مهندس كهربائي. كاتب ساخر وقاص جاد – من عامودا
مجلة الحوار- العدد /77/- 2021م
اتصلت بي ابنة عمي هالة، المقيمة في هامبورغ، وذكرت لي أن جارها هوشيار كاتب كردي شاب موهوب، وفسيلة بحاجة إلى من يغرسها ويرعاها، حتى تثمر وستنافس بثمارها الأدبية الكتاب الكبار، وإنه من بلدياتي، وهو يبحث عن ناشر يكتشف موهبته الفذّة، فأخبرتها أن عهد دور النشر انقضى، ونحن في عصر وسائل التواصل الاجتماعي المفتوحة، وأن هوشيار يستطيع أن يكتب على صفحته ما يشاء، وإن كان موهوباً، فسيجد قراء وأصدقاء، فالناس لديها ذائقة صحيحة، وتدرك بغريزتها وحسّها مواطن الجمال وتهتدي إلى الحروف المضيئة، وإن جهلتْ القدرة على النقد والتقييم بالمصطلحات الرنانة، وقد غدت صفحات الموهوبين أهم من بعض الصحف المموّلة من دول ذات حدود وأعلام، وأعرف دار نشر تبحث عن المواهب وتنشر لهم، ثم إننا في عصر الكتاب الالكتروني، وقد توقفت جميع الصحف الورقية بعد غزوة الكورونا، لكنَّ ابنة عمي أكثرت وألحّتْ مبهورة بموهبته ومعلقاته، و زكّته لي، وتزكيتها لا تعني كثيراً، فهي مهندسة مدنية، ولم تقرأ في حياتها سوى كتابيّ الأدب في البكالوريا، والقصص المقررة في الكتابين، وكررت إعجابها بموهبته، وحضّتني على قراءته، حتى شعرتُ أني لو قرأت له، فسأكفّ عن الكتابة هيبةً منه، فهو قلم يُخرس الأقلام ويجفف الصحف.
فاستجبتُ لها، وطلبتُ منها أن ترسل نصاً من نصوصه الفريدة، فقالت إنها لم تقرأ له شيئاً سوى قطعة أدبية على صفحته في فيسبوك، وأرسلتْ لي رابط صفحته، فقرأت، ووجدت نصاً مهلهلا مجندلا، أدنى من كتابات كاتبي العرائض أمام البلدية، ومكاتب السجل المدني، وهو يبدي في النص رغبته الشديدة في الكتابة والحديث عن سيرته الذاتية الملحمية، وقصة حياته، وعبوره حدود الجحيم وبلوغه جنة ألمانيا، التي بُعث فيها خلقاً آخر، وشدّتني عبارةً ذكر فيها أنه عندما وصل عينتاب التركية، هارباً من السَّوق إلى شعبة التجنيد الواقعة على طريق قرية حمدونة، كان يريد أن يسأل عن ابن عمه كي يقضي عنده ليلته، ولا يعرف عنوانه، وفكر في أن يصعد إلى مئذنة ويهتف باسمه، لكن المؤذنين موظفون حكوميون، والآذان مؤسسة، وقد منعوه، فأخذ يدق الأبواب باباً باباً بكل يد غير مضرجة، وأظنّها مبالغة أدبية منه، ووجدت عبارة دقّ الأبواب باباً باباً جميلة، لكي يقول لهم إنه كردي، وما إن يعرف الترك أنه كردي حتى يهابوه ويفرشوا له السجاد الأحمر، وهو لا يختلف كثيراً عن كتاب كرد يصدّرون صفحاتهم بصورتهم في هيئة الفلاسفة مع جملة عابرة للقارات مثل: لا حياة للكرد إلا بدولة، فإن لم يحصلوا عليها، فقل عليهم السلام، وذهب مع الريح، والبؤساء.
إنّ جملته عن الأبواب غير المضرجة بقبضته الدامية لا تكفي أن تجعل مقاله نصاً أدبياً، وقد خلط في النص السيرة الكاملة بالتفاصيل الصغيرة، فهو يذكر أنه من عامودا، حارة كذا، وأنه درس في البكالوريا العلمية الشعبة الثانية، هذه معلومات لا قيمة لها في النص الأدبي. ثم إنها استأذنتني في أن يتصل بي، فرحّبت، وبعد دقائق وجدته يتصل بي، ويكرمني بالنداء الكردي المؤدب الشهير: خال، فذكر لي، وقد صار ابن اختي، أن في ذكرياته قصصا لم تقع لبشر قط، وهو يريد أن يكتبها، لكن أسلوبه ضعيف، سألته عن رتبة الدراسة التي بلغها، فذكر لي أنه لم يكمل البكالوريا، مع أنه ذكي، وذهب إلى الجيش حتى يخلص من كابوس الخدمة العسكرية، وينطلق في مدارج الحياة وسلالم المجد، وخدم في المنطقة الفلانية من بيروت، التي قضى فيها أوقاتاً رائعة، مع القائد الفلاني من القرداحة، وسألني ألم تسمع به؟ فأنكرت، وقال إن ضابط القرداحة كان متنفذاً، وأنه ابن حرام، لكن ابن الحرام أحبّه، وأعجب به، حتى أنه اتخذه حارساً خاصاً. هوشيار، اسم يعني الفطن واليقظان والمتنبه، وبالمصرية المفتّح، نسى نفسه، فسرد ما شاء، وكان ينتقل مثل الطير من حديث إلى حديث، وقال إن قصصه تشيب لهولها الولدان، وإنه حالياً في المانيا، ويجيد الألمانية لكنها مكسرة القواعد، المذكر مؤنث، والمذكر محايد، و الخنثى خنثى، وأن الألمان يشجعونه على الكتابة، وهو يروي لهم قصصه، وهو يحب أن يكتب بأسلوب نزار قباني، فقلت إن نزار شاعر، ونثره قليل، فقال إنه يحبه، وطلبتُ منه أن يرسل لي نصاً، فأرسل نصه عبر الماسنجر، وهو الذي قرأته على صفحته، ولم يكن بحاجة إلى إرساله، فالماسنجر هو خباء فيسبوك وفيسبوك هو شرفة ماسنجر ! وقال لي إنه يجد نفسه قريباً من أسلوب “ماركيز”! فسألته عن الروايات التي قرأها لماركيز، فقال إنه لم يقرأ له سوى صفحة واحدة من رواية “مائة عام من الوحدة”، وأعجب بأسلوبه الرائع، وكان قد ذكر في نصه حريق سينما عامودا، وهي بلدتنا، التي يسميها أبناؤها ماكوندو الكردية، وقد نال على نصه حوالي مائة و88 لايكاً، منها قلوبا حمراء وأثبت وطنية لا غبار عليها، وذكر الأطفال الذين أحرقوا في السينما، لأن الأعداء شمّوا أن هؤلاء الأطفال والصبيان سيؤسسون دولة كردية، وهم يخافون من الكردي، لأن الكردي إذا شمّ رائحة البارود فسلام على الجيران، كما يقول شاعرهم الأوحد العظيم جكرخوين، وأهل عامودا يبالغون في البكاء على ضحايا السينما المحروقة، وتحويلها من مأساة قدرية إلى مجزرة عربية ومكيدة سياسة استئصالية ضد الكرد، وغالباً ما تتحول ذكراها إلى ملطمة حسينية على صفحات الناشطين الجدد، وطريقة للحصول على اعجاب المعجبين السهلة ،لا أظن الإعجابات نالها من جملته الشعرية البديعة في قرع الأبواب باباً باباً، فصفحته خالية، كباقي الوشم في ظاهر اليد، لكن لم أعرف سبب اتخاذه صورة أنطونيو بانديراس غلافاً لصفحته، وقلت سأسأله عن أفضل أفلام بانديراس، فإن عرفها، فذلك مفتاح جيد لشخصيته وذوقه، وعلمت منه أنه يعمل في محل حلويات، و إنهم يصدرون أنواعها الشامية إلى مختلف أصقاع المانيا، وطمعتُ في أن يرسل لي علبتين أو ثلاثاً من الحلويات، وأخبرني كالأصم الأعجم ،إنه لم يكتب حرفاً حتى الآن، لأن أسلوبه لم ينضج بعد، فقلت له إن الأسلوب هو الرجل، والرجل هو الأسلوب كما يقول المثل، والرجل يولد طفلاً باكياً، والناس حوله يضحكون سروراً، ثم يحبو، ثم يمشي معتدلاً، فإن كان الكاتب موهوباً، صار عدّاءً، وحطم الأرقام القياسية، وبعض الكتاب لم ينضج أسلوبهم حتى بعد نصف قرن من الكتابة، ولايزالون من غير أسلوب، فهم يكتفون بالمشي، والمشي نعمة، وقد يكتبون كتابة تؤدي غرض الإبانة عن المقصد، من غير بلاغة البيان ونعمة الصناعة الأدبية.
قال لي إن قصة حياته تشبه شيفرة دافنشي، ولا بد أني اطلعتُ عليها، وقال إنه سيكتب قصته على فصلين، ينشر فصلا، ويدّخر فصلا للأجيال القادمة، لأنه هناك أسرار في حياته لا يصلح أن تنشر على الملأ. قلت له إن كل الناس قصص وحوادث وأسرار وليس كل ما يعرف يقال، وأخشى أن يتوهّم أن قصته ملحمية، وأنا نفسي لدي قصص عشتها، وهي من سيرتي، ولا أستطيع كتابتها ومواجهتها، وذكرت له أن فن الكتابة تراجع أمام هجمة الصورة الإمبريالية الشرسة، فالناس في هذه الأيام تجلس وتتكلم عبر الفيديو، حتى أن كتّاباً تحوّلوا إلى قراءة نصوصهم بأصواتهم وصورتهم، عبر الفيديو، ويبدو أن أمة اقرأ ما زالت أميّة، ولا تزال على عكس الأوربيين، الذين نجدهم يقرؤون، فسألني عن السبب فقلت: القراءة مكلفة، والكتاب له سعر، بينما الصورة والفيديو مجانيان، كما أن الفيديو سهل وأرخص جهدا من الكتابة ولا يحتاج إلى قواعد، وليس مثل القراءة، تحتاج إلى خيال، والخيال من الخيل، والخيل فروسية، والفرسان قليل عديدهم، وقلت له إنه يمكنه أن يستحدث منصة يوتيوب، فقال إنه مصرّ على الكتابة، ومعه حق، فقد أقسم الله بالقلم، وأول آية نزلت من القرآن هي اقرأ، حتى اليوتيوب، وهو يحكي ويتكلم، فهو يقرأ نصاً مكتوباً، أو نصا في ذهنه، سألته عن سبب اختياره لأنطونيو بانديراس غلافاً لصفحته، فابتسم، وقال لي إنه يشتهي أن يأكل عيني على هذا السؤال الكريم، وهو تعبير كردي، وشكرني على سؤالي، قال إنها صورته، وإنه يشبه الممثل الاسباني الشهير الخالق الناطق، وذكر لي أن صاحب صالة أزياء المانية في هامبورغ عرض عليه أن يعمل عنده عارض أزياء، فأبديت إعجابي به وبوسامته، وشعره الطويل، وخصلة شعره المجعدة المسدلة على جبينه، وسألته عن صحته، فقال إن قوامه رائع وصحته زي الحديد، وهو مصارع، وكردي طبعا، ويجيد بعض أنواع القتال، وسألته عن عمله، فقال إنه يعمل في محل حلويات في هامبورغ، والمحل ناجح، والإقبال كبير على الحلويات الشامية التي يعملها في حلب، وقال لي إنه مسبّع كارات وصنائع، وكردي أصلي، ومظلوم تاريخيا، وكنت قد مللت من حديثه، وحاولت أن أهرب منه، ووددت لو ذكّرته بالحلويات، لعله يرسل لي علبتين أو ثلاثاً من حلوى سوار الست، فجعلت أصبّر نفسي، وقلت سأثني على قصته وأشجعه، وقال إنه لا يمانع من أن يرويها لكاتب ما، فيكتبها، شرط أن يكون اسمه الأول في الظهور، وصائغ القصة دوبليرا، أو تالياً في الترتيب على غلاف الكتاب، قلت له إن هذا غير شائع، وغير معروف، ولم أجده سوى مرة واحدة في رواية زوبك زاده، التي ترجمها عبد القادر عبد اللي، وصاغها خطيب بدلة، وتذكرت له قول بنيامين فرانكلين: إما أن تكتب شيئاً يستحق القراءة، أو تصنع شيئاً يستحق الكتابة، وقلت له إنه يستحق أن يكون بطلاً لقصة أو راوية، فقال إنه يجد رغبة كبيرة في الكتابة، وإنه عثر مرة في أحد الأسفار على سينمائي تركي، فعرض عليه أن يحول قصة حياته إلى فيلم، وأن يمثله بنفسه، فهو وسيم ويشبه أنطوينو بانديراس، وكردي ومظلوم تاريخيا.
وطلبت منه ثانية أن يروي قصة أو حكاية، فلعلي أجد ما يصلح للكتابة، وإن النائحة ليست كالثكلى، وأنا أفكر في الحلويات وأطمع في أن يسألني عن عنواني، والدنيا رمضان، ويرسل لي علبة أو علبتين من الحلويات، ثم إني سألته عن قراءته، فقال إنه لم يقرأ لأحد سوى سليم بركات، “روايته” سيرة الصبا، وبكى عندما انتهى منها، فتعجبت، فكل الذين قرأوها ضحكوا، وسألته عن سبب بكائه، فقال لأن القصص التي سيكتبها أجمل من قصص سليم بركات بألف مرة، وسليم لن يكون نقطة في بحر موهبته، وهو يريد أن يكتب قصة مثل شيفرة دافنشي على نسختين، نسخة للنشر، و يدَّخر نسخة سرية للحفظ والأجيال القادمة، وهو يريد أن يكتب ويربح مالاً كثيراً، حتى يحضر أمه إلى المانيا، فهو يحبها ويريد أن تعيش معه، قلت له هذه مشاعر نبيلة، لكن الكتابة لا تكسب مالاً، استيقظ من أحلامك يا بانديراس، واروِ لي قصة، من يدري قد أستأذنك في كتابتها، وأذكر على الغلاف اسمك، بل قد أضع اسمك عنواناً لقصة “هوشيار بانديراس”، فذكّرني بأننا من بلدة واحدة، وأنَّ والده كان لديه مقهى، أتعرف مقهى دريشو، فقلت له إني أعرفه، كان مقهى صيفياً، قال إنَّ والده كان صاحب المقهى، ووالده من قرية حاصدة، التي كانت تسمى لندن الصغرى، قلت له إني لم أسمع بهذه الصفة قط، ولا أعرف سبب التسمية التي تذكرها، قال لأنها كان فيها بلياردو في منزل حمدو آغا، فتعجبتُ من الأمر، وذكرت له أنَّ أبي عاش فترة في هذه القرية، وأنَّ أهلها كان يلعبون بالكعاب عندما كنت صغيراً، ويسميها الكرد كابا، وهي لفظة الكعب محرّفة عن العربية، مثل كوبيك اللاتينية وأصلها الكعب، وهم يلعبون الحجارة، ويسمونها لاكا، وهي من لاقى العربية محرفة، والله أعلم، المهم أنَّ أنطونيو وجد عندي آذاناً صاغية ونفساً واعية، وكلّي طمع في علبتين من الحلويات الشامية، وبدأ يروي قصته الهندية، فقال إنه كان له جدّان، جدّ لأمه، وجدّ لأبيه، وكانا متخاصمين، لأن أحدهما كان مسلماً تقياً، والآخر كان فاسقاً، ويحبُّ النسوان، وأن جدّه التقي خطب لابنه من جده الفاسق ابنته، الابن الذي هو والد الكاتب أنطونيو، فتزوج باكراً، وكان يعمل كثيراً في الفلاحة وشقي وتعب، وأنَّ صاحبنا ولد مع عشرة أولاد، وكانوا يعيشون في غرفة واحدة، وأنه كان يسمع والده وهو يأتي والدته ليلاً، ولا أعرف سبب ذكره هذا الخبر، الذي يجب أن يرد في النسخة السرية من شيفرة دافشني للأجيال القادمة، وسألته إن كان قرأ رواية دان براون، قال إنه قرأ نصفها، لكنه تعب منها، وهو مثقف، بشهادة أصدقائه، ويعرف روايات كثيرة مثل الأم مكسيم غوركي أيضاً، ولم يقرأها كلها، لكنه يعرف أن بطلها قال للبطلة وهما في القطار، أن عنده خيالاً رائعاً، فوجدت أني تعبت، ولم أعد أرغب في علبة من الحلويات الشامية، وسألته: بما أنك تشبه أنطوينو بانديراس، فلا بد أنك محبوب من النساء، فقال إنه محبوب جداً، وله قصص حب مع نمساوية وألمانية وهولندية وفارسية… وقصص الحب التي عاشها لا تعدُّ ولا تحصى، فسألته مازحاً إن كان هذا الحب، من طرف واحد، مثل حبي عندما كنت صبياً، أم حبا من أربعة أطراف؟ فأكّد لي حالفاً بالله من فوق سبعة أرقعة، أنه كان يحبُّ من أربعة أطراف، ثم وجدت أنه فهم من عبارة أربعة أطراف قصداً آخر غير الذي قصدته، وهو الحب فوق السرير، وأقسم لي أنه جندل عشرات النساء على السرير وقطف منهن اللوز والسكر، وكنت أظنُّ أن مثل هذه الأخبار مؤجلة للنسخة السرية من شيفرة دافنشي التي سيكتبها للأجيال القادمة، وسألته عن أعماله الأخرى قبل تعلم صناعة الحلويات، فهي مهنة لا يبوح أهل صنعتها بأسرارهم، فصناعة الحلويات صناعة كبيرة، وتعجبت من إتقانه لها، فذكر لي أنه صاحبَ حلبياً في أثناء السفر والإبحار، وأنقذه من الغرق، فصارا صديقين، وتشاركا في محل حلويات، وهو يريد أن يكتب قصته أيضا. آيست من الحلويات، وطلبت منه أن يكتب، اكتب كما يكتب أصحاب العرائض أمام البلدية، يعني يكفي أن تؤدي عبارتك بعض المعنى وسأحاول مساعدتك، فقال إنه يستطيع، قلت اكتب لي قصة واحدة مختصرة، بما لا يتجاوز صفحة، وأرسلها، وسأطّلع عليها، وأخبرك برأيي، فقال إن عشر صفحات قليلة، لا بد من مائة صفحة، سيختصرها إلى عشرين صفحة، رجوته أن يقتصد، ثم سألته إن كان قرأ لي شيئاً، فقال إنه لم يقرأ لي، وما عرفني إلا من خلال ابنة عمي علياء، فذكرت له أن اسمها هالة وليس علياء، فاعتذر بأن اسمها مكتوب باللاتينية على صفحتها، وحزنت لأني ظننتُ أني صرت مشهورا ويعرفني الناس ويقصدونني لهدايتهم إلى الكتابة الصحيحة، واعتذرت منه، فقد طال الحديث الذي استدرجني إليه، ونويت أن أجد طريقة للهروب من الحكم على قصته، إلا إذا أهداني علبة من الحلويات الشامية وأنا أحب سوار الست، وهممت بأن أذكّره بتجنب التذكير بأنه كردي كل سطرين، ويمكن أن يذكر ذلك مرة واحدة، لكني لم أفعل، وتذكرت فقهاء الظلام لسليم بركات، وقلت إذا كتبها سأجد طريقة للهروب من قراءتها، وإلى ذلك الوقت:
قد يموت الحمار.
أو أموت أنا.
أو ينتحر الملك بثلاث طلقات في الرأس.
وتواعدنا واعتذرت له وودّعته، ثم خطر لي أن أهديه إلى الكتابة بالكردية، بالحرف العربي كما يكتب كرد الشمال، او بالحرف اللاتيني كما يكتب كرد الجنوب، وعندها لن يحتاج إلى تذكير القارئ بأنه كردي كل صفحتين، وأني أخشى عليه السقوط في البلاغة اللفظية التي غرقت فيها الرواية العربية فترة ونرى مثالها في سرد نجيب محفوظ في أول رواية له: “كانت السفينة تصعد في النهر المقدس، ويشق مقدمها المتوج بصورة اللوتس الأمواج الهادئة الجميلة، يحتث بعضها بعضـًا منذ القدم كأنها حادثات الدهر في قافلة الزمان، بين شاطئين انتثرت على أديمهما القرى، وانطلق النخيل جماعات ووحدانا…” وإن هذه الصناعة الأدبية ليست سهلة فهي صناعة أيضا وإن قلَّ الطلب عليها، ولن يصعب عليه الحبر ما دام قد تعلم صناعة رقائق الذهب الغارقة في القطر الحلو والمسمّاة البلورية أو سوار الست، إن صدق، لكني كنت أفكر في الحلويات، وسألته عن أنواعها، لعله يسألني عن عنواني، ويرسل لي علبة أو اثنتين من عشِّ البلبل، فتصل قبل يوم العيد، وذكر لي سبعة من أصنافها، بينها البقلاوة وحلاوة الجبن والنابلسية التي أحبها والبلورية والكنافة والفيصليات والمعمول والنمورة، فسررت بحديثه عن الحلويات، وفضلته على حديث القصة والكتابة، لكن أنطونيو ابن صاحب مقهى دريشو، بكالوريا علمي شعبة ثانية نسي أن يسألني عن عنواني، فقد كان مهموما بالرسالة التي تثقل كاهله ويريد أن يبلغها الأجيال ويحتفظ بنسخة سريّة منها، ورأيت أني كان عليَّ أن أكاشفه، لكني خجلت، وأحببت مثابة المعلم، وأخذني الكِبْر، ويئست وتعبت، فنحن في رمضان والريق يجفُّ، والأقلام تتكسر، والنصال تتحطم، وانقضى النهار، وبدأ الليل بالاعتكار، وحان موعد الإفطار.