين وجهاء الكرد المقيمين في الحي الكردي, تميزت عائلتان هما شمدين ويوسف. اليوسف تجار ماشية تعود جذورهم لدياربكر, بينما جذور الشمدين غير واضحة. وعلى الرغم من أن العائلتان قررتا الاستقرار في سوق الساروجة, وهي حركة تشير لصعودهما الاجتماعي, فإنهما حافظتا على شبكة زبائنهما في الحي الكردي. العائلة الأخرى من الوجهاء الكرد الدمشقيين هي Abid , لكنها لم تكن مترسخة في حي الاكراد وكانت لها سلطة أقل بكثير. اندمجت النخب الكردية تماماً في الحياة الاقتصادية والسياسية للمدينة وجوارها, وذلك على خلاف باقي سكان الحي. وحافظ القادة المحليون على أثنيتهم ليس كمصدر سياسي للدفاع عن حقوق خاصة بهم كأقلية, بل كأداة لضمان علاقات الزبائن بين الأعضاء.

أخيراً كان هناك حي كردي في حلب منذ القرن التاسع عشر,  نما سكانه بالقدوم المستمر للمهاجرين من كرداغ  والجزيرة  أو بسبب التبادل التجاري بين حلب و ريفها الشمالي الشرقي.

الكرد والعرب والدولة الكولنيالية:

حدت الاتفاقيات والمعاهدات, التي وقعت من قبل الحلفاء بعد سقوط الامبراطورية العثمانية, بدرجة كبيرة من مساحة النفوذ الفرنسي في الشرق الأوسط. والمناطق الكردية التي عهدت للفرنسيين بموجب انتداب 1920 خفضت إلى مناطق محددة  من عينتاب وبيراجيك وجزيرة ابن عمر. كذلك خفضت الاتفاقية التركية الفرنسية في 20 أوكتوبر 1921 النفوذ الفرنسي أكثر في المناطق الكردية بحيث حددت بـPayasوميدان أكبس إلى جنوبي كلس, TchobanBey, إلى الخط الحديدي الذي يربط بغداد ونصيبين, إلى الطريق القديم بين نصيبين وجزيرة ابن عمر, وهاتين الأخيرتين خرجتا من منطقة النفوذ الفرنسي. وأخيراً فقد الفرنسيون سنجار, وهي منطقة كردية  يسكنها الكرد اليزيديون,  وسلمت للعراق بموجب المعاهدة السورية العراقية في 3 يوليو 1933. سيطرت سلطات الانتداب على الكرد السوريين مع التقدم التدريجي للقوات العسكرية في المناطق التي يقطنها القبائل الكردية. واستمرت عملية السيطرة الاستعمارية هذه عقداً كاملا, وهو أمر غير مألوف نوعاً ما في ظل نظام الانتداب.

أول السكان الاكراد الذين واجهتهم فرنسا في سوريا كان من يقطنون في كرداغ حوالي نهاية عام 1919, عندما اخترقت القوات الفرنسية هذه المنطقة الجبلية بشكل سهل نسبياً. اثبت أكراد دمشق ولاءهم مباشرة للفرنسيين بعد سقوط الحكومة الفيصلية عام 1920. والعائلتان الكرديتان الكبيرتان, اليوسف والشمدين, على الرغم من تعربهما التدريجي طوال القرن التاسع عشر, لم تكونا ميالتين للقومية العربية, التي هددت الولاءات الاثنين والتقليدية التي كانت نفوذهما يعتمد عليها جزئياً.  كذلك فإنه وفقاً لـ(Philip S.Khoury) ” فإن الدور الذي لعبته القوات الاحتياطية الكردية في قمع الثورة السورية الكبير 1925 وتر العلاقات بين القوميين [العرب] وأكراد دمشق خلال الانتداب”.

كانت مواقف القبائل الكردية في جرابلس تجاه الوجود الفرنسي متنوعة. خضع الكيتكان مباشرة للقوات الفرنسية مع وصولهم في عام 1920, وتعاون المليون مع الفرنسيين في أورفا. لكن العديد من الفرق الكردية, ومن بينها قبائل ترتبط بالمليين, والتي شجعتها الدعاية ذات الطابع الاسلامي, انضمت للأتراك في المعركة بين القوات الفرنسية والفيالق المؤيدة لمصطفى كمال حوالي مرعش وعينتاب وأورفا. لكن في الجزيرة العليا واجهت سلطات الانتداب المقاومة الأكبر حتى عام 1926. ومرة ثانية ثبتت فعالية الدعاية الكمالية (التركية) في الجزيرة, التي توجهت للقبائل العربية والكردية,في أعاقة تقدم القوات الفرنسية. كانت نتيجة سيطرة سلطات الانتداب على السكان الكرد بشكل متدرج ومجزأ, هي أعادة تحديد هوية الكرد على المستوى المحلي, “في مواجهة المزاعم الشمولية للانتماء العرقي الكردي, الذي يقترحها المؤرخون القوميون والتفسيرات التاريخية المستندة للدولة”.

 الحالة الكردية بهذا المعنى ليست استثناءً, باعتبار أن كل أثنية وطائفة دينية اتبعت تطوراً موازياً لذلك. كان المشهد السياسي السوري يتميز في العشرينات بالكثير من الغموض. كانت مجتمعات متنوعة وقياداتها تحاول التكيف مع /أو الاستفادة من مزيا بيئة مشوشة ومتغيرة ميزتها, من بين أمور أخرى, قضايا مثل نهاية الامبراطورية العثمانية والدعاية الاسلامية وتأسيس الانتداب الفرنسي والمحاولات الدولية لحماية الأقليات.

كانت الثورات المضادة للفرنسيين في شمال غرب حلب عام 1919 مثالا جيداً لهذا المشهد. معظم الدراسات لهذه الثورات افترضت أنها مثلت تعبيراً محلياً عن للحركية القومية العربية الجنينية بهدف أساسي هو منع الفرنسيين من اسقاط الحكومة التي أسسها الأمير فيصل ابن الحسين وحلفائه في دمشق. لكن هناك أدلة كثيرة تدحض هذا الرأي. المتمردون الذين التحقوا بهذه الثورات يناقضون الادعاء بأن الهدف الأساسي كان تشجيع العودة إلى اللامركزية العثمانية التي هيمن عليها المسلمون سياسياً, الأمر الذي سيحمي هيمنة النخب المحلية باعتبارهم نبلاء من ملاك الأرض الريفيين أو البيروقراطية الصاعدة. كذلك فإن من انضم للاضطرابات في الشمال مالوا للتعبير عن أسبابهم لحمل السلاح ضد فرنسا على أنها تكمن في الأيديولوجيا الاسلامية, من خلال استعمال الشعارات والرموز الاسلامية (مثل الحديث عن الحرب المقدسة ومعاداة الكفار).

هذا الحديث عن العبارات والرموز الدينية لا يستبعد بالضرورة وجود دافع الوطنية المحلية وحماية نمط الحياة  وغيرها من القيم الثقافية, لدى البعض من المتمردين. في مناطق أخرى من سوريا, وحوران بشكل خاص,  كان يمكن رؤية القومية العربية كدافع أساسي يجمع هوية محلية قوية مع الوعي الاثني الأعرض.

باختصار فإن دراسة الحراك السياسي خلال فترة الانتداب مستحيلة إذا تم حصر الفهم بثنائية تعارض الأقلية /الأكثرية (أكراد/عرب) باعتبار أن كلان من المجموعتين تشكلان كيانات اجتماعية سياسية هجينة. بكلمات أخرى إذا كانت الدولة السورية في مرحلة التشكل خلال الانتداب الفرنسي, فإن المجموعة الكردية كان تقوم بالتحول من جانبها الخاص.

لقد عرقل كل من غموض المشهد السياسي السوري, والطبيعة المجزأة للسكان الكرد, والسياسة الانتدابية التي أصرت على تجزئة الجسم الكردي, كل محاولات تعبئة الجيوب الكردية خلف فكرة القومية.  كان للحركية النادرة للكرد السوريين خلال فترة الانتداب, الحركة الاستقلالية في الجزيرة وحركة المريدين في كرداغ مثلاً, أثر محليا بارزا . كان التطور الاقتصادي والاجتماعي لأكثرية المناطق الكردية لمصلحة استمرار سياسة البدائية (الصلات والشبكات البدائية مثل القبيلة والقرية وحتى العائلة) التي صبغت الحركات الشعبية وحركات النخبة وكذلك مسألة الانتماء الاجتماعي لأكثر الأفراد.

لاحقاً وبعد 20 سنة من الانتداب الفرنسي تم تحدي الروابط البدائية بين الكرد من قبل مفاهيم مثل المجتمع القومي والأممي. وكانت نتيجة هذه العملية هي ازدياد نزاعات الولاء في المجتمعات الكردية. لقد أثار ازدياد الوعي بالهوية الكردية المتميزة الشكوك لدى النخب السياسة العربية التي اعتبرت السكان الكرد عائقاً للبناء القومي لسوريا, والتي صبغت بشكل متزايد بالعروبة. وقد قيم جميل مردم (زعيم الكتلة الوطنية) الهوية الناشئة  مصرحاً بأنه ” منذ أن وصل الاخوة بدرخان عاد أكراد دمشق للخلف خمسين عاماً”

إن استمرار الشبكات الزبائنية القديمة المستندة على الولاءات القبلية أو إعادة ظهور السياسات القبلية الكردية بمختلف أشكالها لم يمنع القومية الكردية من الظهور في الجيوب الكردية.  بل على العكس تماماً كان الحركيات العشائرية والدينية راعية للقومية الكردية.

 =========================

[1]–  من الصعب علينا أن نذكر كل الأعمال التي تطرقت للمسألة الكردية  والهوية الكردية والقومية الكردية في هذه البلدان الثلاث لكن يمكن أن نذكر مساهمات : C.J. Edmonds (1957), Chris Kutschera (1979), Elizabeth Picard (1991), Martin van Bruinessen (1992), Amir Hassanpour (1992), David McDowall (1996), Philip Kreyenbroek and Christine Allison (1996), Hamit Bozarslan (1997), and Martin Strohmeier (2003)

[2]– تم إيراد الدور الكبير للكرديين المستعربين حسني الزعيم وأديب الشيشكلي كإثبات على الاندماج الناجح للكرد في المجتمع السوري.

[3]–  حول هذا الموضوع انظر:

European Journal of Turkish Studies, Thematic Issue no. 5 , http://www.ejts.org.

[4]-أجرينا دراستين ميدانيتين (إبريل 2001 و فبراير ومارس 2007) في سوريا. لسوء الحظ في الحالتين قاطعتنا قوى الأمن وطلبت منا مغادرة شمال سوريا. وبجانب من ذكرت أسماؤهم أرغب بشكر كل من قدم لنا ولم يذكر.

[5]– في عام 1936 اصدر المفوض الفرنسي العام في سوريا ولبنان مرسوماً تضمن الاعتراف القانوني بالجماعات الدينية التي سبق وأن اعترفت بهم الامبراطورية العثمانية وتم استيعاب قانوني الأحول الشخصية الخاص بهم في دستور 1930.

[6]– ينعرف الجماعة الأثنية على انه مجموعات محلية (قبائل و قرى وسكان مدن) تدعي الانتماء لأصل مشترك ونمط حياة ومبادئ اجتماعية للتنظيم ومجموعة أفكار,  ليست متشابهة بالضرورة,  لكن تبين  من خلال اختلافاتها أنها تنتمي لتقاليد مشتركة.

[7]– مقابلة مع الكاتب Rajo مارس 2007

[8]– نتيجة التحالف السياسي والعسكري بين الامبراطورية العثمانية وفرنسا عام 1534 تم وضع الأسس القانونية للتواجد الفرنسي في الشرق. في البداية كانت عملاً من طرف واحد منحه السلطان انطلاقاً من سلطاته الشخصية لبلد حليف الأمر الذي نتج عنه عدد من الفوائد فيا يخص الحرية الدينية وحرية التجارة والحصانة القضائية. لكن الأمر توسع بسرعة لقوى تجارية أخرى (مثل انكلترا) , وغيرت التنازلات طبيعة هبوط الإمبراطورية العثمانية.  اكتسب السفراء والمستشارون ولاء زبائن محليين من صفوف اليهود واليونانيين والأرمن والمجتمعات المسيحية الشرقية الأمر الذي قوض شيئاً فشيئاً سلطات الإمبراطورية. خلال القرن التاسع عشر تحولت المواضيع التقليدية للاقتصاد والقضاء إلى نظم حقيقي للتاثير الثقافي والسياسي ( بفضل عمل المبشرين وتطورات المجتمعات المحلية غير المسلمة).

[9]– يعرف  James C. Scott النسخ العام (public transcript) بأنه تفاعل مفتوح بين التابع والمهيمن (Scott 1990: 2).

[10]– من أجل التفصيل في فرضية وجود المجتمع المدني في سوريا انظر Hinnebusch (1995: 214–42)

[11]-نعني بالأقلية “أقلية قانونية واجتماعية” تعيش في سياق متميز وظروف من التكامل.

“مدارات كرد”

 

Related Articles

Back to top button