القسم العاممجلة الحوار

مِن ينابيعِ السلامِ إلى جريمةِ «نبعِ السلام»

أسرة الَّتحْرِيرِ

الافتتاحية

مجلة الحوار – العدد /83/ – السنة 31 – 2024م.

يتوصّلُ الدارسُ لتاريخِ منطقتِنا عموماً، ومنطقةِ سري كانييه/رأس العينِ بشكلٍ خاصّ، إلى نتيجةٍ واضحةٍ تتلخّصُ في أنّ المدنَ والأريافَ المزدهرةَ فيها قد نشأتْ كثمرةٍ للتعايشِ والتسامحِ وحُسنِ إدارةِ التنوعِ المجتمعيّ، في حين أنّ انكماشَ العمرانِ واندثارَ الأريافِ، فضلاً عن خرابِ المدنِ، كان وما زالَ نتيجةً لسيادةِ خطابِ الكراهيةِ وممارسةِ سياساتِ العنفِ والإقصاءِ.

لقد تراكمَ على أرضِ شمالِ منطقةِ الخابورِ والبليخِ إرثُ حقبٍ زمنيةٍ موغلةٍ في القدم؛ فمنذ العصورِ الحجريةِ بدأت تتّضحُ فيها ملامحُ الحياةِ الاجتماعيةِ، وازدانتْ بالتجمعاتِ السكنيةِ الأولى فالقرى والمدن، ولعلَّ من أهمّ المواقعِ والأماكنِ التي وُلدتْ فيها المدنُ المزدهرةُ وعواصمُ الممالكِ القديمةِ هي جغرافيةُ مدينةِ رأسِ العينِ الحالية.  فمن عاصمةٍ للمملكةِ الحورية – الميتانية (واشوكاني) في أواسطِ الألفِ الثانية ق.م، إلى جوزانا عاصمةٍ للمملكةِ الآراميةِ التي قامت على أنقاضِ سابقتها في أواخرِ الألفِ الثانية ق.م، إلى مدينةٍ مزدهرةٍ أوائلَ العهدِ الإسلاميّ.

توفّرتْ في تلك البيئةِ الطبيعيةِ – المكانِ والبيئةِ الاجتماعيةِ – أهمُّ شروطِ تطوّرِ الحياةِ المادية، وهو وفرةُ المياهِ العذبةِ الغزيرة. لقد تضافرَ شرطُ وفرةِ المياهِ والأرضِ الخصبةِ مع أهمّ شرطٍ لنموِّ الحياةِ الاجتماعيةِ، وهو روحُ التعاونِ والتسامح، فازدهرتْ الحياةُ الاقتصاديةُ وتنامتِ الحياةُ الثقافيةُ والروحية، ما أدّى إلى توطينِ الديانةِ المسيحيةِ فيها لأمدٍ طويل.

خصَّصْنا هذا العددَ من مجلَّةِ «الحوار» لتسليطِ الضوْءِ على مأساةِ احتلالِ منطقةِ رأسِ العينِ من قِبَلِ جيشِ الدولةِ التُّركيَّةِ وأتباعِهم من مُسَلَّحين يحملون الجنسيَّةَ السُّوريَّةَ، تُطلِقُ عليهم تُركيا وقطر وحُلَفاؤُهما تسميةَ «الجيشِ الوطنيِّ السُّوريِّ»، للتذكيرِ بالكارثةِ من جهةٍ، وللكشفِ عن تناقضِ فعلِ الاحتلالِ مع خاصِّيَّةِ سِلْمِيَّةِ مجتمعاتِ المنطقةِ من جهةٍ أُخرى؛ وفي المُحَصِّلةِ، للكشفِ عن جانبٍ من الفعلِ السياسيِّ والعسكريِّ المُشينِ للدولةِ التُّركيَّةِ وأزلامِها، الذين أعادوا المنطقةَ إلى زمنِ الحروبِ والصراعاتِ القَبَليَّةِ وتجريفِ المجتمعاتِ الآمِنةِ الرَّاسِخةِ، خاصَّةً بعد احتلالِهم العسكريِّ للمنطقةِ في تشرينَ الأوَّل/ أكتوبر سنةَ 2019، تحتَ تسميةٍ مُفارِقةٍ هي عمليةُ «نبعِ السَّلام»، المُناقِضةِ تماماً للواقعِ على الأرضِ وأهدافِ الاحتلالِ التُّركيِّ، وبذرائعَ واهيةٍ، منها حمايةُ الأمنِ القوميِّ لتركيا من تهديداتٍ مزعومةٍ وغير موجودةٍ على أرضِ الواقعِ، حيثُ لم يكن هناك أيُّ تهديداتٍ لتركيا أو اعتداءٌ على الأراضي التُّركيَّةِ من الجانبِ السُّوريِّ، والعكسُ كان صحيحاً منذُ بدءِ الأزمةِ السُّوريَّةِ إلى اليوم، إذ كانت الأراضي التُّركيَّةُ مُنطَلَقاً ومعسكراً كبيراً للتدريبِ والتوجيهِ تحتَ يافطاتٍ شتَّى، مروراً بسياسةِ البابِ المفتوحِ مع جهادييّن مُتطرّفين من شتَّى بقاعِ العالمِ للتجمُّعِ في سوريا، والتواطؤِ مع «الدولةِ الإسلاميَّةِ- داعش» وجِيرةٍ طيِّبةٍ للغايةِ معها لسنواتٍ، وصولاً إلى الاحتلالِ العسكريِّ المباشرِ لأراضٍ واسعةٍ في الشمالِ السُّوريِّ.وفيما خصّ منطقة سري كانيه/ رأس العين، فقد عانَت مُبكِّراً من اجتياحِ جماعاتٍ مُسَلَّحةٍ انطلقت من داخل الأراضي التركية في نوفمبر (تشرينَ الثَّاني) العامِ  2012، و تمَّ توجيهُها تُركيّاً بإزالةِ الأسلاكِ الحدوديَّةِ الشَّائكةِ وفتحِ البوَّابةِ الحدوديَّةِ بإشرافٍ مباشرٍ من الجيشِ والمسؤولين الأتراكِ، لخلقِ فَوْضى وافتعالِ أزماتٍ والهجومِ ضدَّ المنطقةِ والسِّلمِ الأهليِّ فيها، ودونَ رغبةِ أهلِها وحراكِها السِّلميِّ.

يتضمّن العددُ دراساتٍ تاريخيةً للتذكيرِ بماضي المنطقة، وكذلك مقالاتٍ وتقاريرَ وشهاداتٍ تسلّطُ الأضواءَ على جوانبَ من الانتهاكاتِ الخطيرةِ لحقوقِ الإنسان التي تُرتكبُ إثرَ العدوانِ والاحتلالِ المستمرَّيْن منذ خمسةِ أعوام، والتي شَمَلَتِ استيلاءً واسعاً على أراضي الأهالي – والكردِ منهم خصوصاً – وممتلكاتِهم وتهجيرَهم قسراً وتغييرَ ملامحِ المدينةِ بالتتريكِ وربطَها إدارياً بولايةِ  «شانلي أورفا» التركيّة، وتمكينَ الجماعاتِ المتطرّفةِ العاملةِ بإمرةِ الاحتلالِ على حسابِ أهالي المنطقة، في استراتيجيةٍ هادفةٍ وبعيدةِ المدى نابعةٍ من السياساتِ التوسعيةِ العدوانيةِ للدولةِ التركية إزاءَ الكرد وسوريا على حدٍّ سواء. يكفي القولُ إنه لم يبقَ في منطقةِ «نبعِ السلام» التركيةِ المزعومةِ سوى أقلَّ من خمسينَ شخصاً كردياً معروفينَ بالاسم من مجموعِ عشراتِ الآلافِ من سكّانِها الكرد، مسلمين وإيزيديّين، قبلَ الاحتلال، كما أُخليتْ عشراتُ القرى تماماً، وفرَّ منها السريانُ والأرمنُ وكذلك قسمٌ غيرُ قليلٍ من السكانِ العرب، أما منطقةُ «تل أبيض» المشمولةُ هي الأخرى بشرورِ «نبعِ السلام»،  فباتتْ خاليةً من سكّانِها الكرد.

إنها فلسفةُ وعقيدةُ «نبعِ السلام» التركية، وقبلها « غصنُ الزيتون»، التي أفصح عنها الرئيسُ التركيُّ، رجب طيب أردوغان، علانيةً عشيّةَ الغزو، حيث عرض خريطةَ المناطقِ «الآمنة» المزعومة على منبر الأمم المتحدة بتاريخ 24/9/2019، لتشملَ كاملَ الشريطِ الحدوديِّ وبعمقٍ يزيدُ عن 30 كيلومتراً داخلَ الأراضي السورية. ويعني هذا، فعليّاً، احتلالاً عسكريّاً لأراضي دولة جارة، وتهجيراً للأكرادِ من سائرِ مناطقهم في سوريا، وتفكيكَ المجتمعاتِ الكرديةِ في شمالِ سوريا بالكامل، والاستحواذَ على مساحاتٍ شاسعةٍ من الأراضي السورية، وإعادةَ رسمِ الحدودِ التركية – السورية، بالقوةِ العسكريّة.

نحنُ إذًا أمامَ سياسةِ استئصالٍ وتطهيرٍ عِرقيٍّ، وإعادةِ تشكيلٍ للمجتمعِ وفقَ هندسةٍ اجتماعيةٍ – سكانيةٍ جديدة، وجريمةٍ ضدَّ الإنسانية، لا تقبلُ أيَّ تأويلٍ آخرَ أو تبرير. وهي ليست نتيجةً ثانويةً للمعاركِ العسكريةِ وحسب، بل تجسيدٌ واقعيٌّ لسياساتٍ تركيةٍ مُمَنْهَجة.

تُعَدُّ الموادُّ المدرجة في هذا العدد شهاداتٍ على تأكيدِ صحةِ المسارِ السلميِّ الذي اتبعته مجتمعاتُ المنطقةِ المنتجةُ والمحبّةُ للتعاونِ والتضامن، وهي في الوقتِ نفسهِ تنديدٌ ورفضٌ للمسارِ العدوانيِّ لقوى الاحتلالِ التركيِّ الساعيةِ لضربِ تنوعِ وخصوصيةِ مجتمعاتِنا المسالمةِ الراسخة.

وعلى الرغم من سطوةِ وظلاميّةِ قوى الاحتلالِ، ستظلُّ المنطقةُ بأرضِها ومجتمعاتِها واحدةً من أهمِّ تجاربِ الازدهارِ والاستقرارِ والتعايشِ السلميِّ في سوريا الحديثة. ويبدو أن الاحتلالَ وأدواتَه من المُعتاشين على السلاحِ والنهبِ والغزو جاءَ لضربِ هذه التجربةِ وطيِّ صفحتها المشرقةِ في تاريخِنا، وإمحاءِ هذه التجربةِ الرائدةِ من ذاكرةِ الأجيال. ولكن الفشلَ المحتومَ سيكونُ مصيرَ الاحتلالِ وأعوانِه وسياساتِهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى