ماجستير في العلوم المالية والمصرفية- جامعة دمشق. خبير مالي لدى عدة منظمات دولية وصاحب مشروع Jiwan Gurme
مجلة الحوار- العدد /82/- السنة 30 – 2023م
بدأ التمويل متناهي الصغر من خلال عمليات التسليف الودّي بين الأصدقاء والأهل ثم ظهرت الجمعيات والمرابون وبعد ذلك المنح والهبات من الدول المتقدمة، وأخيراً ظهرت مؤسسات التمويل متناهي الصغر، وذلك بفكرة من الاقتصادي البنغالي محمد يونس وظهور بنك غرامين (وهي كلمة بنغالية تعني القرية) ويذكر الدكتور محمد يونس القصة التي أدت لظهور بنك غرامين قائلاً[1]: «في عام 1974 م أي بعد ثلاثة أعوام من حصول بنغلادش على الاستقلال كنت مدرساً في إحدى الجامعات المحلية وقد أصيبت البلاد بمجاعة قاسية راح ضحيتها ما يقارب مليون ونصف مليون شخص، وبينما كنت أدرس النظريات الاقتصادية في الجامعة كان الناس يموتون جوعاً في الخارج، لذا قررت التنقل بين الأرياف والاستماع للناس الذين كانوا يعيشون صراعاً من أجل البقاء، وهناك التقيت امرأة تقوم بتصنيع الكراسي من نبات البامبو وكانت تحصل في نهاية اليوم على ما يكاد يكفي ثمن وجبتين، ومن خلال الحديث معها عرفت أنها تقترض المال من تاجر جشع يستغل حاجتها للاقتراض ويأخذ منها فوائد عالية جداً مقارنة بحجم المبلغ المقترض، وغالباً هي مبالغ صغيرة جداً لا تتجاوز 50 دولار أمريكي، ثم أكملت الاستطلاع وتحدثت إلى اثنين وأربعين شخصاً في القرية وتبين لي أن كلهم ضحايا الاقتراض من التجار المرابين، فقمت بإقراضهم من مالي الخاص، وفكرت في أن تقوم المؤسسات المالية بإقراض هؤلاء الناس، وبالتالي تخليصهم من الاستغلال والفقر، لكن المؤسسات المالية لا تقرض الفقراء وخاصةً النساء الريفيات. «بعد ذلك قام الدكتور محمد يونس وطلابه بمسح الريف البنغالي وتوصل إلى نتيجة فحواها إنه مهما اجتهد هؤلاء الريفيين لا يمكنهم ادخار الأموال لأنهم بحاجة ماسة لرؤوس الأموال التي تكلفهم فوائد مرتفعة، وحاول يونس جاهداً إقناع الحكومة والبنك المركزي والمؤسسات المالية بضرورة توفير القروض الميسّرة لهؤلاء الفقراء لكن محاولاته قُبلت بالسخرية والاستهزاء لأن الفقراء ليسوا أهلاً للإقراض، فما كان له إلا أن اقترض قرضاً خاصاً وقام بتمويل مشاريع القرويين من قرضه الخاص وأثبت للجميع أن الفقراء جديرون بالإقراض، وفي عام 1983 م تحول مشروع التمويل ذاك إلى بنك مستقل عُرف باسم بنك غرامين في بنغلادش واستحق الدكتور يونس جائزة نوبل للسلام 2006 م[2].
يعتبر التمويل متناهي الصغر أداة فعّالة لتخفيف حدة الفقر في المجتمعات، صفتها الرئيسية أنها تجمع بين الأعمال المالية والأهداف الاجتماعية. ووفقاً للأمم المتحدة فيمكن تعريف الفقر بالتالي: «الفقر أكثر من مجرد الافتقار إلى الدخل أو الموارد أو ضمان مصدر رزق مستدام، حيث إن مظاهره تشمل الجوع وسوء التغذية وانحسار إمكانية الحصول على التعليم والخدمات الأساسية، إضافة الى التمييز الاجتماعي والاستبعاد من المجتمع وانعدام فرص المشاركة في اتخاذ القرارات[3].
إن الفكرة التقليدية لقطاع التمويل متناهي الصغر كانت، ولأسباب تاريخية تحديداً، أقرب إلى المساعدة منها إلى النشاط التجاري فكثير من مؤسسات التمويل متناهي الصغر كانت منظمات غير ربحية منفصلة عن النظام المالي. ويشير مصطلح التمويل متناهي الصغر إلى توفير الخدمات المالية من الائتمان أي منح القروض الصغيرة والادخار أي قبول الودائع الصغيرة والتأمين على المشاريع الصغيرة للفقراء وتوفير نظم حوالات مالية دون فوائد للفقراء النشيطين اقتصادياً، لأنهم غير قادرين على الحصول على الخدمات المالية من قبل المؤسسات المالية التقليدية، إما بسبب عدم استيفائهم لشروط الحصول عليها أو بسبب بعد مؤسسات التمويل التقليدية جغرافياً عن المناطق الريفية النائية التي غالبية قاطنيها من الفقراء ومحدودي الدخل.
وبحسب منظمة العمل الدولية يعرف التمويل متناهي الصغر[4]: “التمويل متناهي الصغر هو توفير الخدمات المالية للفقراء على أساس مستدام. وتشمل الخدمات المالية التي يحتاجها الفقراء محدودي الدخل، القروض والادخار والتأمين متنهي الصغر والحوالات وغيرها من الخدمات المالية، إضافة إلى خدمات غير مالية كالتدريب وتقديم الاستشارات الفنية والمهنية.” وعليه فإن مؤسسة التمويل متناهي الصغر هي مؤسسة مالية قد تكون منظمة غير ربحية، أو مؤسسة مالية أو بنك تجاري تقدم سلع وخدمات مالية متناهية الصغر لعملاء وأصحاب مشاريع صغيرة من ذوي الفقراء. فالمشاريع متناهية الصغر هي مشاريع أعمال صغيرة الحجم وعادة ما توظف هذه المشاريع أقل من خمسة أفراد، وغالباً ما تكون هذه المشاريع مصدر الدخل الوحيد لأصحابها ومن الأمثلة على هذه المشاريع متناهية الصغر، مشاريع زراعية بشقيها النباتي والحيواني، أكشاك البيع الجزئي، مشاغل الخياطة، مشاغل الخشب وغيرها الكثير من الحرف والأعمال.
قامت المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء (CGAP)[5] بتطوير المبادئ الأساسية للتمويل متناهي الصغر وهي:
يحتاج الفقراء إلى مجموعة متنوعة من الخدمات المالية وليس القروض فقط، بل يحتاجون إلى عدد من الخدمات المالية المرنة وذات التكلفة المعقولة. فإنهم يحتاجون إلى خدمات التأمين وتحويل الأموال وليس فقط إلى القروض.
يعتبر التمويل متناهي الصغر أداة قوية لمكافحة الفقر وتحقيق التنمية الاقتصادية. فعندما يصل الفقراء إلى الخدمات المالية فأنه يصبح بمقدورهم تغيير أحوالهم، وحماية مستقبلهم من خلال التوفير والادخار والاستثمار في مراحل لاحقة.
التمويل متناهي الصغر يعني بناء أنظمة تخدم الفقراء. يشكل الفقراء في معظم الدول النامية أغلبية السكان غير أنهم غير قادرين على الحصول على خدمات البنوك بسبب حجم الضمانات الكبيرة المطلوبة.
يجب أن يغطي التمويل متناهي الصغر تكلفته كي يتمكن من الاستمرارية والوصول إلى أعداد كبيرة من الفقراء. فالمؤسسات القوية تحتاج إلى فرض نسب فوائد عالية نسبياً لتغطية تكاليفها، أن تغطية التكلفة ليست هدفاً بحد ذاته، إلا أنها الطريقة الوحيدة من اجل الوصول إلى الحجم والأثر المطلوبين.
يهتم التمويل متناهي الصغر ببناء مؤسسات مالية محلية صغيرة تتمتع بالمرونة والقرب من الفئات المستهدفة، حيث تهدف لجمع المدخرات الصغيرة ومنح قروض التمويل المتناهي الصغر.
أن تحديد سقف لأسعار الفائدة يضر بالفقراء ويجعل من الصعب عليهم الحصول على القروض، لأن تكلفة منح عدد كبير من القروض الصغيرة أعلى من تكلفة منح عدد قليل من القروض كبيرة الحجم. لا تستطيع مؤسسات التمويل متناهي الصغر من تغطية تكاليفهم إلا إذا كان بمقدورهم فرض فوائد أعلى من المعدل الذي تفرضه البنوك التقليدية وعليه فإنه يجب تجنب مثل هذا التحديد. وفي الوقت ذاته، يجب ألا تكون الفوائد مرتفعة للغاية مما يؤدي إلى تعثر المقترضين وعدم تحقيق أهداف هذا النوع من التمويل.
على السلطات المحلية أن تقوم بوضع الأنظمة والقوانين والسياسات الملائمة حسب طبيعة كل مجتمع، وأن تسهل استحداث وتفرع مؤسسات التمويل المتناهي الصغر وأن تحمي ودائع ومدخرات الفقراء وتحارب الفساد.
غالباً ما يجذب التمويل المتناهي الصغر الكثير من المنح والتبرعات من مختلف المنظمات غير الربحية مما يساهم في ترسيخ العمل واستدامته، بالإضافة إلى فرض نوع من الرقابة والتدقيق على القطاع مما يساهم في تطوره فنياً ومهنياَ.
توفر مؤسسات التمويل المتناهي الصغر المعلومات الدقيقة والخاصة بالأداء والتي تعتبر في غاية الأهمية، وتتضمن المعلومات المالية (مثل نسبة الفوائد، تسديد الفروض، واسترداد التكاليف)، بالإضافة للمعلومات الاجتماعية (مثل عدد العملاء الذين تم الوصول إليهم ومستوى فقرهم).
كأي قطاع أعمال آخر يواجه التمويل متناهي الصغر العديد من التحديات لعّل أبرزها نقص الكفاءات وصعوبة الوصول إلى كل المناطق الريفية المترامية، وعدم وجود معايير دولية شاملة وموحدة تنظم أعمال هذا النوع من التمويل.
التمويل متناهي الصغر في سورية:
اهتم روّاد الأعمال المصرفية في الشرق الأوسط بالتمويل المتناهي الصغر بسبب انتشار الفقر والبطالة في غالبية بلدان المنطقة وبالطبع منها سورية، فعدم قدرة الحكومات على استجرار وظائف جديدة والارتفاع المستمر في نسب البطالة أدى إلى ارتفاع نسبة الأفراد الذين يعيشون تحت خط الفقر ومحدودي الدخل، وعمل الكثيرون على الاستفادة من التجربة الرائدة للاقتصادي البنغالي الدكتور محمد يونس من خلال العمل الرائع في بنك غرامين في بنغلاديش، وبالفعل برزت العديد من التجارب الجيدة في سورية قبل اندلاع الأزمة عام 2011م (تجربة الهيئة العامة لمكافحة البطالة- تجربة مؤسسة الآغا خان)، أما بعد اندلاع الأزمة السورية فتراجع حجم فرص العمل وزادت البطالة، وزادت معها معدلات الفقر بسبب العقوبات الاقتصادية وحالة عدم الاستقرار، وعدم قدرة استيعاب القطاع العام المزيد من البطالة المقنعة، وهنا يكون التمويل متناهي الصغر حلاً مثالياً لغالبية المجتمع السوري بما في فيهم الموظفون الحكوميون كون غالبية المشاريع المتناهية الصغر تشّغل أفراد الأسرة الواحدة، لكن غياب الإرادة الحقيقية في تغيير الحياة الاجتماعية والاقتصادية جعل من هذا القطاع الحيوي مجرد هيكل خارجي غير فعّال، ويمكن ايجاز واقع التمويل متناهي الصغر في سورية من خلال النقاط التالية:
غالبية المناطق السورية تعاني الفقر وأما مناطق سيطرة الحكومة السورية فيستمر فيها عمل مؤسسات التمويل متناهي الصغر وإن كان على خجل ولا يرتقي ليخفف من معاناة الناس وحدة الفقر، وأما المناطق التي خرجت عن سيطرة الحكومة السورية وهي المناطق الأكثر حاجة للتنمية الاقتصادية لكن للأسف لم يلاحظ أي جهود من السلطات في تلك المناطق للاستفادة من إمكانيات قطاع التمويل متناهي الصغر لا سيما في الأرياف.
تعددت التشريعات الناظمة لقطاع التمويل متناهي الصغر في سورية مما أدى إلى تعددية في المؤسسات العاملة ضمن هذا القطاع، مما أدى إلى تشتت الجهود الرامية لتطوير القطاع ليساهم في تحيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وإن كان القانون رقم /8/ لعام 2021 م الخاص بإحداث مصارف التمويل الأصغر في سورية[6] قد تدارك غالبية نقاط الضعف التي كانت في القوانين والأنظمة السابقة لا سيما في مجال منح ميزات وإعفاءات ضريبية واسعة [7].
قلة عدد مؤسسات التمويل متناهي الصغر (مصرف الوطنية للتمويل الأصغر- مصرف الأول للتمويل الأصغر- مصرف الإبداع للتمويل الأصغر- مصرف بيمو السعودي الفرنسي للتمويل الأصغر) وعدم وجود أفرع لهذه المصارف إلا في المحافظات التي تسيطر عليها الحكومة السورية، رغم وجود طلب كبير على هذا النوع من التمويل لا سيما بعد مرور 12 سنة على اندلاع الأزمة السورية وازدياد حدة الفقر وارتفاع معدلات التضخم بشكل كارثي في كل المناطق السورية.
غياب التأمين متناهي الصغر وبالتالي غياب دوره التكاملي مع التمويل متناهي الصغر في حفظ مدخرات الفقراء، لا سيما منتجات التأمين الزراعي متناهية الصغر بشقيه النباتي والحيواني، وذلك بسبب غياب الإرادة عند الحكومة وكذلك غياب الوعي التأمين ودوره العظيم في الحفاظ على مدخرات الأشخاص والكيانات وبالتالي الحفاظ على الاقتصاد الوطني.
يشير الواقع العملي وجود إجراءات إدارية طويلة ومعقدة للترخيص لهذا النوع من المصارف[8].
المقترحات والتوصيات:
ضرورة وجود خطة للتوسع بأنشطة التمويل متناهي الصغر وخاصة في الأرياف، ودراسة احتياجات الفئة المستهدفة لتقديم خدمات استراتيجية من شأنها تغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي في البلد.
مشاركة المصارف العامة في أنشطة التمويل متناهية الصغر كونها الأوسع انتشاراً، مع ضرورة وجود رقابة مركزية من البنك المركزي.
توجيه التمويل متناهي الصغر نحو القطاعات التي تشكل أولوية في الاقتصاد الوطني (زراعة- تربية المواشي- صناعات زراعية- صناعات تحويلية…) ومنح هذه القطاعات ميزات تنافسية.
تحديث الأنظمة والقوانين بشكل مستمر، وفرض الرقابة لضمان صرف التمويل في المكان السليم، ومحاربة الفساد.
منح الأولوية للسيدات في الحصول على التمويل لتمكينهن على الاستقرار والاستقلال المالي من خلال ميزات وإعفاءات، ويمكن الاستفادة من برامج المنظمات الدولية في هذا المجال.
تخفيف الإجراءات والتعقيدات الإدارية التي تخص منح التراخيص وتنظيم عمل مؤسسات التمويل متناهي الصغر، وتقديم المزيد من التسهيلات لتشجيع المستثمرين لدخول هذا القطاع، مما يساهم في تخفيف حدة الفقر وإدخال هذه الشريحة من المجتمع ضمن النظام المالي وبالتالي زيادة العمق المالي في البلد وزيادة التماسك الاجتماعي.
على السلطات المحلية في شمال وشمال شرق سورية التخطيط لإحداث هذا القطاع الحيوي في مناطقهم وإعداد الكفاءات التي يمكنها تخطيط وإدارة هذا القطاع الذي من شأنه تخفيف معاناة السوريين وتخيف حدة الفقر في هذه المناطق.
للتمويل متناهي الصغر رسالة اجتماعية بالغة الأهمية يحتاجها المجتمع السوري بشدة في الوقت الحالي، لذا على كافة الأطراف منح هذا القطاع الأولوية.
××××
الحواشي:
[1]. سعيد، د. مجدي، جربة بنك الفقراء، الدار العربية للعلوم ناشرون, 2017
[2]. Pine, David.2010.”The microfinance sector in Bangladesh: innovation or stagnation”, CMF thesis, university of Zurich, Bangladesh.
[3]. www.un.org
[4]. ILO policy statement: microfinance for decent work, Governing Body, 294th Session, Geneva, 2005.
[5]. المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء، دليل التنظيم والإشراف للتمويل متناهي الصغر، الولايات المتحدة الأمريكية، واشنطن، تشرين الأول, 2012.
www.cgap.org
[6]. www.cb.gov.sy
[7]. عبد الله، حبيب & الحلاق، محمد، دراسة تحليلية للقانون رقم /8/ لعام 2021 الناظم لإحداث مصارف التمويل الأصغر، مجلة جامعة دمشق للعلوم القانونية، دمشق, 2023.
[8]. أيهم، أسد، دور سياسات التمويل في التمكين الاقتصادي للمرأة السورية، مركز دمشق للأبحاث والدراسات (مداد)، دمشق, 2019.
××××
قائمة المراجع:
1- سعيد، د. مجدي، تجربة بنك الفقراء، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2017
-2Pine، David.2010.”The microfinance sector in Bangladesh: innovation or stagnation”، CMF thesis، university of Zurich، Bangladesh.
3- www.un.org
4- 5ILO policy statement: microfinance for decent work، Governing Body، 294th Session، Geneva، 200
5- المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء، دليل التنظيم والإشراف للتمويل متناهي الصغر، الولايات المتحدة الأمريكية، واشنطن، تشرين الأول، 2012.
www.cgap.org
6- www.cb.gov.sy
7- عبد الله، حبيب & الحلاق، محمد، دراسة تحليلية للقانون رقم /8/ لعام 2021 الناظم لإحداث مصارف التمويل الأصغر، مجلة جامعة دمشق للعلوم القانونية، دمشق، 2023.
8- أيهم، أسد، دور سياسات التمويل في التمكين الاقتصادي للمرأة السورية، مركز دمشق للأبحاث والدراسات (مداد)، دمشق، 2019.