القسم العاممختارات

سري كانيه… أيقونة الجزيرة

مجلة الحوار – العدد /83/ – السنة 31 – 2024م.

سري كانيه أو راس العين، مدينة الينابيع الكبريتيّة والآثار الموغلة في التاريخ، فعلى هذه الأرض تعاقبت الحضارات وتوالت الثقافات، فأصبحت النموذج الفريد في تلاقي مختلف الثقافات وساحة التآخي بين تلك الشعوب التي سكنتها على مدار القرون.

إنها المدينة التي أورثت أبناءها حبّ السلام والمحبة وعشق العيش المشترك، كيف لا وهي المعروفة بجمالها وجغرافيتها الجميلة والتي أكسبت سكانها الجمال والصفات والأخلاق الفضيلة.

ويشهد التاريخ كيف أنّ هذه المدينة كانت الحاضنة واللوحة الفسيفساء التي نُحتت بتمازج الألوان الدّالة على جمالية المكوّنات التي ساهمت في الحفاظ على إرثها الجميل.

إن الحديث عن هذه الأيقونة الجميلة يطول ويحتاج إلى معلّقات عدّة لربما حينها نستطيع إعطاء هذه المدينة حقّها في الوصف والجمال.

أما موقعها الجغرافي فقد أعطاها الصبغة الحيوية بين مناطق عدة، لذلك سنحاول ومن خلال هذه الكلمات المتواضعة أن نلقي الضوء على الجانب الاجتماعي والحالة المجتمعية لسري كانيه.

ندرك جيداً بأن الشعوب القاطنة في مكان ما هي التي ترسم جمالية ذلك المكان وتحدّد ملامحها، لذا فقد كان لسكان سري كانيه الفضل الأكبر في الحفاظ عليها من خلال الموروث الاجتماعي المبني على الأخلاق السامية المتوارثة من الأجداد.

سري كانيه المدينة الصغيرة بمساحتها ولكن الكبيرة بتنوّعها، فقد حملت واحتوت على العديد من الطوائف والقوميات المتنوعة واستطاع أهلها الاستفادة من هذا التنوع والتعدد لرسم الحالة المجتمعية المثالية من خلال حالة التجانس والتمازج بين تلك المكونات.

ومن خلال الخوض في التاريخ المعاصر والحديث سنجد بأنه رغم جميع المحاولات والسياسيات التي كانت تُمارس بحق هذه المدينة وغيرها من المدن السورية خلال حقبة النظام البعثي ورغم جميع الإمكانيات التي كان يمتلكها هذا النظام ومن أدوات، إلا أنه عجز عن خلق الشرخ المجتمعي بين أبناء هذه المدينة بل زادهم ذلك تماسكاً وتلاحماً، وتجلّى ذلك في حالة التماسك المجتمعي التي أظهرها أهل هذه المدينة.

ومن الأمثلة الحيّة على ذلك انتفاضة قامشلو في سنة 2004م وما تلاها من امتداد إلى باقي المناطق ومنها سري كانيه، وكيف أن أهلها بشكل عام ومن المكوّن الكردي على وجه الخصوص، قاموا ووقفوا معاً وقفة رجل واحد ضد الممارسات القمعية من قبل النظام البعثي ولم تتأثر المدينة حينها بكافة المحاولات التي كانت تهدف إلى صبغ تلك الانتفاضة بالطابع القوميّ والطائفيّ من خلال القول بأنها حربٌ بين الكُرد والعرب إلّا في نطاق محدود.

جميع تلك الادعاءات سقطت أمام حالة التماسك والوعي المجتمعي التي أبداها أبناء سري كانيه، وتجلّت عظمة هذا التماسك خلال غزو الفصائل الراديكالية للمدينة بداية الأحداث السورية في العام 2012م والذي تمثّل بالهجوم الذي شنّته فصائل مسلّحة مثل “غرباء الشام” و “جبهة النصرة” مدعومةً من تركيا، فرغم قلّة الإمكانيات حينها بقيت سري كانيه القلعة الصامدة في وجه هذا الغزو بعد أن هبّ الجميع بمختلف مشاربهم وتعدد طوائفهم للدفاع عن مدينتهم المعززة بموروث التعايش المشترك والأخوة في الحياة.

إن حالات المصاهرة بين مختلف أبناء هذه المدينة وحالة التمازج في أسواقها إنّما هي من الأدلة الواضحة بأن سكان سري كانيه لم تكن لديهم الحالة الإقصائيّة التي غالباً ما تتواجد في المجتمعات الأخرى، بل على العكس كان هذا التمازج اللبنة الأساسية في الصرح الذي تم بناؤه بعد انطلاق الأحداث السورية.

قبل الغزو التركي والفصائل المسلحة التابعة لها والتي أطلقت على نفسها اسم “الجيش الوطني السوري”، في عام 2019م، كانت لهذه المدينة مكانة حيوية وكانت تُعتبر نقطة التقاء لجميع المناطق الأخرى وذلك لأسباب تتعلق بطبيعة جغرافيتها وموقعها ناهيك عن الحالة الاجتماعية لسكانها وحالة التوافق والتجانس بين أبناء هذه المدينة.

ولأنها كانت الحصن القوي مجتمعيّاً، فهي كانت هدفاً دوماً لكافة الطامعين وفي مقدمتهم تركيا وفصائلها التي تسمّي نفسها (سوريّة) زيفاً.

حتى بعد احتلالها ورغم الظروف التي مرّت بها هذه المدينة، ظلّ أهلها وأبناؤها ورغم حالة التهجير والتغييب القسري، محافظين على هذا التماسك في الأماكن التي نزحوا إليها ومازالت حالة التلاحم موجودة رغم كل الظروف التي عصفت بهم وبمدينتهم. وبالفعل كانت سري كانيه الأيقونة الجميلة بموروثها الاجتماعي والثقافي والتاريخي وتحولت لنموذج للسّلم الأهلي والتعايش المشترك كونها تمثّل بشكل ما الطبيعة التعددية والتنوع في سوريا.

إن سري كانيه بالإضافة لآثارها في تل حلف وتل الفخيرية هي مواقع تختزن تاريخ المنطقة وهي ذاكرة العصور لمدّة تزيد عن ستة آلاف سنة، أي أن آثارها موغلة في التاريخ وتدل على تعاقب الحضارات فيها، وبذلك أصبحت نموذجاً للمدينة المتلاحمة بجميع مكوناتها من كرد وعرب وسريان وأرمن وشيشان، مسلمين ومسيحيين وإيزيديين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى