“غصن الزيتون ونبع السلام”… جرائم حرب وانتهاكات ممنهجة في ضوء القانون الدولي
محي الدين عيسو*
مجلة الحوار – العدد /83/ – السنة 31 – 2024م.
مقدمة
أدّت العمليات العسكرية التي شنّتها تركيا في شمال سوريا كعملية “غصن الزيتون” (2018) وعملية “نبع السلام” (2019)، إلى وقوع انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان طاولت السكان المحليّين، وخاصة المجتمعات الكردية في عفرين ورأس العين/سرى كانيه وتل أبيض، كان من نتيجتها حصول حالة تهجير قسريّ قلّ نظيرها منذ بدء الأزمة السورية.
أفضت العملية العسكرية إلى حصول جملة من الانتهاكات تمثلت في: التهجير القسري والاعتقالات التعسفية ومصادرة الممتلكات وعمليات القتل خارج نطاق القانون والتعذيب التي ارتكبتها القوات التركية والفصائل السورية التابعة لها. وبطبيعة الحال تنتهك هذه الأعمال العديد من أحكام القانون الدولي، بما في ذلك القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
في تقريرنا المقتضب هذا نعرض بعض هذه الانتهاكات، مع الإشارة إلى المعايير القانونية المطبقة وإسناد جميع المعلومات إلى مصادر دولية وحقوقية موثوقة.
التهجير القسري
خلال عمليتي “غصن الزيتون” و”نبع السلام”، تم تهجير مئات الآلاف من المدنيين، ومعظمهم من الأكراد، قسراً. كانت القوات التركية والفصائل المتحالفة معها، مثل “الجيش الوطني السوري”، مسؤولة عن تهجير عشرات الآلاف من السكان من مناطق مثل عفرين ورأس العين وتل أبيض، وتم منع العديد من السكان المهجرين من العودة إلى منازلهم التي صادرتها أو دمّرتها الفصائل المدعومة من تركيا.
بعد السيطرة على هذه المناطق، قامت الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا بمصادرة ممتلكات السكان المُهجرّين أو تدميرها، ما جعل من الصعب على الكثيرين العودة. كما تم توثيق تقارير عديدة عن انتهاكات حقوق الإنسان ضد السكان الأكراد في تلك المناطق، بما في ذلك عمليات قتل واختطاف ونهب ممتلكات، فضلاً عن إحداث تغيير ديموغرافي واسع النطاق بسبب إعادة توطين السكان الموالين لتركيا من مناطق أخرى داخل سوريا، حيث سعت تركيا إلى استخدام تلك المناطق كوجهةٍ لتوطين آلاف اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، هذا التوطين أثار مخاوف دولية بشأن المزيد من عمليات التغيير الديمغرافي المُتعمّدة في المناطق ذات الأغلبية الكردية، حيث إن اللاجئين الذين تم توطينهم ينتمون إلى مجموعات إثنية مختلفة.
وفقًا لـ اتفاقية جنيف (1949)، تحظر المادة 49 الترحيل أو النقل القسري للمدنيين من الأراضي المحتلّة، إذ تنصّ على أن مثل هذه التحركات تعتبر غير قانونية بموجب القانون الإنساني الدولي إلّا إذا كانت مطلوبة لحماية السكان أو لأسباب عسكرية مًلحّة. كما يصنف نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998) التهجير القسري على أنه جريمة ضد الإنسانية، مما يحمّل مرتكبي هذه الجرائم المسؤولية القانونية.
تؤكد المبادئ التوجيهية بشأن النزوح الداخلي على حق الأفراد المهجرين في العودة إلى منازلهم، وتحظر التهجير القسري الذي ينتهك حقّ الحياة والحرية والكرامة، حيث تشكل هذه المبادئ إطاراً أساسياً لحماية حقوق المهجرين في المناطق المتأثرة بالنزاعات.
منع المدنيين من العودة إلى منازلهم
بعد انتهاء العمليتين العسكريتين، (غصن الزيتون ونبع السلام)، ظهرت تقارير عديدة تفيد بأن تركيا والفصائل السورية المدعومة من قبلها قد منعوا المدنيين، خصوصاً الأكراد، من العودة إلى مناطقهم ومنازلهم في المناطق التي كانت تحت سيطرة “الإدارة الذاتية الديمقراطية”، وقد وردت العديد من الشكاوى من سكان تلك المناطق عن حصول تغيير ديموغرافي متعمّد، إذ تم توطين عائلات عربية وتركمانية في المنازل العائدة للأكراد الذين غادروا اضطرارياً أو تم تهجيرهم بفعل النزاع.
يُعدّ منع المدنيين من العودة إلى منازلهم بعد تهجيرهم انتهاكًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان. تنص مبادئ بينهيرو بشأن استرداد المساكن والممتلكات للاجئين والأشخاص المشردين 2005 على أن “للأشخاص المُهجّرين الحق في العودة الطوعية إلى منازلهم واستعادة ممتلكاتهم”، كما يضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR)، في المادة 12، حق الأفراد في العودة إلى أوطانهم ومنازلهم.
ينصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان UDHR))، في المادة 13، على أن لكل شخص الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، والعودة إليه. تشكّل هذه الأحكام جزءاً من القانون الدولي الذي يحظر منع المدنيين من العودة إلى منازلهم، مما يزيد من تفاقم الضرر الناجم عن التهجير القسري.
الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري
وثّقت تقارير من منظمة العفو الدولية حالات واسعة من الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري التي ارتكبتها الفصائل المدعومة من تركيا، مثل فصيل “أحرار الشرقية”، إذ تم اعتقال المدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال، دون اتباع إجراءات قانونية مناسبة، واحتُجزوا بمعزل عن العالم الخارجي، مما أثار مخاوف بشأن حالات الاختفاء القسري.
يحظر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ICCPR الاعتقال التعسفي، حيث ينصّ على أن يتم إبلاغ المعتقلين بأسباب اعتقالهم وعرضهم على السلطات القضائية في أقرب وقت ممكن. كما تحظر الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري الاعتقالات التي لا يُعرف فيها مكان وجود المعتقلين، مما يضع الأفراد خارج نطاق حماية القانون.
التعذيب والمعاملة اللاإنسانية
تصفُ العديد من التقارير الصادرة عن “هيومن رايتس ووتش” ومنظمة “العفو الدولية” استخدام التعذيب وأشكال المعاملة اللاإنسانية في المناطق التي تحتلّها تركيا. حيث أبلغ المعتقلون الأكراد عن تعرضهم لـ ضرب مبرح وصدمات كهربائية وأشكال أخرى من التعذيب النفسي. يُزعم أن ضباط الاستخبارات التركية كانوا حاضرين أثناء بعض هذه العمليات، طبقاً للتقرير.
تحظر اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب 1984 التعذيب في جميع الظروف، وتعرفه بأنه “أي فعل يتسبب في ألم أو معاناة شديدة بدنية أو نفسية بهدف الحصول على معلومات أو كوسيلة للعقاب”.
القتل خارج نطاق القانون
يشكل القتل خارج نطاق القانون انتهاكاً خطيراً آخر للقانون الدولي. من أشهر الحالات اغتيال الناشطة السياسية الكردية هفرين خلف على يد مقاتلي فصيل “أحرار الشرقية” خلال عملية “نبع السلام”. تم سحب خلف من سيارتها وتعرضت للضرب ثم تم إعدامها. كانت هذه واحدة من عدة حالات الإعدام الميداني التي ارتكبتها الفصائل المدعومة من تركيا.
تشكل عمليات القتل خارج نطاق القانون انتهاكًا للمادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ICCPR، التي تضمن الحق في الحياة وتحظر الحرمان التعسفي من الحياة. كما تنص مبادئ الأمم المتحدة بشأن الوقاية الفعالة والتحقيق في عمليات الإعدام خارج نطاق القانون 1989 على “أن تتخذ الحكومات إجراءات فعالة للتحقيق في عمليات القتل خارج نطاق القانون ومنعها”.
مصادرة ونهب الممتلكات
انتشرت أعمال مصادرة ونهب الممتلكات في مناطق مثل عفرين ورأس العين، حيث استولت الفصائل المدعومة من تركيا على منازل المدنيين وباعتها أو قامت بتأجيرها دون موافقتهم. غالباً ما يجد المدنيون العائدون إلى منازلهم أنها دُمرت أو صودرت من قبل الفصائل المسلحة. في بعض الحالات، تم بيع منازل مقابل أقل من 700 دولار.
يحظر القانون الدولي نهب وتدمير ممتلكات المدنيين. تحظر لوائح لاهاي لعام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة النهب ومصادرة الممتلكات المدنية. تنص المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة على أن “النهب محظور رسمياً” بالإضافة إلى ذلك، يعتبر نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية النهب جريمةَ حرب.
العنف الجنسي
تم الإبلاغ عن حالات العنف الجنسي، خاصة ضد النساء الكرديات، في المناطق التي تسيطر عليها تركيا. أفادت المعتقلات بأنهنّ تعرضن للاعتداء الجنسي أثناء استجوابهن من قبل الفصائل المدعومة من تركيا. وقد روى الناجون أنهم تعرضوا للاغتصاب أو أشكال أخرى من العنف الجنسي كوسيلة للإكراه أو العقاب.
يُعد العنف الجنسي انتهاكًا جسيمًا لـ القانون الإنساني الدولي، ويُحظر صراحة بموجب اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1979. كما تعترف قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 1325 بالعنف الجنسي كتكتيك من تكتيكات الحرب وتؤكد على ضرورة وضع آليات حماية للنساء في النزاعات المسلحة.
انتهاكات حقوق السكن والأراضي والممتلكات
وفقاً لتقارير “هيومن رايتس ووتش”، تم منع السكان المهجرين في مناطق مثل عفرين ورأس العين من استعادة منازلهم بسبب المصادرة غير القانونية للممتلكات. في بعض الحالات، اضطر المدنيون إلى دفع مبالغ كبيرة من المال للوصول إلى ممتلكاتهم، وفي حالات أخرى، احتُلت منازلهم من قبل الفصائل المسلحة.
يضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان UDHR حق امتلاك الممتلكات، بينما تؤكد مبادئ بينهيرو على حق المهجرين في العودة إلى منازلهم والحصول على تعويض أو استرداد ممتلكاتهم.
المحاسبة والإفلات من العقاب
على الرغم من التوثيق الواسع لهذه الانتهاكات، ظلّ الإفلات من العقاب سائداً. فقد تمكّنت الفصائل المدعومة من تركيا من الإفلات التام من العقاب، وفشلت تركيا، بصفتها السلطة المحتلّة المباشرة، في محاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم، فبموجب اتفاقية جنيف الرابعة، تتحمل قوات الاحتلال مسؤولية الحفاظ على النظام العام وضمان حماية المدنيين. ويشكل الفشل في القيام بذلك انتهاكًا للقانون الإنساني الدولي.
الخاتمة
تشكل الانتهاكات والجرائم الموصوفة التي ترتكبها تركيا والفصائل السورية المسلحة التابعة لها في شمال سوريا وبالأخص في مناطق عفرين ورأس العين / سري كانيه وتل أبيض خرقاً خطيراً للقانون الدولي وانتهاكاً متواصلاً لحقوق الإنسان الأساسية.
من المفيد التذكير هنا بأن الانتهاكات المذكورة في هذا التقرير المتمثّلة بالاعتقال التعسفي والقتل خارج القانون ونهب ومصادرة الممتلكات والتعذيب والمعاملة اللاإنسانية والعنف الجنسي بحق النساء ثم الإفلات من العقاب والمحاسبة تمثل مجتمعة الديناميات المطلوبة لتنفيذ سياسات التهجير القسري وإحداث عمليات تغيير ديمغرافي واسعة النطاق. فضلاً أن لهذه الأفعال تأثير مدمّر على السكان المحليين لاسيما الأكراد الذين يشعرون بأنهم غير مشمولين بأيٍّ من أشكال الحماية القانونية أو الدولية ولأجل ذلك: يتعيّن على المجتمع الدولي تكثيف الجهود لمحاسبة الجناة وتوفير العدالة. وتكثيف التقارير والإحاطات لرصد وتوثيق الانتهاكات اليومية وتنظيم مناسبات تضامنية مع ضحايا التهجير القسري والإشارة إلى الأسباب المباشرة والفعلية لحدوث موجات التهجير وما يتبع ذلك من حصول تغييرات ديمغرافية تؤثّر على مسار الاستقرار والسلام في سوريا. كما يتعيّن على المجتمع الدولي المساهمة في جهود عودة المهجّرين قسرياً وجبر الضرر الذي لحق بهم والتعويض عليهم، ومن المهم في الوقت الراهن إيلاء الاهتمام بالفئات الأكثر ضعفاً كالنساء والأطفال والمرضى في مخيّمات مُهجّري عفرين ورأس العين وتل أبيض.
*المدير التنفيذي لرابطة دار لضحايا التهجير القسري DAR