القسم العاممختارات

السياسة التركية وأهداف العدوان على سري كانيه/راس العين Serê kaniyê

فارس عثمان- كاتب وباحث

مجلة الحوار – العدد /83/ – السنة 31 – 2024م

لا يمكن الحديث عن السياسة التركية في المنطقة دون وضع خطوط عريضة تحت القضية الكردية والتشديد على هذه الخطوط، التي تحدّد سياسة تركيا من قضايا المنطقة وخاصة في العراق وإيران وسوريا، وإلى حد ما مع بعض الدول الأوروبية بعد تبلور لوبي كردي مؤثّر في الأوساط السياسية والثقافية في بعض الدول.

وعند التوقف عند السياسة التركية في سوريا منذ عام 2011 وأهداف العدوان التركي على شمال شرق سوريا في 9-10-2019* لا بدّ من أخذ هذا التاريخ بعين الاعتبار، ففي بداية الحراك السوري – الانتفاضة السورية، الثورة السورية، الأزمة السورية – مهما كانت التسميات، اعتقدت السلطات التركية أن ما يجري في سوريا غير مختلف عما جرى في تونس ومصر وليبيا – الربيع العربي – حيث استطاعت الحركات الإسلامية القريبة من تركيا حرف المطالب الشعبية لصالحها والسيطرة على الموقف في هذه الدول، فقد سيطرت حركة النهضة على الحراك الشعبي السلمي في تونس، وتمكّنت حركة الإخوان المسلمين وبمساعدة من تركيا- أحياناً سريّة وغير مباشرة وأحياناً علانيّة- من السيطرة على الموقف في مصر وليبيا. ونظراً لعدم دقة القراءة التركية للواقع السياسي في سوريا وللتوازنات السياسية الإقليمية والدولية فيها، فقد مرّ الموقف التركي بمراحل مختلفة:

الأولى، وهي الفترة التي امتدت من بداية الحراك وحتى عام 2012 ونظراً لعمق العلاقات بين الحكومتين السورية والتركية والرئيسين رجب طيب أردوغان* وبشار الأسد التي وصلت إلى حد إلغاء تأشيرة الدخول ” الفيزا ” بين الدولتين، فقد حثّت الحكومة التركية الرئيس بشار الأسد على القيام ببعض الإصلاحات الداخلية، والموافقة على مشاركة حركة الإخوان المسلمين في الحكومة السورية، وتخلّلت ذلك زيارات من وزير الخارجية التركية آنذاك داود أوغلو ورئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان ولقاءاتهما المتكررة بالأسد، وانتهت بسحب السفير التركي وكافة العاملين من سفارتها في دمشق في 26-آذار 2012، والإبقاء على قنصليتها في حلب كرسالة بأن لأنقرة رغبة باستمرار علاقاتها الدبلوماسية حتى لو كانت مرتبطة بخيوط واهية. بذريعة إصرار النظام على الحل الأمني، وتضاؤل فرص الإصلاح السياسي في سوريا.

المرحلة الثانية، تبدأ من أواخر شهر آذار 2012 أي بعد سحب السفير التركي عمر أونهون من دمشق، وتبنّي المعارضة السورية – السياسية والعسكرية – بمختلف فصائلها واستضافتها على الأراضي التركية، والمشاركة في كافة اللقاءات والمؤتمرات الدولية حول سوريا، والإشراف على مجموعة من اللقاءات ومؤتمرات المعارضة السورية على أراضيها وفي أفخم الفنادق التركية بأموال قطرية وخليجية، والتدخّل في أدقّ تفاصيلها. وقد استمرت هذه المرحلة حتى انتهاء أعمال مؤتمر جنيف 2 الذي عقد في الفترة من 22كانون الأول 2014 ووصل إلى طريق مسدود في نهاية الشهر بسبب الخلافات بين الطرفين. عندما أصرّ وفد النظام السوري برئاسة بشار الجعفري على وضع قضية “الإرهاب” على رأس بنود جدول أعمال المفاوضات، بينما تمسّكَ وفد المعارضة بإعطاء الأولوية للبند الخاص بتشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات بموجب بيان مؤتمر جنيف الأول* في 30 حزيران 2012. ولم تتمكّن موسكو وواشنطن – راعيتا المفاوضات – من إحداث أيّ تقدمٍ بعد إعلان الإبراهيمي أنهما وعدتا بالمساعدة في حلحلة الأمور بين الوفدين اللذين جلسا مرتين فقط في غرفة واحدة منذ بدء الجولة.

المرحلة الثالثة، تبدأ من الإعلان عن الإدارة الذاتية في ثلاث كانتونات الأولى في 21-1-2014 في الجزيرة، والثانية في 27/ 1/ 2014 في كوباني، والثالثة في 29 من الشهر ذاته في عفرين. حيث تغيّر موقف الحكومة التركية من الازمة السورية بشكل كبير، وقد اتّخذت تركيا موقفا صارماً ضد الإدارة الذاتية واعتبرت حزب الاتحاد الديمقراطي PYD امتداداً لحزب العمال الكردستاني، وأنّ حزب العمال الكردستاني يدير المنطقة، وأعلن أردوغان في أكثر من مناسبة أن تجربة إقليم كردستان العراق كانت خطأ وسوف لن يسمحون بتكرار هذه التجربة في شرق الفرات، وإن (( تركيا لن تسمح أبداً بمنطقة آمنة في سوريا تتحول إلى ” مستنقع ” مثلما حدث في شمال العراق, في إشارة إلى الإدارة الكردية في إقليم كردستان العراق.))[1]. لذلك لجأت تركيا إلى التدخل العسكري المباشر في سوريا، وبدأت بوضع الخطط العسكرية لذلك، وفي هذه الفترة طغت على السطح فضيحة التسجيل الصوتي لرئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان بإمكانية خلق ذريعة للتدخل العسكري في سوريا، من خلال تسريب مضمون الاجتماع الرباعي الذي عقد في وزارة الخارجية التركية الذي ضم أحمد داود أوغلو، ووكيل وزارته فريدون سينيرلي أوغلو، ورئيس جهاز المخابرات هاكان فيدان، ونائب رئيس هيئة الأركان الجنرال يشار غول بتاريخ 13 آذار 2013 وناقش المشاركون سبل “خلق” ذريعة تتيح لتركيا التدخل عسكريا في سوريا. وقال فيدان في التسجيل الصوتي الذي سرب: (( إذا لزم الأمر، سأبعث بأربعة رجال إلى سوريا، ثم أطلب منهم إطلاق قذائف هاون على الجانب التركي من الحدود، ونخلق بالتالي ذريعة للحرب )([2].

وقد أكّد بعض المسؤولين الأتراك مبدئياً وجود التسجيل، لكنهم قالوا إنه جرى التلاعب في جزء منه، حتى أن رئيس الوزراء أردوغان قال خلال كلمة ألقاها أمام حشد في مدينة ديار بكر، إن التنصّت على مكتب وزير خارجيته كان (( غير أخلاقي وجبان.)).

وبدورها، أصدرت وزارة الخارجية التركية بياناً بشأن التسجيل الصوتي، أكدت فيه نبأ عقد الاجتماع، لكنها قالت إنه جرى التلاعب بمحتواه، وزعمت أن المسؤولين كانوا يناقشون مسألة حماية قبر سليمان شاه، جدّ مؤسسة الدولة العثمانية، عثمان الأول، لكن وثائق المحكمة، لم تشر إلى وجود تلاعب في التسجيل الصوتي.

وبالفعل، تطرّق المسؤولون إلى مسألة حماية القبر، لكن باعتباره مسألة تتيح التدخل العسكري التركي، وقال داود أوغلو في الاجتماع (( أن رئيس الوزراء أردوغان قال يجب اعتبار ” قبر سليمان شاه ” فرصة في هذه المرحلة ( للتدخل ) ، خاصة مع اندلاع الاشتباكات بين (الجيش السوري الحر) المعارض وعناصر من تنظيم داعش قرب المكان. ))[3].

وفي 24 أب 2016 *بدأت أول عملية عسكرية مباشرة في سوريا أطلقت عليها اسم ” درع الفرات ” بمشاركة بعض الفصائل العسكرية المسلحة السورية من الفصائل الجهادية والإسلامية المتطرفة تحت مسمى الجيش الحر كـ “فيلق الشام” و”لواء السلطان مراد” و”الفرقة 13″…، وأعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في اليوم الأول من العملية إن الهدف منها هو داعش و(( الجماعات الكردية السورية الإرهابية التي تهدّد بلدنا في شمال سوريا وأن الجيش التركي سيدخل إلى مدينة منبج.)). وقد احتلّ الجيش التركي جرابلس وإعزاز والباب، وفي أواخر شباط 2017 أعلنت تركيا عن انتهاء عملية درع الفرات بعد أن تمكنت من فصل عفرين عن بقية مناطق الإدارة الذاتية. ولم يتوقف الطموح التركي عند جرابلس وإعزاز الباب فقد أعلنت السلطات التركية أكثر من مرة أن عفرين تركيّة وأن غالبية سكانها من العرب، رغم أن العرب القاطنين في المنطقة والوافدين والمهاجرين إليها منذ الأزمة السورية لم يشكلوا أكثر من 5 % من سكانها فـ 95 % من سكانها من الكرد؛ إلّا أن آلة الإعلام التركية وعلى رأسها الرئيس رجب طيب أردوغان أصروا على تضليل الرأي العالمي والإدعاء بأن الكرد لا يشكّلون أكثر من 35%  من سكان عفرين تمهيداً لاحتلالها وضمّها إلى تركيا.

المرحلة الرابعة، بدأت مع حادثة إسقاط الطائرة المقاتلة الروسيّة، عندما أطلقت قوات الدفاع الجوية التركية في 24 كانون الثاني 2015 النار على طائرة مقاتلة روسيّة من طراز سوخوي سو-24 مما أدى إلى سقوطها قرب الحدود السورية التركية فوق جبل التركمان بمحافظة اللاذقية السورية، وبدأت معها التهديدات الروسية ضد تركيا، وبعيد اسقاط الطائرة الروسية بدأت الاستدارة التركية نحو إيران أولاً وتنسيق المواقف معها على الأرض السورية، ومن ثم مع روسيا في مؤتمر استانا الأول في 23 كانون الثاني 2017م الذي توصّلت روسيا وتركيا وإيران فيه إلى الإعلان عن وقف إطلاق النار في سوريا، واتفاق الدول الثلاث على إنشاء آليّة ثلاثية لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار. وموافقة تركيا على بقاء الأسد في السلطة، وقد عقدت الدول الثلاث بمشاركة وفدي النظام والمعارضة وبعض الدول كمراقبين( العراق، الأردن، لبنان…)، ثمان جولات من هذه اللقاءات في محاولة من روسيا على أن تكون مفاوضات أستانا بديلاً عن جنيف، وفي استانا 8 في 22 كانون الأول 2017 جرى الإعلان عن موعد انعقاد مؤتمر “الحوار الوطني السوري” في سوتشي  يومي 29 و30 كانون الثاني 2018م الذي عقد بمشاركة 1511 شخصاً من أصل 1600 وجهت الدعوة رسميا إليهم. وقد سعت تركيا خلال جولات أستانا التي وصلت إلى 13 جولة عقد صفقات ثنائية مع كل من روسيا وإيران أو ثلاثية بين الأطراف الثلاثة للحصول على الضوء الأخضر لاجتياح المناطق الكردية في سوريا، وتمكّن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من الحصول على موافقة الرئيس الروسي بوتين على اجتياح عفرين في اجتماع عقد بينهما في مدينة سوتشي بتاريخ 13-11-2019.

هكذا كانت مؤتمرات ولقاءات استانا نقاط تحوّل في السياسة والمواقف التركية و يذريعة تمثيل المعارضة السورية وافقت على تسليم مناطق المعارضة السورية المسلحة في محيط دمشق وحمص وحلب لقوات النظام الذي رحّل مسلحي المعارضة بباصات خضراء إلى إدلب.

المرحلة الخامسة، تختلف عن بقية المراحل السابقة التي كانت أغلبها سياسيّة حيث تحولت التهديدات التركية إلى عدوان مسلح، من خلال عمليات عسكرية على الأراضي السورية، بدأت أولاً بعملية « درع الفرات » في آب 2016 ( بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة بقليل )، وثانياً، بعملية « غصن الزيتون » في كانون الثاني 2018 التي أدّت لاحتلال منطقة عفرين، وقد أدّى تواجد تركيا على الأرض السورية في أكثر من منطقة مكاناً على الطاولة مع كل من روسيا وإيران ضمن مسار أستانا ( نور سلطان لاحقاً ) الذي شُكِّل من خلاله الإطار الثلاثي الضامن لوقف إطلاق النار.

اليوم، يمكن القول بأن الرؤية التركية للحل في سوريا تقوم على مايلي:

أولاً وأساساً : حرمان الكرد في سوريا من أية حقوق من الحقوق السياسية ( إدارة ذاتية، حكم ذاتي، فيدرالية..)، خوفاً من انعكاس ذلك الشعب الكردي في تركيا، إنشاء منطقة آمنة بعمق30كم على طول الحدود التركية السورية، وطرد الكرد السكان الأصليين للمنطقة منها، ونقل أكثر من ثلاثة ملايين من اللاجئين إلى هذه المناطق بهدف التغيير الديموغرافي للمنطقة، استكمالاً لمشروع إصلاح المنطقة الشرقية في تركيا على الجانب التركي، والحزام العربي على الجانب السوري.

وأهم الأهداف غير المعلنة:

1- تخفيف الضغوط الداخلية على الحكومة التركية في موضوع اللاجئين السوريين المقيمين على أراضيها.

2- تهيئة بيئة ديموغرافية صديقة لتركيا في الشمال السوري؛ إذ إن غالبية السكان سيكونون من المقيمين سابقًا على أراضيها.

3- إنشاء حاجز ديموغرافي وجغرافي بين تركيا والمنظمات الكردية.

4- حرمان الكرد من أي استحقاق سوري مستقبلي، من خلال تشريدهم وتأليب (المعارضة) ضدهم.

5- زيادة تأثير تركيا ونفوذها في الصراع داخل سورية، ودورها في الحل السياسي.

6- توسيع المنطقة الجغرافية التي تديرها المعارضة السورية المحسوبة على تركيا، لتشمل مناطق أخرى من الشمال السوري الغني بالموارد الطبيعية ومصادر الطاقة.

7- زيادة شعبية الرئيس أردوغان والحكومة الائتلاف القومي الإسلامي، التي تراجعت في ظل الأزمة الاقتصادية، والإعلان عن قيام أحزاب سياسية جديدة منشقة عن حزب العدالة والتنمية، تنافس الحزب وأردوغان.

* – وهو تاريخ اليوم الذي غادر فيه السيد عبد الله أوجلان سوريا عام 1998 تحت الضغط التركي متوجها إلى اليونان ومن ثم إلى ايطاليا.

* – كان حينها رئيساً لمجلس الوزراء.

* – اعتمد جنيف 1 على نقاط “كوفي أنان” الست لحل الأزمة السورية وهي:

أولاً: الالتزام بالعمل مع كوفي أنان من أجل عملية سياسية شاملة يقودها السوريون.

ثانياً: الالتزام بوقف جميع أعمال العنف المسلح، بما في ذلك وقف استخدام الأسلحة الثقيلة وسحب القوات ووقف تحركات قوات  الجيش باتجاه المناطق المأهولة بالسكان.

ثالثاً: تطبيق هدنة يومية لمدة ساعتين للسماح بإدخال المساعدات إلى جميع المناطق المتضررة من القتال.

رابعاً: الإفراج عن جميع من جرى اعتقالهم تعسفياً، بمن فيهم المعتقلون لقيامهم بنشاطات سياسية سلمية.

خامساً: الاتفاق على ضمان حرية الحركة للصحافيين في جميع أنحاء البلاد وتبني سياسة لا تقوم على التمييز بشأن منحهم تأشيرات  لدخول البلاد.

سادسا : الاتفاق على حرية تكوين المؤسسات وحق التظاهر السلمي على أنها حقوق مضمونة قانونياً.

—————

الهوامش:

[1] – أخبار اليوم المصرية، بتاريخ 21 كانون الأول 2019.

[2] – الوطن البحرينية بتاريخ 24 كانون الأول 2019.

[3] – موقع https://24.ae/article/486293/، بتاريخ 24 كانون الاول 2019.

* – وهو تاريخ اليوم الذي بدأت فيه معركة مرج دابق 1514.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى