أدب و فنالقسم العام

أدب وفن: شجرة الرمان (ثمرة تركية من شجرة كوردية)

محسن عبد الرحمن

دهوك – جنوب كوردستان

مجلة الحوار – العدد /80/ – السنة 29 – 2022م.

رواية يشار كمال التي ترجمها من اللغة الكوردية الى العربية المترجم المبدع (سامي الحاج)، هي الرواية التي تعكس صورة حقيقة لجزء من الحياة اليومية لمجتمع في إطار الجمهورية التركية على منهاج أتاترك، هذه الرواية هي من منشورات (ديموزي للطباعة والنشر) دمشق، 2021.

في مقدمته يعرض لنا المترجم كلمة تعريف مقتضبة عن الروائي مشيرا الى أن يشار كمال يعتبر من كبار الروائيين العالميين حيث ترجمت اعماله الى حوالي أربعين لغة، كما انه اول كاتب من تركيا يرشح لنيل جائزة نوبل للآداب قبل أن ينالها مواطنه (أورهان باموك).

يشار كمال نال خلال مسيرته الأدبية العشرات من الجوائز والشهادات التقديرية، يا ترى لماذا أول كاتب من تركيا وليس أول كاتب تركي، كما هو الحال عند ذكر الشاعر ناظم حكمت وغيره من الكتاب الترك، ليوضح بعدها أن يشار كوردي من أبوين كورديين، ولد وترعرع في كوردستان، حيث ولد سنة 1923 في قرية (كوكجدم) على الحدود الإيرانية – التركية، أي في قلب كوردستان الوطن، أي الجسد الواحد وليس المجزء وهو المثلث الحدودي بين العراق وإيران وتركيا.

العائلة تركت موطنها هربا من الحرب الدائرة بين الروس والترك ليتبين لنا نحن القراء ان الحرب لم تكن المأساة الحقيقية في حياة يشار لان الحرب هي مهنة الترك منذ وصولهم الى الشرق الأوسط، حتى ضربت بهم الأمم الامثال، فقد قال عنهم الأرمن (التركي اذا لم أحد ليقتله، قتل اباه) و الأوكراني قال (الدجاجة ليست من الطيور و الاتراك ليسوا من البشر) و البلغار قالوا (هنالك حيث دعست قدم التركي لن ينبت الحشائش) و الروماني قال (لن يصبح التركي انسانا قبل ان يبيض الديك) و جيرانهم اللدود اليونانيين قالوا(اذا تحدث التركي عن السلام فاعلم ان الحرب قادمة) وقال الروس(الضيف الذي يأتي من دون دعوة هو حتما تركي) والصرب قالوا(يبني الناس والتركي يخرب)…اما الروائي الفرنسي الشهير فيكتور هيكو قال: من هنا مر الاتراك فاصبح كل شيء خراباً!

بقدر ما عاناه الطفل يشار من التمييز العنصري الطوراني لدولة تركيا، لأنه ومثل أي طفل كوردي وعموم أبناء جلدته حرم ليس فقط من التعليم بلغته الأم بل حرم عليه النطق لغته نهائيا بل حرمت الدولة تسمية الكورد أبنائها بأسمائهم القومية، وأعتبر اسم كوردستان من أول المحظورات في تركيا.

لكن بالنار يختبر الذهب، نعم أدب يشار كمال كتب باللغة التركية لكن بروح كوردية كما روح سليم بركات، ان الظلم الواقع أجج الروح القومية لدى يشار لذلك جاءت معظم اعماله عن الظلم الواقع على الكوردي ارضا و شعبا، لهذا جاءت الكلمات تركية بروح كوردية، لقد عبر عن عمق جرحه النفسي و معاناته الإنسانية لعدم قدرته على الكتابة بالكوردية قائلا: (لأنني لا أكتب بالكوردية التي هي لغتي الأم، يعني هذا انني انسان أمي) كلمات تعبيرية عن حالة الغبن و الضياع الإنساني و القومي والالم النفسي لكل كاتب كوردي لا يستطيع التعبير بلغته الام. لذلك جاءت أعماله صرخة مدوية عن قسوة الظلم الواقع على بني جلدته وسياسة الأرض المحروقة التي تعرض لها شمال كوردستان ولازال الحريق مستمرا، وهذا كان سبب ملاحقته من قبل أجهزة الدولة القمعية واعتقاله لأكثر من مرة مما اضطره الى اللجوء الى السويد.

السؤال الملح هو هل كل الكتاب الكورد اللذين كتبوا بلغات المحتلين لوطنهم شعروا بنفس الألم النفسي، أو ليست كتابات سليم بركات بلغة عربية ولكن بنفس الروح الاشراقية الكوردية ل يشار كمال؟

عند الإشارة الى التعليم يشير الى انه لم يكن أحد من أبناء قريته يعرف القراءة، بل وحتى ملا القرية (فتاح خوجة) لم يكن يعرف القراءة والكتابة، اليس من حقنا ان نتساءل ماذا تركت الدولة العثمانية العلية من ميراث لشعوب المنطقة غير الخراب والتخلف والجهل والمرض والفقر..

عدا همجية الدولة التركية الممنهجة ضد الكورد يذكر يشار قسوة وسوء معاملة أهالي القرى التركية واحتقارهم للكورد وذلك من خلال سرد احداث رواية (شجرة الرمان) التي كتبها في خمسينات القرن الماضي وذلك من خلال رحلة الى حيث الشجرة المباركة، يأخذنا يشار عبر شقاء انساني في رحلة مأساة الانسان الكوردي المغرَب في وطنه والممنوع من لغته والممسوخ في انسانيته… انها عملية صهر عنصر في عنصر مضاد، صهر الكوردي الزاكروسي في بوتقة الطورانية – المغولية.. متناسين إن الكوردي بسجيته وفطرته الجبلية وانتمائه للطبيعة الكوردستانية أقوى من انتماءه لأي فكرة أو دين أو معتقد أو دولة أو طائفة.. انه مخلوق لاشراقية كوردية مميزة تتجلى في اشراقية الروح الكوردية في قصائد شيخ العشاق (ملاى جزيري) و فلسفة (خاني) وعشق (فقي تيران) انها التعاليم الشمسانية من أيام ميترا وزردشت، المتجسدة في حياة و تصرفات الكوردي عن دراية و وعي أو بفطرته، فبعفوية يقسم بقدسية يوم الأربعاء الكوردي بدل السبت اليهودي والأحد المسيحي وجمعة المسلم وتارة أخرى بالنار المقدسة: (مرة أخرى شدوا لحفهم الى ظهورهم، رفع عاشق علي بيده آلة الطنبور التي تزين طرفها خصلة خيوط ملونة) . زهو الألوان والموسيقى جزء مهم من روح الفرد الكوردي قبل مسخه وخصلة الخيوط الملونة انما هي تعبير عن حب الكوردي وانتماءه لطبيعة كوردستان الزاهية. هذا الحب الفطري للموسيقى لازال متجسدا في الديانات الكوردية (الزردشتية، اليارسانية، الأيزدية) فالحضور الموسيقي هو جزء مهم من طقوسهم.

لكن فائدة المستعمر تكمن ليس فقط في نهب خيرات كوردستان المادية بل تتجاوزها الى العمق الجغرافي ونهب تراث وثقافة الامة الكوردية واستثمار ابداعات أبناء الشعب الكوردي الواقع تحت هيمنته ومثال ذلك (ذلك الكوردي القروي الذي في جيبه مفاتيح اللغة العربية – سليم بركات) ويشار كمال المرشح لجائزة نوبل ناهيك عن الفنانين والمهنيين وبالمقابل خسارة الخاضع الا وهو فقدان أغلى ما يملك وذلك بداَ بلغته وانتهاءاً بهويته القومية!

لذلك فان الشعوب المستبدة المستعمرة لكوردستان/عرب، ترك، فرس/ أول خطوة خطتها انها منعت اللغة الكوردية وهذا مالم يفعله غير المسلمين/ روس، ارمن انكليز، فرنسيين/ وشوهت التاريخ وسرقة التراث، بقصد سلخ الكوردي عن كل ما يخص انتماءه القومي ويربطه بماضيه بل ويذكره به، والروائي يشار كمال في رواية (شجرة الرمان) يقدم نموذج حي عن مأساة الأنسان الكوردي في شمال كوردستان: (الموت أهون من الفقر. الحمى أفضل من البؤس. مرض السل أحسن من الحرمان) انها الحالة العامة المعبرة عما يعانيه أبناء القرى الكوردية.

(في سكرينكاج التقوا في طريقهم بعائلة كوردية، كان الرجل حاسر الرأس وحافي القدمين، معه زوجته واطفاله الخمسة وهم يسوقون حمارهم امامهم.

كانت زوجة الكوردي وأطفالها الخمسة من النحول والهزال لو أنك نفخت عليهم لتساقطوا، كانوا في حالة مزرية يخال للمرء انهم يعيشون في مجاعة منذ أربعين سنة).

ان كوردستان /جنة عدن/ حسب التوراة في عصر الاتاتركيية كانت كما يصفها يشار (رأوا بشرا ميتين في طرق تلك البرية. في عصر أحد الأيام رأوا جثة رجل ميت عفرها تراب الطريق). يموت البشر جوعا، من العوز والفاقة، يتحولون إلى أشباح تذرهم الرياح/ لوانك نفخت عليهم لتساقطوا / وأين في بلاد كوردستان حيث لا يجوع إنسان أو بهيمة ولا حتى طير، فها هو المنصور /نصر الدولة/ حاكم الدولة الدوستكية – المروانية 982 – 1086م، يسرق الفقهاء قمحه المنثور على الجبال، لتأكل منه طيور الخليفة، ثم لتودع في كتب التراث بدل بيت المال وتسجل ملكيتها الأنسانسة باسم الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز!

في نفس الصفحة يصف صفاقة وحماقة وتفاهة الاقطاعي التركي تجاه الكورد: (هكذا بدون سبب شتم زوجات وامهات العمال القادمين من الجبل الى تشوكوروفا، موجهاَ لهم الاهانات وفاحش الكلام). ثم ياتي ليصور الكوردي ومدى تاثير ذلك على نفسيته وردة فعله على بذاءة الاغا: (لو لم يمنعه عاشق علي لكان حٌسٌك قد مزَق الاغا شرَ ممزق) ثم يكمل ليرينا نفسية الكوردي ومدى انفعاله: (ومن شدة غيظه راح يخبط رأسه بجذع شجرة التوت التي غطى التراب اوراقها على جانب الطريق، كان يبكي بحرقة ويتأوه وهو يطلق الشتائم وأقذع السباب بحق تشيكوروفا.

عاشق علي: (لا اصدق ذلك. هذه تشوكوروفا، لا يقبلون أن يُدفن أهالي الجبل في مقابرهم)!

إذا أي قرية او مدينة او مقاطعة معينة لم تتسع لغير مجموعة معينة أو حرمت على مجموعة معينة، لكننا لم نسمع ان مقبرة حرمت على دفن ميت الا اذا كان من دين آخر.

إن الكاتب بهذا الحوار البسيط يسلط الضوء على العداء المتجذر والحقد والكره الدفين للتركى تجاه الكوردي، حتى انهم يرفضون دفن الميت الكوردي في مقابرهم، أي أن التركي ليس يرفضه وهو حي بل حتى وهو ميت، هذا ما أكده الخطاب السياسي الرسمي تجاه الكورد، وتصريحات رئيس وزراء لم تأتي من فراغ، انما هي منذ وصول اولى دفعات الترك الهاربين من الجوع والحروب من منغوليا الى أراضي كوردستان الخصيبة.

في مقابل عنجهية وانعدام إنسانية التركي تجاه كل ما هو كوردى، يظهر تعاطف الكورد تجاه بعضهم وتضامنهم في المحن، فهذه سيدة في القرية (بعد قليل عادت العجوز إليهم حاملة معها قدرا من البرغل المطبوخ بالسمن واناءاَ مليئاَ بالبن الرائب).

–           تشوكوروفا امتلأت بالكفار. لم تعد هناك إنسانية في تشوكوروفا، هي لم تكن موجودة في السابق، لكنها الآن انعدما تماماَ) انها تؤكد على انعدام الإنسانية في هذه البقعة من الأرض.

–           (انا أيضاً من تلك الجبال يا أخوتي) نعم اخوة الجبل اقوى من أي اخوة أخرى انها ومنذ بزوغ الشمس من قمم زاكروس مستمرة، فعشق الجبل في دمائهم ومحبتها في أفئدتهم والانتماء للجبل يجمعهم. وهذا يؤكده (ثم ألتفت وراءها ومدت يدها وأشارت صوب جبل /دولدول/: (فدته روحي ذلك الجبل، أكاد أموت حسرة على ذلك الجبل، أنا أصلي من أجل الجبل السامق، أنا من تلك الجنة…). انه الحنين بالفطرة للوطن كوردستان.

كلام السيدة لا تحتاج مواعظ شرح وكتب تفسير، أنها واضحة كشمس كوردستان ودافئة كنار الزردشتية وصافية كينابيع المتدفقة من الصخور، انه حب كوردستان الجنة، العشق الإلهي المتجسد فكراَ تصوفياً ابتدعته الذاكرة الكوردية محفظة لمقدس قديم بعباءة جديدة كالمولد النبوي ظاهراَ وعيد ميهركان باطناَ، انه الحب الروحي الذي لا يعادله أي حب مادي، ان كل الصلوات هي من أجل كوردستان وكل الحسرات هي على كوردستان، التي عبًر عنها يشار ب /الجبل/ لأن كلمة كوردستان تسقط وضؤء التركي الأكثر تديناَ.

في مجتمع يسوده التخلف الفكري نتيجة انتشار الجهل وهذا ما خلفته العثمانية على مدى قرون من تسلطه على جزء من العالم الإسلامي، فالدولة العسكرية لا يمكن ان تنتج غير الخوف والقسوة ورواية شجرة الرمان تجسيد حي للتخلف العثماني (نحن نبحث عن شجرة الرمان التي على التلة البيضاء، هل سمعت من قبل باسم شجرة الرمان؟ انها مباركة…)، (سوف نطلب له الشفاء من تلك الشجرة المباركة التي هي علاج لكل داء…). في أواسط القرن العشرين بدل البحث عن مستشفى لعلاج المريض ها هم يبحثون عن شجرة للتبرك بها!

(هذه الشجرة المهيبة المباركة جيء بها من مكة المكرمة، عندما جاء حضرة علي الى تشوكوروفا وأشهر سيفه وفلق آنافارزا العظيمة وجبالها الى فلقتين..).

(في الليالي تنحدر الغزلان من الجبال وتأتي إلى شجرة الرمان دون ان يراها أحد. تعقد العزلان حلقتها حول شجرة الرمان وحتى تختفي مرة اخرى فانها تدور حول الشجرة).

نماذج عن التخريفات التي حشي بها عقول الناس، فالمدارس التي أسسها الايوبيون من النساء قبل الرجال في كوردستان والشام ومصر وخصصوا لها القرى والضياع وقفا دائماَ حولها العثمانيين الى زوايا الدراويش المتسولين أصحاب الخرق أو ثكنات عسكرية، لكن أبداً يبقى في زاوية من الذاكرة الكوردية نور الاشراق الكوردية، المستمدة شعاعها من نور الشمس ودفء النار العصية على النسيان، فها هو الكوردى المتجسد في عاشق على: (استيقظ عاشق قبلهم. كان يضع طنبوره عند رأسه. دائماَ عندما يستفيق من النوم صباحاَ فان أول شيء يجب فعله هو أن يمسد على طنبوره، عدا الفعل يفتح دروب الخير أمامه).

++++++

  • يشار كمال، شجرة الرمان، ترجمها من اللغة الكوردية: سامي الحاج، ديموزي للطباعة والنشر، دمشق،2021.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى