توطئة :
ما هو الأدب العالمي ؟ وهل ثمة مضمون حقيقي لهذا المفهوم ؟ . قد يتصور البعض ان النتاج الأدبي الرائج في بلد ما ، والذي يترجم بعد فترة وجيزة الى عدد من اللغات الأجنبية يدخل على الفور الى الرصيد الذهبي للأدب العالمي ، وهذا وهم وقع فيه كثير من المبدعين والنقاد في بلادنا . المسألة ليست بهذه البساطة ، بل أعقد من ذلك بكثير ، وهي مثار جدل بين الباحثين الغربيين منذ عشرات السنين ولم تحسم حتى يومنا هذا .
ورد مصطلح ” الأدب العالمي ” لأول مرة على لسان غوتة ، الذي قال خلال حديث مع صديقه ايكرمان في العام 1827: ” أنا مقتنع بأن أدباً عالمياً أخذ يتشكل ، وأن جميع الأمم تميل الى هذا . .. اننا ندخل الآن عصر الأدب العالمي . وعلينا جميعاً الأسهام في تسريع ظهور هذا العصر “. وفيما بعد عاد غوتة أكثر من مرة الى تناول هذه المسألة .
ولكن ولادة هذا المصطلح لم يأت من فراغ ، فقد كان دانتي قد أشار في دراسة له بعنوان «حول الملكية» الى وجود حركة ثقافية عالمية ، كما تحدث العديد من المفكرين والفلاسفة والأدباء الألمان والفرنسيين عن التجربة الأنسانية المشتركة . تحدث شيللر عن مفهوم ” التأريخ العالمي ” وهيجل عن مفهوم ” الروح العالمية “
نظر شيلر الى عصره ( القرن الثامن عشر ) كبداية لتمازج الأمم المختلفة في مجتمع انساني واحد واعتبر نفسه مواطناً عالمياً .وقد أثرى ممثلو الرومانسية ( بايرون ، شيلي ، وكيتس ، وورد زورث ) مفهوم ” الأدب العالمي ” . وتعزز هذا المفهوم وتعمق في القرن العشرين ، عندما توسعت الأتصالات الأدبية بين الأمم، وبدا واضحاً وقائع التأثير المتبادل ، والتماثل الطوبولوجي في العملية الثقافية على مستوى العالم .
على مدى زمن طويل ، كان ثمة محيط خاص ولغة خاصة للأدب العالمي . أما الآداب المدونة باللغات القومية فقد كانت تحتل مواقع هامشية . وكانت اللغة اللاتينية وريثة شرعية لجدة أغنى هي اللغة اليونانية ، التي كانت بدورها وعبر عهود طويلة تقوم بدور اللغة الأدبية العالمية . وكان مفهوم الأدب العالمي بالنسبة الى اللغتين اليونانية واللاتينية يعني المظاهر الروحية ذاتها التي ينطوي عليها مصطلح” الأدب العالمي ” اليوم
مفهوم الأدب العالمي :
مصطلح الأدب العالمي ، يتسم بالغموض ، وليس له تعريف محدد أو مفهوم واضح متفق عليه بين الباحثين.. ولو راجعنا الموسوعات العالمية بحثا عن مفهوم هذا المصطلح ، لوجدنا إختلافا كبيراً بين موسوعة وأخرى. ومع ذلك يمكن القول ان ثمة اربعة تفسيرات اساسية لهذا المفهوم وهي :
الأول : المحصلة الكمية للآداب القومية لكافة الشعوب طوال التأريخ البشري ، بصرف النظر عن المستوى الفني والجمالي لنتاجاتها . بيد أن هذا التعريف يجعل من الأدب العالمي شيئاً غامضاً وفضفاضاً ، لا يمكن حصره ويصعب دراسته .
الثاني : جماع النماذج الأبداعية المختارة ، التي ابتدعتها البشرية بأسرها. وبهذا المعنى فأن مفهوم الأدب العالمي لا يشمل النتاجات متوسطة القيمة أو الظواهر السطحية الشائعة في الآداب القومية ، وإنما يقتصر على الآثار الإبداعية ذات القيمة الفنية والجمالية العالية . ولكن ها هنا تنهض مسألة أخرى : هل يمكن القول ان الأعمال الأدبية الرفيعة لكافة شعوب الأرض تنتمي الى الأدب العالمي . يرى بعض الباحثين الأوروبيين ، ان الأدب الأوروبي الكلاسيكي والمعاصر هو الذي يمثل الأدب العالمي . وأنصار هذا الرأي لا يتحدثون عن أوروبا كمفهوم جغرافي ، بل يتصورونها كمفهوم روحي . وهذا يعني بالضرورة ان الأدب العالمي هو الأدب المشبّع ب” الروح الأوروبية ” وان هذا الأدب لا يمكن تمثله الا من خلال منظور الثقافة الأوروبية . وهذه وجهة نظر أوروبية ضيقة . ويرى هؤلاء ، ان آداب الشعوب الشرقية تقع خارج نطاق الأدب العالمي ، لأن نتاجاتها لم تصبح بعد في متناول أيدي البشرية بأسرها . ويرى البعض الآخر منهم إن الآداب ( الهمجية ) الغريبة لا تنتمي الى الأدب العالمي . ويدعو الى نبذ الفلكلور وطرحه خارج نطاق روائع الأدب العالمي . و لا شك أن مثل هذه المزاعم مرفوضة تماماً . صحيح ان الفلكلور لا يدخل في الأدب العالمي على نحو مباشر ، ولكن مما لا ريب فيه ان شعراء مثل هايني وبيرنس ويسينين قد ترعرعوا فوق تربة الفولكلور وان نتاجاتهم جزء من الأدب العالمي .
الثالث : عملية التأثير والإثراء المتبادل للآداب القومية ، والتي تظهر في مرحلة متقدمة من التطور الحضاري للبشرية . وهذا ما نلمسه بوضوح في اشارة غوتة الى الدور الذي يلعبه الأدب العالمي في توطيد أواصر العلاقات المتبادلة بين الشعوب . يقول غوتة : ” اننا نود أن نعيد الى الأذهان من جديد ان مسألة توحيد العقليات الشعرية امر مستحيل . فالحديث هنا يدور حول تعريف الشعوب بعضها ببعض ، وليس عن أي أمر سواه . وحتى اذا اخفقت الشعوب في اقامة علاقات محبة متبادلة فيما بينها ، فإنها ستتعلم في الأقل كيف تتحمل بعضها بعضاً
ان التقدم التكنولوجي ، وخاصة في مجال الأتصالات ووسائل الأعلام الحديثة قد ساعد في تقريب ثقافات الشعوب المختلفة وآدابها وفي النضج السياسي والتكامل الروحي على نحو متسارع بمضي الزمن ،.ولا نعني بذلك زوال الحدود الجغرافية أو ابتذال القيم وضياعها ، بل التفاعل الهارموني لكافة القيم .إن الشخص الذي لا يرى في الأدب العالمي سوى سلسلة من المؤلفات الشامخة ، سيدهش للفكرة التي مؤداها إن أدب كل شعب ينبغي أن يجد مكانه ضمن الأدب العالمي
الرابع : الصفات العامة التي يتسم بها تطور آداب مختلف الشعوب والمناطق في جميع العصور : كان مكسيم غوركي أول من أشار الى وجود مثل هذه الصفات حين كتب يقول ” انه لا يوجد ادب عالمي لأنه لا توجد لحد الآن لغة مشتركة بين جميع شعوب الأرض ، ولكن الأعمال الأدبية لجميع الكتاب “مشبعة بوحدة المشاعر والأفكار والآراء الإنسانية العامة . وبوحدة الآمال لأمكانية تحقيق حياة أفضل . ولعل هذا التفسير هو الأقرب إلى الفهم الحديث للمصطلح. ونحن ندرك اليوم بجلاء ان القيم الشعبية والقومية الحقيقية هي في الوقت ذاته قيم انسانية شاملة.
الأدب بين القومية والعالمية :
إن النماذج الأبداعية تصب في شرليين منظومة الأدب العالمي بطرق ووسائل شتى . النتاجات التي تتميز بسماتها الفكرية والفنية العالية ، تتجاوز الحدود الفاصلة بين الشعوب وتصل الى حمهور القراء في البلدان الأخرى ، الذين لم يسبق لهم قراءتها ، والأمثلة على ذلك كثيرة للغاية . الباحثون الألمان ادركوا عظمة شكسبير وشرعوا في الترويج لها على نحو أكثر توفيقاً من زملائهم الأنجليز .ولم يقرأ الناس شعر عمر الخيام – الذي أدهش العالم – الا بعد ظهور ترجمة فيتزجيرالد .
إن معظم الأعمال الأدبية تصل الى القراء عن طريق الترجمة ، وثمة علاقة واضحة بين الأتصالات الأدبية الدولية النشيطة في أيامنا هذه وبين الأهتمام الساخن بالقضايا النظرية للترجمة الفنية . ولا شك ان النتاجات الأصيلة قد تفقد شيئاً من بريقها بعد ترجمتها ، بيد أن هذا الخطر يظل قائماً في الحالات التي تقرأ فيها من قبل قراء لا يتقنون اللغة التي كتبت بها . ولا شك ان مبدعي الأدب في كل بلد هم الكتاب والمترجمون على حد سواء .
ثمة نتاجات تصبح جزءأ من الأدب العالمي بعد مضي فترة وجيزة من نشرها ، ونتاجات أخرى لا تصبح كذلك ، الا فيما بعد ، وأحياناً في زمن متأخر للغاية ، والبعض منها ينتظر دوره في الوصول الى المجد العالمي ، ولكن دون جدوى ، لأن الوصول الى العالمية يتوقف على أمور كثيرة . ويكاد يكون من المستحيل التنبؤ باللحظة التي يصبح فيها هذا الأثر الأدبي أو ذاك جزءا من الأدب العالمي . ومن السذاجة ربط هذه اللحظة ببعض الحقائق ، كظهور ترجمة لعمل أدبي ما في خارج البلاد أو الإشارة الى الكاتب في هذه المناسبة أو تلك خارج بلاده . وهذه تفصيلات قد تتفاعل وتشكل بداية لولوج الكاتب ساحة الأدب العالمي حين تكون نقطة انطلاق لعملية عضوية حية ولا تظل مجرد حقائق عرضية. في هذه اللحظة فقط يمكن اعتبار العمل الأدبي جزءاً من الأدب العالمي .
ان الوصول الى العالمية لا يعني البقاء فيها الى الأبد .فعلى سبيل المثال نرى أن اناتول فرانس دخل الأدب العالمي منذ البدء ، بينما نراه في العقود الأخيرة يلفظ خارجاً ليحتل المرتبة الثانية . وكذلك جورج ويلز ، الذي لم يلق في بداية الأمر صعوبة في دخول الأدب العالمي ، ولكن أين موقعه اليوم ؟ أنه في الواقع خارج إطار هذا الأدب . وعلى هذا النحو نرى ان مدى الإعتراف بكاتب ما قد يتعزز أو يتراخى ، بل وقد ينقطع لفترة قصيرة أو الى الأبد . الكاتب الذي يظل حياً في الأذهان هو الذي تصمد أعماله الأبداعية أمام الزمن وتعاقب الآراء والأجيال واجماعها على قوة هذه الأعمال وفرادتها .
ومما لا ريب فيه ان عزلة الأدب القومي عن الآداب الأخرى يؤدي الى تأخره ، والنجاحات التي حققتها الآداب القومية عبر التأريخ كانت بفضل اعتمادها على الإقتباس من الخارج واستيعاب وهضم وتمثل هذا الإٌقتباس من اجل تحقيق أكبر قدر من التعبير الذاتي بمعونة الآداب الأخرى أو في الصراع ضدها .
ان مكانة الدولة في العالم ونفوذها السياسي والأقتصادي وعدد سكانها ومدى انتشار لغتها ، تلعب دوراً كبيراً في الأعتراف العالمي بكتابها الذين يعكسون حياتها الروحية في نتاجاتهم. أما آداب الشعوب الصغيرة واللغات قليلة الإنتشار ، فإنها تحتل مواقع أسوأ بكثير نسبياً من آداب الشعوب الكبيرة ، واللغات واسعة الإنتشار من حيث الأعتراف العالمي بها .
ليست ثمة آداب عالمية متعددة ، بل أدب عالمي واحد على الرغم من ذيوع رأي خاطيء يقول بوجود هوة بين ما يسمى ” الروح الأوروبية ” من جهة وبين ” الروح الآسيوية ” أو ” الروح الأفريقية ” من جهة أخرى . ان الذين يعتنقون هذا الرأي يعالجون وضعاً تأريخياً معيناً ويتناولونه كوضع ثابت لا يتغير بمضي الزمن .وبالطبع فان هذا لا يعني ان الأدب العالمي وحدة يسودها الأنسجام ، فثمة أمر واضح هو تشابه آداب مجموعة من البلدان من حيث التعبيرعن العالم الروحي اشعوبها . فعلى سبيل المثال نجد ان آداب بلدان أوروبا الشرقية أكثر تشابهاً فيما بينها من الآداب الأخرى . والآداب الأوروبية الغربية أو الأميركية الشمالية أو الأسترالية ، هي اليوم أكثر قربا بعضها من بعض من آداب المناطق الأخرى. وكذلك آداب بلدان أمريكا الجنوبية المدونة باللغة الأسبانية ، فإنها تتأثر كثيراً ببعضها البعض, وهذا التأثير أعمق من القشرة اللغوية . بيد أن تباين ظروف الحياة يؤثر أيضاً وعلى نحو شديد في نحت ملامح كل أدب من هذه الآداب ، وتحديد السمات التي يتصف بها .
ان اهتمام الجماهير في شتى أرجاء العالم بنتاجات اتجاه أدبي معين – كالواقعية السحرية مثلاً – أو بظاهرة سياسية ما – كالإسلاموفوبيا في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية –يمارس تأثيراً قوياً في عالمية الأدب ، ونعني بذلك ، الدور الملهم للنجاح في التعبير الفني القوي عن روح العصر .