من رواية “الشهيدان عُمَر قدُّور”
مجلة الحوار – العدد /81/ – السنة 30- تموز 2023م
أتودّدُ لآفين بطريقة فجّة نوعاً ما، فتبادرني بالسؤال: هل أنت شيوعي؟
كنت قد أعددت نفسي لمختلف الإجابات، بما فيها التمنع والدلال، أو الرفض. أن تسألني عما إذا كنت شيوعياً إجابة لم تكن لتخطر في بالي على الإطلاق. أقول لها: لا، لست شيوعياً.
كيف سأحبكَ إذن؟ نحن عائلة شيوعية وأنت لست شيوعياً.
فيما بعد ستضحك طويلاً كلما تذكرتْ سؤالها ذاك، فهي قد اخترعته حينها تلقائياً لتأخذ وقتاً قبل الإجابة بالموافقة أو الرفض. عائلتها معروفة في الضيعة بوصفها العائلة الشيوعية الوحيدة، أبوها كان قد اعتنق الشيوعية إثر زواجه بمدة قصيرة، ولا أحد يعرف كيف ولماذا. مع أن القصة بسيطة جداً؛ ذهب الأب ليهنّئ ابن خالته، الذي لم يره منذ المراهقة، بعودته من بعثة دراسية إلى الاتحاد السوفيتي. هناك في قرية “آشكان شرقي”، بعد ذهاب المهنئين الغرباء، سينصت باهتمام إلى أحاديث ابن خالته عن موسكو والبروليتاريا والفودكا، لن يتردد في سؤاله: كيف أصير شيوعياً؟ ولن يتردد ابن الخالة في الاستجابة إلى طلبه، وفي إعطائه بعضاً من الكراسات الحزبية التي قرأها في بداية انتسابه إلى الحزب، ليعود في اليوم التالي إلى قريته “تل سلّور” شيوعياً.
في أول سهرة له يحضرها بين العديد من رجال الضيعة سيتحدث إليهم عن البروليتاريا، وعن أنها شيء مختلف عن كلمة الكادحين التي يستخدمها حزب البعث العربي الحاكم. يسترجع أمامهم ما سمعه من ابن خالته عن سلطة البروليتاريا في روسيا، وكأنه هو الذي زار ذلك البلد، ولا يرى ضيراً في سرد حكايات وردية من نسج خياله عن موسكو ولينينغراد، ومبالغات أخرى أضخم عن ستالينغراد وعن ستالين نفسه الذي سيراه بمرور الوقت بمثابة ربّ للشيوعية الحقة. ستفشل محاولاته في استقطاب أي رجل أو شاب صغير لضمه إلى الحزب، وتعبيراً عن خيبته سيكرر جملة أثيرة لديه، يكررها حتى إذا كانت المناسبة طبخة لم يعجبه مذاقها من يدي آفين أو أمها: لا أمل بنا.. لا أمل، نحن بروليتاريا رثة. هكذا، لن ينجو من تهمة البروليتاريا الرثة سوى ابنه الأكبر الذي سيرث انتماءه الحزبي عندما يصبح طالباً في الثانوية، ثم لتظن آفين نفسها شيوعية بين الجد والمزاح.
ربما أيضاً كان سؤالها مخرجاً لائقاً بدل القول: أنا كردية وأنت لست كذلك، أنت عربي.
لو قالتها لتحقق أسوأ مخاوفي، ولكانت وفية لذكرى أخيها الأوسط الذي كان بالتأكيد سيمانع خطوبة أخته من عربي. هذا بالطبع لا يجعلني فرحاً بمقتله قبل سبع سنوات من خطوبتنا، لما تركه ذلك من أثر عليها. أحياناً، عندما كانت تأتيها نوبة شجن مغايرة لشخصيتها، كانت عيناها تمتلئان بالدمع وهي تحكي لي عنه، جان كان الأخ الأقرب إلى قلبها من بين أخويها، ورغم فارق السنتين فقط بينهما فقد كان يدللها بإفراط كأنه أكبر منها بعشر سنوات على الأقل.
يتغيّر جان، وهي أول من يلاحظ ذلك، لكنه ينكر تغيّره بشدة إذ تسأله عن السبب. كمراهقة تقول لنفسها: لا بد أن يكون مغرماً بفتاة ما، وبعناد مراهقة لا بد لها أن تعرف القصة برمتها: جان.. قل لي، من هي؟ يضحك جان، تظنه يضحك مرتبكاً لأنه أمسكت بسره الدفين. على أي حال، تحت عنادها سينطق باسمها: كردستان.
أتصدّقُ أنني كنت حينها غبية، فاعتقدت أنه يحب فتاة اسمها كردستان! أكثر من ذلك، كنت بلهاء فلا أفهم أقواله التي تبدو لي بسيطة على حقيقتها، وهو يراني غير واعية لما يقول فيستسهل المراوغة. أسأله: كيف حال كردستان؟ وأطلب منه أن يصف لي شكلها، فينقل لي تحياتها، ويصف لي فتاة كاملة الجمال. في مرة أخرى أسأله السؤال ذاته فيجيبني: كردستان جريحة. أنفعل من الإثارة وهو يشرح لي كيف أن جندياً تركياً من حرس الحدود أطلق النار فأصابها، أتمنى أن تكون إصابتها خفيفة، فيؤكد لي أن كردستان قوية جداً، وأنها ستتعافى وستثأر من الجندي وستقتله هو وزملاءه. حتى عندما سيختفي جان نهائياً، وسينتشر خبر ذهابه إلى جبال قنديل للتدرب في صفوف حزب العمال، أول ما سيتبادر إلى ذهني أنه ذهب لينتقم لحبيبته كردستان من ذلك الجندي التركي.
لن يعود جان إطلاقاً، سيقرع بابنا رجل غريب، يقدّم نفسه باسم سردار، كأن في حلقه شريط مسجّل يتحدث للتغطية على ارتباكه بالخبر السيء الذي يحمله. يشيد بمناقب فرهاد، وببطولاته في قتال الأتراك، يحكي عن مآثره القتالية ذاكراً أسماء مناطق لا أعرفها مثل ليجه وكارز، يقول إنه في إحدى العمليات اشتبك مع الجندرما التركية في قلب مدينة آمد “ديار بكر”.
المؤسف أن فرهاد استشهد بعد كل ذلك، أثناء مواجهة مع الجندرما بالقرب من هرزو، ولم يتمكن رفاقنا من انتشال جثته والانسحاب بها. يُخرج الرجل الذي يسمّي نفسه سردار رزمة أوراق من حقيبة جلدية صغيرة، يشدد على أن قيادة الحزب تعتز بتضحية فرهاد، وستطلق اسمه على أحد المعسكرات في جبال قنديل. كان في تلك الأوراق جميعاً النسخة ذاتها من نعي الحزب المقاتل البطل فرهاد، بينما كانت الصورة في ورقة النعي لأخي جان، جان الذي صار باسم آخر ولحية كثيفة.
في إحدى نوبات شجنها تلك سأقول لها: لو كان جان حياً يوم خطوبتنا لكان عليّ دراسة كتابات أوجلان قبل الذهاب إلى بيت أهلك.
أشعر بندم شديد إثر نطقي بالعبارة، فليس من اللباقة ممازحة شخص يبكي بتأثر شديد. تجحظ عينا آفين، وتسقط دمعتان كبيرتان بفعل اتساعهما، لكنها تستدرك بالضحك، بنوبة من الضحك، بذلك الضحك الذي لا يصدر إلا عن شخص يبكي.
ما جعلني أمازحها هكذا أنها، عندما اتفقنا على الخطوبة وبات علي التقدم إلى أهلها، اقترحتْ للتقرب من أبيها وأخيها الأكبر أن أتعرّف على الشيوعية البائدة، لعل معرفتي تشفع لي في حضرتهما. هكذا تطورت الفكرة، بعد أن تداولنا فيها مراراً، فأولاً بدأت بإعارتي الكراسات الشيوعية العتيقة التي يحتفظ بها أبوها في صندوق خاص في غرفته. بالأحرى كانت تقوم بسرقتها واحداً تلو الآخر في عطلة نهاية الأسبوع عندما تذهب لزيارة أهلها، وكانت تستعجلني كي أعيدها بسرعة مخافة أن يفتح الأب صندوقه ويكتشف فقدان واحد من كتبه المقدسة. لا ننتبه لما في هذا السلوك من صبيانية، فما دفعها إلى اختلاسها وموافقتي عليه هو على الأرجح ذلك الإحساس اللذيذ بارتكاب مغامرة صغيرة.
لاحقاً، ستتطور الفكرة لأن معرفتي المستجدة بالشيوعية باتت تؤهلني للادعاء بأنني طلبت الانتساب إلى الحزب، وأنني متلهف في انتظار الحصول على الموافقة. في الواقع كنت أيضاً قد تقرّبت من شيوعي لا أستلطفه أبداً من زملائي السابقين في الجامعة، ولم يطل بي الأمر حتى صارحته بمآربي العاطفية، فأعطاني اسم قيادي في الحزب كي أستخدمه على مسؤوليته من أجل تزكيتي أمام أهلها. أسأله عن مكتبة أجد فيها كتباً عن الشيوعية، فيجيب بأسف أن المكتبة التي كانت تبيعها بأسعار زهيدة قد أُغلقت وأصبحت محلاً لبيع الكنافة النابلسية. فيما بعد سأسمع الإجابة نفسها على سبيل التندر، وأكتشف أنها أصبحت بمثابة شعار فكاهي: من الماركسية إلى النابلسية.
يومَ سأطلب يدها سأشعر في بيت أهلها كأنني كائن غريب هبط من كوكب آخر، ربما تعمّد أبوها وأخوها التعامل معي برسمية شديدة أشبه بالجفاء الشديد، وربما كان مردّ ذلك إفهامي أن طلبي لن يُلبّى بسهولة ويسر. سأشعر بخشية أكبر عندما سيطلب الأب أن نبقى وحدنا، ويوشوش زوجته طالباً منها شيئاً ما. ستأتي الزوجة بصندوق خشبي قديم وصغير، تضعه أمامه منسحبة بسرعة لا تخفي نظراتها القلقة، بينما هو منشغل بالعبث بشاربيه الشبيهين بشاربي ستالين.
يفتح الأب الصندوق: ما هذا؟
إنه مسدس.
يخرج كتاباً بغلاف أحمر عتيق من الصندوق نفسه: ما هذا؟
هذا كتاب “ما العمل؟” للينين.
اسمعْ جيداً، لست مرتاحاً لتزويجك ابنتي، وأتمنى أن يكون إحساسي خاطئاً. لقد وافقت على زواجكما بعدما أقسمتْ لي أنك تسعى لتكون شيوعياً صالحاً، وبكت أمامي ولا أقوى على كسر قلب ابنتي الوحيدة، ويجب أن تعرف منذ الآن ماذا أفعل بمن يكسر قلبها. لم ينتظر ردي، ولم يصغِ إليّ وأنا أؤكد بصدق أنه يستحيل عليّ أن أخدش مشاعر ابنته. خرطش المسدس ليصبح جاهزاً للإطلاق، وضعه فوق كتاب “ما العمل؟”، وأقسم فوقهما أن سيقتلني إذا رجعتْ إلى بيت أهلها يوماً وهي تبكي أو تشكو بسببي.
في أول مشاجرة بيننا، من تلك التي المشاجرات الصغيرة المعتادة بين الأزواج، ستبكي على نحو لم أتوقعه. كنت مندهشاً من دموعها، وحائراً أفكر في الطريقة التي أرضيها بها. ترفع عيناها المبللتان بالدموع كأنما لتنقذني من ارتباكي: هل تريدني أن أذهب بهذا المنظر إلى أبي كي يقتلك؟
لا أدري إن كانت الطريقة التي اندفعت بها لتقبيلها يمكن تسميتها بالاعتذار، لكننا ضحكنا للحظة قبل أن تكتم القبلة قهقهاتنا، كنا نقهقه ونتبادل قبلاً عميقة محمومة في آن واحد، ثم لم نتوقف عن ذلك بعد أن استلقينا على الكنبة في الصالون. من تلك الضحكات المكتومة بالقبل أتى ابننا البكر جان.