الافتتاحية
مجلة الحوار- العدد /82/- السنة 30 – 2023م
الآثار الكارثيّة للحرب السورية الداخليّة لم تقتصر على الإنسان والمجتمعات، إنّما تخطّتها لتدمّر الآثار الماديّة واللامادية، كما طالت الطبيعة والغابات، وخرّبت الحياة الزراعيّة فالبساتين والكروم. ولعل أسوأها كان انهيار القيم الأخلاقية وسيادة ثقافة الحرب والارتزاق وسلب المنشآت العامة والخاصة، وصولاً إلى قطع الأشجار المثمرة وتحطيب الغابات. ولقد كانت حقول أشجار الزيتون أحد أهداف السلب والتخريب، وخاصة في منطقة جبل الكورد – عفرين، التي تشكل المستودع الأساسي للذهب الأخضر والصناعات المرتبطة بالزيتون في سوريا، وربما كل منطقة شرق البحر المتوسط.
لقد تعرّضت منطقة عفرين لحرب مزدوجة كانت آخرها وأسوأها غزو القوات التركية مع مرتزقتها من مجاميع المسلّحين والإرهابيين المنضوين تحت مسميات متعددة. ومن بين كل الجرائم التي ارتكبوها منذ مطلع سنة 2018 بحق الإنسان والبنية التحتية والآثار والبيئة تظل عمليات السلب والحرق والتخريب والاستغلال لحقول الزيتون هي التي تثير دهشة المتابعين، حيث تتعارض مع أبسط القيم الأخلاقية من دينية واجتماعية، فضلاً لمخالفتها القوانين والأعراف الدولية، ولوائح الأمم المتحدة للحفاظ على البيئة والتراثين المادي والمعنوي للمجتمعات المحليّة أثناء الحروب والنزاعات.
وما هو مستغرب أن السلطات التركية أطلقت على عملية العدوان والغزو تسمية (غصن الزيتون) وكأنها خططت منذ البدء لتقتلع شجرة الزيتون، رمز السلام والإنتاج والجمال، من جذورها بعكس ما يوحي الاسم من دلالات.
ما فعلته الدولة التركيّة المحتلّة وعملاؤها بحق الغطاء النباتي في جبل الكرد وزيتون عفرين والقطع الجائر لغاباتها الحراجية الكثيفة وأشجارها المعمّرة سيخلّف آثاراً مديدة، ويهدّد التنوع البيئي-الإحيائي في تلك المنطقة وأصنافاً نادرة من الطيور والحيوانات الأليفة كذلك. ناهيكم عن السرقة الموصوفة لأرزاق الناس العزّل بقوة السلاح. وتقول تقديرات موثوقة أنه تم تدمير أكثر من 60% من الغطاء النباتي في المنطقة، بين أشجار مثمرة – زيتون وغيرها – وغابات حراجيّة واصطناعيّة، خلال السنوات الست العجاف من عمر الاحتلال التركي للمنطقة؛ الأمر الذي يرقى إلى إبادة بيئيّة موصوفة.
وإذا صحّ أنّ هناك حياة سريّة أو خفيّة للأشجار كما يقول مهتمون ومختصّون (راجع المقال المدرج في هذا العدد) فنحن نعتقد بعلاقة سريّة مماثلة بين أشجار الزيتون وأبناء جبل الكرد – عفرين، التي تتجاوز علاقة الإنسان بمصدر رزقه وحسب، بل هي علاقة الإنسان بالمكان وتاريخه ومع ذاكرته، وهي عزيزة على قلوب الأهالي كجزء من حيواتهم وذاكرتهم العائليّة والمجتمعيّة، مؤمنين كذلك بأن ذاكرة الزيتون تحفظ وجوه القَتَلَة الطارئين في الصندوق الأسود لجبل الكرد الأشمّ.