أدب و فنالقسم العام

اسطورة كردية في قصة للكاتب العالمي إيفان بونين …

جـودت هوشيار

مقدمة

للشعب الكردي تراث فولكلوري هائل، لم يدون منه الأ الشيء القليل، وثمة عدد كبير من المستشرقين والرحالة ورجال الفكر الذين زاروا كردستان واحتكوا بالشعب الكردي في أعماق الريف الكردستانى، فوجئوا بضخامة هذا التراث وتنوعه وثرائه الباذخ، لذا ليس من الغريب أطلاقا أن تستأثر الحكايات والأساطير الكردية باهتمام عدد من أبرز أدباء وفناني عصرنا . مثل الشاعر التركي ناظم حكمت والموسيقار الأرمني أرام خاتشاتوريان والكاتب الروسي العالمي أيفان يونين، الذي أستلهم أحدى الأساطير الكردية واستمد منها مادة لأحدى أقاصيصه المشهورة وهي ” الشباب والشيخوخة ” التي تقدم فيما يلي ترجمة لها من اللغة الروسية مباشرة . وهذه الاسطورة تدخل ضمن الأساطير التي أصطلح على تسميتها بأساطير الخلق والتكوين والتي تصور خلق الكون والأنسان وتطور الحياة على وجه الأرض، وليس من العسير على المرء أن يلاحظ أن الكثير من الحكايات والأساطير للشعوب المختلفة تتشابه في مضامينها وأن تنوعت في أشكال صياغتها وفى تفاصيلها .

     أيفان بونين – الذي يكاد يكون مجهولا في بلادنا – كاتب وشاعر عالمي ويعتبر بأجماع النقاد الروس من خيرة كتاب القصة القصيرة في روسيا وأكثرهم موهبة ونبوغا وشهرة الى بعد تشيخوف، وبفضل هذين الكاتبين العظيمين بلغت القصة الروسية القصيرة أوج نضجها وأكتسبت الملامح المميزة لها، ومايزال تأثيرهما قويا على كتاب القصة القصيرة على الصعيدين الروسي والعالمي .

    ولد بونين في مدينة (فورونيش) عام 1870 فى عائلة أرستقراطية نبيلة أنجبت العديد من الفنانين والمفكرين، ولقد بدأ حياته الأدبية شاعرا، ولم يكن قد تجاوز التاسعة عشرة حين نشر مجموعة أشعاره الأولى، نشرت هذه المجموعة في وقت أحتل فيه الأدب الروسي مكان الصدارة في الأدب العالمي ، حيث قدمت روسيا للعالم في وقت قصير للغاية العديد من الكتاب والشعراء والفنانين العباقرة مثل تولستوي وتورغيتيف وتشيخوف ويلوك وأندرييف وغوركى وريمسكي – كارساكوف وجايكوفسكي وشاجال وكاندينسكي وغيرهم الذين عرفوا بـ” النخبة الجبارة ” .

  لقد كانت روسيا في اّواخر القرن الماضي رغم التطور الصناعي الضعيف فيها مركزا للأشعاع الفكري والفني والثقافي، ظهر يونين في وقت كان هؤلاء العظام في اّوج مجدهم، وكانت نجومهم ساطعة في سماء الفن والأدب الروسيين، غير أن هذا لم يقف حائلاً أمامه في شق طريقه بسرعة وقوة وثقة في الأدب الروسي، حيث قوبلت مجموعته بكثير من الاستحسان والإطراء من قبل اكبر نقاد ذلك العصر، ومنح على اثرها جائزة بوشكين. وكانت هذه الجائزة تعتبر أرفع وسام أدبي في روسيا القيصرية على الاطلاق، ثم منح الجائزة نفسها حين ترجم للشاعر الامريكي (لونجفيلو) قصته الشعرية (هياواثا) كما ترجم العديد من قصائد بيرون وغيره من شعراء الغرب.

    وفي سنة 1909 أنتخب عضوا في الأكاديمية الروسية، ورغم أنه ظل طوال حياته يكتب الشعر حتى أن أحد النقاد قال عنه: أن بونين لو لم يكتب في حياته الا تلك القصائد التي نشرها ، فأنه كان سيظل علما بارزا في تاريخ الأدب الروسي، غير أن بونين كاتب متعدد المواهب ، فهو معروف ككاتب نثر من الطراز الاول، كتب الكثير من القصص القصيرة والروايات ، التي تعد من أروع وأجمل ما كتب في الأدب الروسي من قصص في النصف الأول من هذا القرن .

    ولقد أحدثت روايته (القرية) بوجه خاص دويا هائلا في الأوساط الادبية حين نشرها في عشية ثورة أكتوبر1917 ، لم يتقبل بونين الثورة البلشفية فاّثر الهجرة الى باريس عام 1920 وعاش فيها الى اّخر أيام حياته حيث توفي في عام 1953 عن عمر يناهز الثالثة والثمانين .

نال بونين جائزة نوبل للآداب عام 1933 عن روايته الرائعة  ” حياة أرسينيف ” التي كان قد  نشرها في السنة ذاتها ، وكان بذلك أول روائي روسي يحصل على هذه الجائزة، وخلال أقامته في باريس نشر اضافة الى هذه الرواية المشهورة العديد من المجاميع القصصية من أشهرها مجموعة ” المماشي الظليلة ” الرائعة التي نشرت في نيويورك عام 1943 في ظروف الحرب العالمية الثانية العصيبة، وقصص هذه لمجموعة وان كانت جميعها تقريبا تتحدث عن الحب، الا أن اسلوب بونين الشاعري المركز والدقيق أتاح له الكشف عن أعمق أعماق النفس البشرية .غير أن بونين شأنه في ذلك شأن أي فنان واقعي أصيل لم يعزل الحب قط عن تناقضات النظام الاجتماعي.

إن قصص بونين مترجمة الى العشرات من أهم لغات العالم ، كما نشرت مجموعة مؤلفاته الكاملة مرات عديدة في باريس وبرلين وموسكو، وتحظى قصصه بشعبية هائلة داخل روسيا وخارجها حيث تحول العديد منها الى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية ، وعروض مسرحية فى بلدان كثيرة ومنها روسيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية ، ونشرت عنه ، وعن نتاجاته عشرات الكتب ، والأطروحات العلمية والدراسات بالعديد من اللغات العالمية. .

    و تحتفل الأوساط الثقافية الروسية كل عام بذكرى مولده على نطاق واسع وتخصص المجلات الأدبية مساحات واسعة لأحياء ذكراه والإشادة بفنه الرفيع وموهبته الخلاقة ودوره في تطوير الأدب الروسى .

أما هذه الأقصوصة التي رأينا من الضروري ترجمتها من اللغة الروسية مباشرة، فقد كتبها بونين في باريس عام 1936م ونشرت في نفس العام في مجلة “روسيا المصورة” الصادرة في باريس ، ثم أعيد طبعها ضمن مجاميعه القصصية المختارة ومؤلفاته الكاملة . ولقد قامت مجلة (اوغونيوك) الروسية ، واسعة الانتشار ،التي تصدر في موسكو عن دار ( برافدا) للطبع والنشر بإعادة نشرها عام 1956،  و هذه القصة – شأنها في ذلك شان معظم قصص بونين الأخرى – تبحث عن أجوبة على الأسئلة التي تهم البشر جميعا بشكل دائم وبخاصة المبدعين والمفكرين منهم حول معنى الحياة والغاية من خلق الإنسان .

قصة ” الشباب والشيخوخة ” بقلم بونين

أيام الصيف الرائعة .البحر الأسود هادئ، السفينة مثقلة بالمسافرين والأمتعة . ليس هناك موطئ قدم على ظهرها من المقدمة وحتى المؤخرة . الابحار طويل وفي أتجاه دائري – القرم، القفقاز، سواحل الأناضول، القسطنطينية.

الشمس لاهبة، السماء زرقاء، والبحر بنفسجي، تختلط فيه جلجلة السلاسل المدوية بشتائم البحارة وصراخهم – الى الأعلى ! الى الأسفل.

قمرات الدرجة الأولى خالية ، وفسيحة ، وتشع بالنظافة . القذارة والضّيق بين الكتل البشرية من ذوي الجنسيات المختلفة ،الذين يشغلون الدرجات الأخرى على ظهر السفينة . وقرب المكائن الساخنة ، والمطبخ الفواح. في الزوايا وتحت المظلات، بين الحبال والسلاسل الممتدة على سطح مقدم السفينة، تنتشر رائحة قوية وكثيفة، هي ساخنة وطيبة حينا، ودافئة وكريهة في أحيان أخرى، ولكنها ابداً مثيرة بالدرجة ذاتها . رائحة السفينة، ممزوجة بطراوة البحر . .

هنا فلاحون روس وفلاحات روسيات، هنا الأوكرانيون والاوكرونيات، وقساوسة من أفون، هنا الكرد، والجورجيون واليونانيون .

    الجورجيون يمرحون طوال الوقت ، فهم أما يغنون ، أو يرقصون أزواجا في غنج ودلال ، وقد شمروا عن سواعدهم ،وأخذوا يتقافزون بين الجمهور في خفة . الحجاج الروس المتوجهون الى فلسطين لا يكفون عن شرب الشاي. ثمة فلاح روسي، طويل القائمة غائر الكتفين، ذو لحية صغيرة صفراء ، وشعر مسترسل يقرأ في الكتاب المقدس ، وامرأة وحيدة قرب المطبخ لا تكف عن التحديق فيه في تحد وإصرار. وهي تلبس بلوزة حمراء ، وتلف شعرها الأسود الخشن بإيشارب أخضر خفيف.

رست السفينة في حوض للسفن عند المضيق . نزلت الى الساحل وعندما رجعتُ رأيت على السلم مجموعة من الكرد المسلحين، يصعدون الى ظهر الباخرة يتقدمهم شيخ ضخم الجسم، عريض المنكبين، في الملابس الكردية، يتمنطق بحزام مشدود حول قده النحيل بقوة ، ومرصع بقطع فنية. الكرد الذين كانوا معنا على ظهر السفينة، هبوا لاستقباله ، وأفسحوا له مكانا بينهم، وبدأت حاشية الشيخ بفرش المكان بالسجاجيد العديدة، ووضعت عليها المخدات، جلس الشيخ في المكان المهيئ له في عظمة وهيبة، كانت لحيته بيضاء ناصعة ، ووجه أسمر غامق لفحته الشمس. كانت عيناه العسليتان تشعان ببريق مدهش، اقتربت منه ، وجلست القرفصاء، وحييته ثم سألته بالروسية :

    – – هل أنتم من القفقاز؟

    – – بلادنا أبعد من القفقاز ، نحن كرد

     سألته عن وجهته ، فرد علي في تواضع ولكن في زهو واعتداد :

–  الى إسطنبول .. للقاء الباديشاه نفسه، لأقدم له شكري ، وأسلم له هديتي وهي عبارة عن سبعة مجالد، كان لي سبعة أبناء أرسلهم الباديشاه كلهم الى الحرب، الواحد تلو الاّخر، لقد مجّدني الباديشاه سبع مرات.

كان بيننا شاب يوناني من مدينة كورجي، ممتلىء الجسم، بالغ الأناقة، يعتمر طربوشا دمشقيا ، ويلبس بدلة رصاصية وصدرية بيضاء، وينتعل حذاءا براقا ذو أزرار جانبية . تضاحك الشاب /

    :   تسى، تسى، تسى !  ثم أردف قائلا-

   – عجوز وبقى هكذا وحيداً .

     نظر الشيخ الى طربوش الشاب الوسيم وقال له ببساطة :

 – ما أغباك ! أنت ستشيخ وتصبح عجوزاً، أما أنا فلن يحدث هذا معي أبدا، أتعرف حكاية القرد ؟

     فإبتسم الشاب الوسيم في ريبة وقال :

     – أي قرد؟

  – إذن ، فأصغى الى ما سأقوله :

  – لقد خلق الله الأرض والسماء، أتعرف هذا؟

    – – حسناً أعرف هذا ثم ماذا؟

    ثم خلق الله الأنسان وقال له : أنت أيها الإنسان سوف تعيش على الأرض ثلاثين عاما، حياة سعيدة هانئة، سوف تفرح ، ويخيل اليك أن كل شيء على الأرض قد خلق من أجلك، أمسرورا أنت بهذا؟

    وفكر الإنسان في نفسه: ما أجمل هذه الحياة ! ولكن هل أعيش على الأرض ثلاثين عاما فقط ؟ وقال :

     – آه ، ما أقصر هذا العمر !

وسأل الشيخ الشاب الوسيم في سخرية:

– أتسمع؟

فأجابه الشاب:  أجل

– ثمّ خلق الحمار وقال له :

– سوف تنقل البشر ، والأمتعة الثقيلة ، ويهدك التعب ،ويضربك الناس على رأسك بالأعواد الغليظة ، فما العمر الذي تريده؟

وأجهش الحمار بالبكاء وأرتفع نحيبه وقال :

هذا عمر طويل يا إلهي ! أعطني نصفه فقط .

وتوسل الإنسان الى الرب ، وطلب أضافة نصف عمر الحمار الى عمره، وأستجاب الرب لالتماسه، وهكذا أصبح عمر الأنسان خمسا واربعين عاما، وسأل الشيخ الشاب الوسيم وهو يرمقه بنظراته :

–كان الأنسان محظوظا، أليس كذلك؟

ورد الشاب دون أن يدري ما يرمي أليه الشيخ بهذه الكلمات :

– نعم  . لا بأس بذلك، ثم أضاف الشيخ قائلا :

– ثمّ خلق الكلب وأعطاءه من العمر ثلاثين عاما وقال له :

– ستعيش طوال عمرك حانقا، سوف تحرس أموال سيدك، ولا تأمن جانب أي أنسان غريب، سوف تنبح في وجوه المارة، ولا تنام الليل، بل سوف تظل ساهرا من القلق . أتدري؟ لقد ولول الكلب وبكى وقال :

–  آه يا الهي ! يكفيني نصف هذا العمر، وأخذ الأنسان مرة أخرى يطلب أضافة هذا النصف أيضا الى عمره، فأستجاب الرب لرجائه :

– – كم أصبح مجموع عمر الأنسان الاّن؟

فأجاب الشاب وقد بدأ السرور على وجهه أكثر من السابق :

– ستين عاما

– ثم خلق الله القرد ومنحه من العمر ثلاثين عاما .وقال له أنه سوف يعيش بلا عمل، بلا هموم، ولكن سوف يكون قبيح الوجه، أتدري ! وجه عار، ملىء بالتجاعيد، الحاجبان منحرفان نحو الجبين، سوف يحاول هذا المخلوق أن يلفت الأنظار، غير أن الناس سوف يسخرون منه، وهنا سأل الشاب الوسيم :

– إذن فالقرد رفض أيضا نصف العمر الممنوح له؟

نهض الشيخ من مكانه وتناول مبسم النرجيلة من يد أحد رجاله وقال :

 – أجل رفض القرد أيضا نصف عمره، وأضيف هذا النصف الى عمر الأنسان .

  ثم عاد الى مكانه بعد أن أخذ نفسا من النرجيلة، وصمت وأخذ يرنو ببصره الى شيء ما أمامه، وكأنه نسى ما حوله تماما، وقال دون أن يوجه كلامه الى أحد.

– عاش الأنسان على الأرض ثلاثين عاما من عمره كإنسان . أكل وشرب وحارب، رقص في الأعراس، أحب النساء الجميلات . أما الخمسة عشر عاما من عمر الحمار فقد أشتغل وجمع المال. وقضى الخمسة عشر عاما من عمر الكلب يحرس ماله ويحافظ عليه، يعوي في وجوه الاّخرين ساخطا ويسهر الليالي قلقا، ثم أصبح مكروها وعجوزا مثل ذلك القرد . والناس من حوله يهزون رؤوسهم ويسخرون منه. ثم وجه كلامه الى الشاب الوسيم وهو يحرك مبسم النرجيلة بين شفتيه :

– كل هذا سيحدث معك

وسأله الشاب :

– ولكن لماذا لم يحدث هذا معك ؟

– أجل . لم يحدث هذا معي

– ولكن لماذا ؟

– فأجابه الشيخ بصرامة :

–  الناس الذين هم مثلي , نادرون , لم أكن حماراً , ولم أكن كلباً , فلماذا أكون قرداً , لماذا أكون عجوزاً !

——————–

أيفان بونين: مجموعة المؤلفات الكاملة في تسعة أجزاء . الجزء السابع (الدروب الظليلة) دار نشر الآداب ، موسكو 1966 ،  ص292-295

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى