رواية كهرمان هي باكورة نتاج الكاتب ريزان عيسى، تقع في 219 من القطع المتوسط، إصدار 2019 عمان / الأردن. الرواية ترجمة لرصد واستنساخ تجربة فتاة كوردية مراهقة (نالين) تلتحق بصفوف قوات الكريلا الكوردستانية، نالين التي انجرفت مع موجة النضال الثوري العسكري، بدءا بأوائل تسعينات القرن العشرين، تعد نموذجاً نمطياً تجسد حالات عديدة من بين أجيال من الشابات والشباب الثوري المنخرطين في حركة ثورية، حركة خاصة نسيج تعقيدات الواقعين الكوردستاني والتركي: «كانت قد حسمت أمرها بالانضمام لصفوف الحزب، لم تعد نالين تطيق صبراً بالبقاء أكثر في مدينة القامشلي، دمشق هي قبلة الثوار، هنالك يمكنها أن تتلقى تدريباً خاصاً في المعسكر الذي يشرف عليه القائد آبو بنفسه، صحنايا تلك البلدة الكائنة على مشارف العاصمة دمشق من جهة الجنوب. لم تكن لتودع أسرتها، كانت تخشى أن تضعف أمامهم أو أن يحاولوا منعها، غادرت بصمت، تركت حقيبتها المدرسية أمام الباب ولم تعد للبيت ثانية»- ص13.
الرواية أقرب إلى النص الوثائقي منه إلى الدراما الفنية المتخيلة، أو السرد المنسوج بعناية لغوية على أقل تقدير. تتقاطع رواية كهرمان بشكل ما مع الروايات التاريخية، وإن كانت فترة تناولها للحدث الرئيس ليست بعيدة، أي هي رصد لحياة فتاة مقاتلة في صفوف القوات الكوردية المناهضة للحكومة التركية في العقد الأخير من القرن العشرين، لكن ما ربط النص الروائي بشكل أوثق مع الأحداث التاريخية هو وجود مسارين خلفيين للحدث الرئيس، فالفتاة نالين تتذكر جدتها الأرمنية الأصل (مارغريت)، وتستحضر الرواية عن طريق هذه الذكريات أحداث مطلع القرن العشرين ومجازر الأرمن. عملية الاستحضار فيها الكثير من الجهد… «خاتون الكردية الأرمنية التي تحمل اسما كردياً وروحاً أرمنية، مارغريت دير مانويليان هو اسمها المنسي والذي لا وجود له إلا في ذاكرتها. كانت مارغريت الابنة الصغرى لعائلة أرمنية تقطن إستانبول… استفادت السلطة العثمانية من التكنولوجية الحديثة واستخدمتها بشكل فعّال جداً في القتل الجماعي. فطوعت القطارات والتلغراف في عملية موسعة لقتل الأرمن وتهجيرهم… غادرت مارغريت وأخواتها الثلاث مع أمهم منزلهم الكبير الذي كان بمثابة قصر مطل على البوسفور… واقتيدوا إلى معسكرات مغلقة خارج مدينة اسطنبول»- ص73.
قصة الجدة الأرمنية ومأساتها تتقمص حياة الحفيدة الكوردية الثائرة نالين، لتحتل القسم الأكبر من النص. ولتضفي على النص الروائي تعقيداً وبعداً سحرياً، ففي لحظة ما وعندما تزور نالين قرية جدتها مارغريت في ريف دياربكر تنتظرها القروية العرافة لتتحول نالين الثائرة الكوردية أواخر القرن العشرين إلى مارغريت الجدة الأرمنية الضحية أوائل القرن نفسه: «كنت أنتظر قدومك مارغريت، علمت أن ميعادك حل اليوم، فالأقدار لا تختلف مواعيدها، اقتربي مني صغيرتي لأبعد عنك أضغاث أحلامك، اقتربت منها نالين كأنها تحت تأثير السحر، وضعت يدها على رأس نالين وأخذت تهمس ببعض الأدعية والتمتمات غير المفهومة.»- ص 160.
على مسار آخر تخترق نسيج الرواية السردي والتاريخي أحداث الحرب العالمية الثانية، عن طريق الفتاة الألمانية (كلارا)، الكاتبة المسرحية التي التحقت بدورها بصفوف القوات الكوردية في جبال كوردستان، لتفتح الباب بحضورها الروائي واسعاً على أحداث تاريخية مرتبطة بالحرب والصراع الروسي – الألماني واحتلال مدينة والدتها من قبل الروس: «سأحدثك عن بلدي ألمانيا كيف عشت فيها منذ صغري، لكن سأبدأ بالمدينة التي ولدت فيها أمي وعاشت حتى سن العاشرة لتغادرها بعد ذلك مجبرة، لهذه المدينة قصة تستحق أن تروى وأشعر دائما أنني هنا لأسباب لها علاقة بالمدينة، وما أورثته من طباعها وملامحها لأمي والتي تطبعت بها، أنا أيضا بطريقة ما، فسرت تلك الكيمياء في دمي لأكون أنا امرأة تحمل ملامح مدينة منسية، قد تستغربين أنني حتى لم أعش فيها، لكنني مسكونة بعبق عنبرها ورونق كهرمانها، هذه المدينة المقاومة والعنيدة حد التهور، كونيغسبيرغ الألمانية التي اغتيلت في وضح النهار وجردت من اسمها وماضيها وحاضرها لتوشم باسم كلينينغراد الاسم الروسي الذي لا يشبهها…»- ص 167.
صنعت الرواية عالمها الخاص بقوة، لكن لغتها التقريرية تدفع بالقارئ للوقوع تحت سيادة مناخ تقريري وخطابية غير متموضعة بشكل مناسب داخل النص، وكأنه يقرأ مقال عن الحروب أو التاريخ المستنسخ، أو حوارا حول المسرح. ربما ليخرج القارئ بانطباع أن هذه الحروب والثورات ما هي إلا مسرحيات عبثية أو دراما غير موفقة.
لكن تظل الرواية مميزة بأجواء حياة المقاتلات المدهشة إلى حد الخيال والقاسية كصخور الجبال: «كنا خمس نساء نسير ببطء ووهن، لم نجسر على النظر وراءنا، تركناهم بعد أن استسلمن بهدوء لغواية جبل كاتو. خمس نساء يمتشقن بنادق ويتسورن بالذخيرة والقنابل، محنيات الظهر، لا يتحدثن إلى بعض إلا بالنظر، يثابرن للخلاص من الحتف الذي ألم بهن في هذه الجبال النائية. عشرة أيام مضت منذ أن تهنا في هذا الجحيم الأبيض… وصلنا أخيراً الى جبل الجودي.»- ص29.
هذه المسيرة القاسية بدأت منذ فجر معاناة جبل الجودي مع الجوار، ولم تنتهي بعد، على الرغم من مسيرة المقاتلات انتهت بقسوة بتر ساق ناعمة، هذه الساق الجميلة التي كان من الممكن أن لها أن تقرع التراب لتصنع أنغام ودبكات جميلة، كان من الممكن لرشاقة هذه الفتات وقوتها أن تصنع الفرح وتمشي قدماً في دروب التعليم. «أوقدن النار في المغارة، وجوهن شاحبة ومنهكة انعكست ظلالهن على جدار المغارة بالكامل، محنية متكورة كخفافيش معلقة، تأملت الوجوه جيداً، شعرت أنني أغادر الحياة وأن هذه المغارة وتلك الظلال المنكسرة هي آخر ما أشاهده… أدرت وجهي صوب الحائط وأغمضت عيني، بدأت ببتر قصبة الساق بتلك السكين المسننة، لم يكن الألم محتملاً، صرخت محاولة النهوض دون جدوى، كان صوت نشر عظم الساق يطن في أذني ويدفعني الألم المبرح للصراخ…»- ص33.
رواية كهرمان أثقلت بأحداث ثلاث حروب، ومآسي ثلاث أمم (الكورد، الأرمن، الألمان) لذلك ضجر النص ولم يتحمل هذا الحمل الثلاثي الثقيل.
* جريدة الوحـدة – العدد 322- أيلول 2020م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).