أقليّة على حافة الانقراض: “سري كانيه / رأس العين” والفصل الأخير في إبادة الإيزيديين
أحمد قطمة – صحافي
مجلة الحوار – العدد /83/ – السنة 31 – 2024م.
في أكتوبر 2019، شهدت مدينة سري كاني / رأس العين التابعة لمحافظة الحسكة شمال شرق سوريا، فصلاً جديداً من فصول المآسي التي حلّت بالإيزيديين كأقلية دينية من الشعب الكردي، تحت مسمّى “عملية نبع السلام”، وذلك عندما شنّت تركيا هجوماً عسكرياً أدى إلى تهجير السكان الأصليين، ومن بينهم الإيزيديون الذين عانوا من التهجير القسري للمرة الثالثة خلال سنوات قليلة.
لم يكن ذلك العدوان، سوى حلقة في سلسلة طويلة من الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت بحق الإيزيديين، ما شكل استمراراً لسياسة الإبادة والتطهير العرقي التي بدأها تنظيم داعش الإرهابي في شنكال/ سنجار عام 2014، وواصلتها تركيا في عفرين عام 2018.
فقبل الغزو التركي، كانت سري كانيه مثالاً للتعايش والتنوع الثقافي والديني في شمال سوريا، ووفقاً لتقديرات ما قبل الحرب، كان يعيش في المنطقة حوالي 5000 إيزيدي، موزّعين على ما يقارب 20 قرية في محيط المدينة، أكبر تلك القرى كانت تضم ما يصل إلى 1000 نسمة، بينما كان متوسط عدد السكان في القرى الأصغر يتراوح ما بين 150-200 شخص.
حيث شكل الإيزيديون حوالي 5-7% من إجمالي سكان سري كانيه، التي كانت تضم أيضاً الكرد المسلمين والعرب والسريان المسيحيين، وهو تنوع فريد استمر لقرون، ومثّل نموذجاً للتعايش السلمي بين مختلف المكونات الدينية والعرقية في المنطقة.
لكن في 9 أكتوبر 2019، وعندما بدأت تركيا عملية عسكرية واسعة النطاق في شمال سوريا، متجاهلة كل الأعراف والقوانين الدولية، وخلال الأيام الأولى من الهجوم، نزح ما يُقدّر بنحو 200,000 شخص من المنطقة، من بينهم غالبية السكان الإيزيديين.
وتبعاً لتقارير منظمات حقوق الإنسان، فإن ما لا يقل عن 4000 إيزيدي اضطروا للفرار من ديارهم، تاركين وراءهم كل ممتلكاتهم وتراثهم الثقافي الذي حافظوا عليه لقرون.
أعاد ذلك العدوان إلى الأذهان بشكل مؤلم مأساة شنكال (سنجار) في كردستان العراق، حيث تعرض الإيزيديون هناك لإبادة جماعية على يد تنظيم داعش الإرهابي في عام 2014، إذ قتل في تلك الحادثة المروعة، ما يقدر بنحو 5000 إيزيدي، واختطف أكثر من 6000 آخرين، معظمهم من النساء والأطفال، كما نزح ما يقرب من 500,000 شخص نتيجة لذلك الهجوم الوحشي.
ويشبه ما حدث في سري كانيه / راس العين، إلى حد كبير ما حدث في عفرين في مارس 2018، عندما شنّت تركيا عملية “غصن الزيتون” العسكرية، والتي تم فيها تهجير ما يقرب من 500000 كردي، بينهم آلاف الإيزيديين، من منازلهم، وتدمير العديد من المواقع الدينية والثقافية الإيزيدية، بجانب توطين مستوطنين من مناطق أخرى في منازل السكان الأصليين.
إن ممارسات تركيا والميليشيات التابعة لها، المعروفة باسم “الجيش الوطني السوري”، لا تختلف في جوهرها عن ممارسات تنظيم داعش الإرهابي، فكلاهما يسعى إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للمنطقة وطمس هويتها الثقافية والدينية الأصيلة.
وحسب تقارير موثقة من منظمات حقوق الإنسان، فقد تم توثيق ما لا يقل عن 63 حالة اختطاف لمدنيين، بينهم إيزيديون، في المناطق الخاضعة لسيطرة هذه الميليشيات، كما تم تدمير ما لا يقل عن 5 مزارات دينية إيزيدية في محيط سري كانيه، وهي ممارسات لا تختلف في جوهرها عن ممارسات داعش في شنكال، حيث تم فيها تدمير 68 مزاراً دينياً إيزيدياً.
“الجيش الوطني السوري”، الذي يعتبر ذراع تركيا في شمال سوريا، يضم في صفوفه عناصر متطرّفة، بعضها كان منضوياً سابقاً تحت راية تنظيمات إرهابية مثل داعش وجبهة النصرة، وبالتالي يحملون نفس الأيديولوجية المتطرفة التي تعتبر الإيزيديين “كفاراً” يجب إما تحويلهم إلى الاسلام أو إبادتهم، وهذا التشابه الأيديولوجي والعملي بين داعش و”الجيش الوطني السوري” يؤكده ما حلّ بالإيزيديين في سري كانيه وعفرين.
فبعد الغزو التركي، تغير الواقع الديموغرافي في سري كانيه بشكل دراماتيكي، ووفقاً للمعلومات المتوفرة، فقد تم توطين ما يقرب من 100,000 شخص من مناطق أخرى في سوريا في سري كانيه، من العرب السنة، ما يمثّل تغييراً جذرياً في التركيبة السكانية للمنطقة، ويشكّل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني الذي يحظر التغيير الديموغرافي القسري.
كما هناك تقارير موثوقة تشير إلى عمليات توطين منهجية لعائلات من خارج المنطقة، بما في ذلك ما يقدر بنحو 1500 عائلة من العراق، ووفقاً لمصادر محليّة، فإن بعض هؤلاء المستوطنين الجدد هم من عناصر داعش السابقين أو المتعاطفين معهم، كما تم توثيق ما لا يقل عن 150 حالة استيلاء على ممتلكات تعود للإيزيديين في المنطقة.
تشكّل هذه السياسة الممنهجة للتغيير الديموغرافي جريمة حرب وفقاً للقانون الدولي، وتهدف إلى تغيير الطابع العرقي والديني للمنطقة بشكل دائم، مما يجعل عودة السكان الأصليين أمراً شبه مستحيل في ظل الوجود التركي بأي شكل من أشكاله العسكرية المباشرة عبر جيشه، أو غير المباشرة عبر المليشيات المتطرّفة التابعة له كمليشيات المعارضة السورية.
من بين الـ 4000 إيزيدي الذين نزحوا من سري كانيه، يعيش حوالي 2500 منهم حالياً في مخيمات للنازحين في مناطق شمال شرق سوريا الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية، يعيشون في ظروف قاسية نفسياً في ظل عدم قدرتهم على العودة لأرضهم التي لطالما كانوا جزءً منها.
البقية، وهم حوالي 1500 شخص، فرّوا إلى خارج سوريا، لكنهم أيضاً يواجهون تحديات كبيرة في الاندماج والحصول على فرص العمل والتعليم، والعديد منهم يعانون من صدمات نفسية حادة نتيجة للتهجير المتكرر والعنف الذي شهدوه.
هذه المأساة الإنسانية تمثل استمراراً للمعاناة التي بدأت مع هجوم داعش على شنكال في 2014، فمنذ ذلك الحين، نزح ما يقرب من 650,000 إيزيدي من مناطقهم التاريخية في العراق وسوريا، وهو ما يمثل أكثر من 90% من إجمالي عدد الإيزيديين في هذين البلدين.
ورغم الأدلة الدامغة على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وجرائم الحرب المرتكبة في سري كانيه وغيرها من المناطق التي احتلتها، تواصل تركيا سياسة الإنكار والتضليل، وتدّعي أنقرة أن عملياتها العسكرية تهدف إلى “مكافحة الإرهاب” و”إعادة اللاجئين”، متجاهلة حقيقة أنها تقوم بتهجير السكان الأصليين وتوطين مجموعات موالية لها، وأنها من تدعم الإرهاب، ومن مرر الإرهابيين الدواعش إلى سوريا والعراق، من كل أصقاع المعمورة، في إطار مساعيها الاستعمارية والعنصرية لإعادة تشكيل المنطقة وفقاً لرؤيتها الجيوسياسية، المتجاهلة والمنكرة لحقوق السكان الأصليين وتاريخهم وثقافتهم.
أما صمت المجتمع الدولي على ما يحدث في سري كانيه وغيرها من المناطق السورية المحتلّة، فما هو إلا دليلٌ على فشل ذريع في تحمّل المسؤولية الأخلاقية والقانونية، حيث لم تتخذ الأمم المتحدة أو القوى الكبرى أية إجراءات جادة لوقف هذه الجرائم أو محاسبة مرتكبيها، ويرسل رسالة خطيرة مفادها أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية يمكن أن تمرّ دون عقاب، مما يشجع المزيد من الانتهاكات في المستقبل، فبينما تتم إدانة بعض الدول وفرض العقوبات عليها بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، يبدو أن تركيا، العضو في حلف الناتو، تتمتع بحصانة من المساءلة رغم جرائمها الواضحة.
في ضوء هذه المأساة المستمرة، هناك حاجة ملحّة لاتخاذ إجراءات فورية وحاسمة لحماية ما تبقّى من الوجود الإيزيدي في كردستان سوريا والعراق، حيث يجب على المجتمع الدولي أن يتحرك على عدة مستويات:
- وقف العدوان التركي: يجب على مجلس الأمن الدولي أن يتخذ قراراً ملزماً يطالب تركيا بالانسحاب الفوري من الأراضي السورية التي احتلتها، بما في ذلك سري كانيه وعفرين وتل أبيض.
- فرض عقوبات: ينبغي فرض عقوبات اقتصادية وسياسية على تركيا والأفراد المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في المناطق المحتلّة.
- محاكمة مرتكبي الجرائم: يجب إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة ضد الإيزيديين وغيرهم من المدنيين.
- حماية دولية: يجب توفير حماية دولية للإيزيديين والأقليات الأخرى في مناطق شمال سوريا والعراق، ربما من خلال نشر قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة.
- دعم إنساني: زيادة الدعم الإنساني للنازحين الإيزيديين، مع التركيز على توفير السكن اللائق والرعاية الصحية والتعليم.
- إعادة الإعمار: وضع خطة شاملة لإعادة إعمار المناطق المتضررة وضمان عودة آمنة وكريمة للنازحين إلى ديارهم.
- الاعتراف بالإبادة: يجب على المجتمع الدولي الاعتراف رسمياً بأن ما تعرض له الايزيديون في شنكال وعفرين وسري كانيه، يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، مما يفتح الباب لمزيد من الإجراءات القانونية والسياسية.
إن مأساة الإيزيديين في سري كانيه وغيرها من المناطق ليست مجرد قضية محليّة، بل هي اختبار لقدرة المجتمع الدولي على حماية التنوع الثقافي والديني في الشرق الأوسط وحول العالم، فالايزيديون بتاريخهم العريق وثقافتهم الفريدة، يمثلون جزءاً أساسياً من النسيج الاجتماعي والثقافي للمنطقة، والحفاظ على هذا التنوع ليس مجرد مسؤولية أخلاقية، بل هو ضرورة استراتيجية لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة، كون المجتمعات المتنوعة والمتسامحة أكثر قدرة على مقاومة التطرّف والعنف.
وعليه، يجب أن نعمل على بناء مستقبل لسوريا والعراق يضمن حقوق جميع المكونات الدينية والعرقية، وهو ما يتطلب:
- إصلاح دستوري: ضمان تمثيل عادل لجميع المكونات في الدساتير والقوانين الوطنية.
- تعليم التسامح: إدخال برامج تعليمية تعزز التسامح والتعايش في المدارس والجامعات.
- حماية التراث: توفير حماية خاصة للمواقع الدينية والثقافية للأقليات، بما فيها المزارات والمعابد الإيزيدية.
- التمكين الاقتصادي: دعم المشاريع الاقتصادية التي تعزز التعاون بين مختلف المكونات.
- العدالة الانتقالية: إنشاء آليات للعدالة الانتقالية تضمن محاسبة مرتكبي الجرائم وتعويض الضحايا.
إن مصير الإيزيديين في سري كانيه وغيرها من المناطق هو اختبار لضمير العالم، وكل يوم يمرّ دون اتخاذ إجراء حاسم هو يوم آخر نسمح فيه باستمرار جريمة إنسانية كبرى أمام أعيننا، ولذلك علينا أن نتذكر أن التاريخ سيحكم علينا ليس فقط بأفعالنا، ولكن أيضاً بصمتنا وتقاعسنا، وليس الدفاع عن حقوق الإيزيديين وحمايتهم من الإبادة والتهجير، مجرد مسؤولية سياسية أو قانونية، بل هو واجب أخلاقي على كل إنسان يؤمن بقيم العدالة والكرامة الإنسانية، وعليه، ينبغي أن نرفع أصواتنا ونعمل معاً – حكومات ومنظمات دولية ومجتمع مدني – لوضع حد لهذه المأساة المستمرة، ونضمن مستقبلاً آمناً وكريماً للإيزيديين ولجميع شعوب المنطقة.