مثلت البابوية سلطة دينية صلبة طوال قرون عديدة، وتحالفت بشكل وثيق مع أشكال الحكم الفردي والسلالي عبر التاريخ، حتى واجهت الديمقراطية والعلمانية والتداول السلمي للسلطة في المراحل المتأخرة من تاريخ أوربا، ثم تحولت الى قوة مرنة ناعمة. لكن تجسدت مفارقة التحول في السنوات الأخيرة في عملية تخلي البابا بنديكتوس السادس عشر عن البابوية طوعاً، فشكلت صدمة، لأنها مثلت حالة تقمص بابوية صريحة لممارسة الديمقراطية. حتى انعكس على حادث وفاته في الأيام الأولى من سنة 2023، فعوم الحدث غير المسبوق معه سلوكيات جديدة خارج التقاليد الكنسية، وخاصة اجراءات الجنازة التي قام بها، وترأسها البابا الحالي في سابقة نادرة. إذ جرت العادة أن يدفن البابا، ثم يتم الانتظار حتى ينتخب بابا جديد على رأس الكنيسة الكاثوليكية. إذ لم يكن وارداً أن يلتقي بابا قديم وآخر جديد وهم أحياء. أضافت استقالة بنديكتوس السادس عشر وهو على قيد الحياة للسلطة البابوية مسحة ديمقراطية، أكثر مما تتسم به نظم علمانية مستندة في شرعيتها إلى النظام الليبرالي الانتخابي. هذا ما ظهر وتفجر في عملية تمترس رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق دونالد ترامب، إذ لم يتخلى عن السلطة طوعاً وافترض مسبقاً أن الانتخابات مزورة قبل الانتهاء من العملية الانتخابية. حدث ذلك في سياق مفارقة تاريخية لتبادل المواقع والأدوار. فكلاهما، ترامب والبابا من أصول ألمانية، لدرجة أن احتفت بلدة البابا بنديكتوس الأصلية في ألمانيا بوفاته وثمنت سلوكه وسيرته، في حين رفضت قرية أجداد ترامب في ريف غرب ألمانيا استقباله. هذا وقد كرر أنصار رئيس البرازيل المهزوم في الانتخابات الأخيرة بولسنارو نفس المشهد المسرحي لأنصار ترامب عندما قاموا بالهجوم على الكونغرس في العاصمة برازيليا، وذلك لمنع الرئيس اليساري لولا دا سيلفا الفائز في الانتخابات من ممارسة مهامه.
إن تبادل الأدوار بين منظومات السلطات الوراثية والديمقراطية، بالتوازي مع اضطراب السلوكيات الديمقراطية باتت الظاهرة السياسية الأكثر انتشاراً في عصرنا. فتمسك ترامب وانصاره بالحكم خلافاً لإرادة الناخبين شكل صدمة للمجتمعات القانونية المدنية والديمقراطية، بنفس القدر انسحبت الحالة على الاجراءات الصعبة لانتخاب رئيس الكونغرس الأمريكي طوال الأسبوع الأول من سنة 2023، حتى تم انتخاب مكارثي الجمهوري بصعوبة بسبب تعنت، وممانعة تيار ترامب في الحزب الجمهوري. وبإلقاء نظرة خاطفة على عشرات الحالات الدكتاتورية السافرة والعارية، وتلك المتخفية في العالم المعاصر، فان المشهد السياسي العالمي العام لا يوحي بتقدم الثقافة الديمقراطية، ولا يبشر بترسخ ثقافة الحكم المدني الرشيد داخل المجتمعات المعاصرة.
بين هذه الحالة وتلك، بات عالمنا المعاصر يفيض بنماذج معادية للديمقراطية، التي ترفض التداول السلمي للسلطة، فالعديد من هذه الممارسات تعبر في طياتها عن تضخم الظاهرة السلطوية، وابتلاعها لكثير من القيم الديمقراطية، ومبادئ العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص. حتى بات التداول السلمي للسلطة مسألة صعبة، لدرجة تطلبت في أمريكا سنة 2020 الاستعانة بحوالي عشرين ألف مسلح من قوى الأمن. أما في مناطق أخرى من العالم تجري أنهار من الدم، وتتراكم جثث الأبرياء لسبب وحيد، وهو عدم تخلي الحاكم الفرد عن السلطة وأدوات الحكم.
لكل هذه الأسباب، فإن العديد من الحالات المشابهة تشجع على الافتراض بأن الديمقراطية الليبرالية قد فشلت في ترسيخ القيم السلمية المدنية، كما فشلت في تثبيت ثقافة انتقال السلطات بسلاسة، حيث تواجه الليبرالية انسداداً شديداً في مسار التطور السياسي للحوكمة المعاصرة، وخاصة خارج العالم الأوروأمريكي. لأنه في آسيا وأفريقيا من الصعب إحصاء عدد الدكتاتوريات والقادة المدنيين والعسكريين، وحتى الإداريين المتشبثين بكرسي الحكم أو المنصب الاداري. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أعلنت قبل عدة أشهر وزارة الداخلية في غينيا الاستوائية فوز الرئيس المنتهية ولايته تيودورو أوبيانغ نغويما مباسوغو الذي يحكم البلاد منذ أربع وأربعون سنة بالانتخابات الشكلية التي جرت فيها. علماً أنه أحد عمداء الدكتاتوريات في العالم، اذ يبلغ من العمر اثنان وثمانون عاماً، كما هو ثاني أقدم رئيس لأفريقيا، وهو أيضاً محبب ومقرب من الادارة الأمريكية، إذ تعد الولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أقوى الداعمين الدبلوماسيين والماليين لأوبيانغ، على الرغم من أنه ومنذ ما يقرب من نصف قرن يمارس انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، حتى سلب شعب غينيا الإرادة الحرّة.
وعلى العكس من حالات الدكتاتورية الصريحة في أفريقيا، نصادف في سياق النجاحات الآسيوية حالة ولع بالسلطة عند شخصية مدنية، كان يفترض بها أن تتجنب الانجراف نحو مغانم السلطة، وهو رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد الذي خاض الانتخابات الأخيرة عندما بلغ من العمر 97 عاماً أواخر سنة 2022، بهدف العودة مجدداً إلى كرسي الحكم. لا شك أن مهاتير محمد يعد أحد القادة الآسيويين الذين نجحوا في إدارة دولاب اقتصاد بلادهم وتسريعه نحو التنمية وتحقيق الرفاه، لكنه دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية ليس من هذه البوابة، وإنما لكونه أكبر رئيس وزراء كان في المنصب عندما انتخب سنة 2018 لولاية جديدة. ويبدو أن تاريخه لم يشفع له، كأحد الشخصيات السلطوية الناجحة على الصعيد العالمي، والذي أمضى ثلاث وخمسون سنة في كرسي الحكم، حقق خلالها نجاحات كبيرة لدولة ماليزيا. يعد أكبر رجل ظل فترة طويلة في أعلى هرم السلطة التنفيذية كرئيس للوزراء، اذ لم يتجاوزه أحد في مدة الحكم كرئيس للوزراء في باقي حكومات العالم. كما اتصف بأنه أكبر رجل ظل ينافس على كرسي رئاسة الوزراء وهو على وشك أن يبلغ المئة سنة من العمر. ليس ثمة أي تفسير لسلوكه وحافزه للترشح سوى أنه لم يكتفي، ولم يتشبع من استنشاق اوكسجين السلطة. لكن على ما يبدو أن الهستيريا وجنون العظمة الذي يولده النجاح أحياناً، قد لا يختلف عن خصائص الاستبداد والدكتاتورية العارية، لدرجة أن حالة الولع بكرسي الحكم سببت خيبة أمل كبيرة لكل الأطراف، حتى رد الناخب – المواطن الماليزي على جنون عظمة مهاتير، في عدم الاستجابة لطموحه المزمن للبقاء في الكرسي، وبالتالي خسر مقعده في دائرة لانكاوي في البرلمان.
في موازاة عالم المناصب التنفيذية ثمة حالة تشريعية نادرة قد تدخل سجل غينيس أيضاً، وهي حالة رئيس مجلس النواب اللبناني، الذي مازال في كرسيه أيضاً منذ نصف قرن، حتى لم يعد أحد من المعاصرين يعلم من كان يشغل هذا الكرسي قبله، سوى المؤرخين المختصين!
- ملوك السلطوية الجديدة
نستنتج من هذه الحالات والنماذج العديدة والغريبة، ونعيد قراءة رمزيتها باختصار: أن البنى السياسية المعاصرة قد أفرزت حالة من الولع بالسلطة متعددة الأوجه والمستويات، هي حالة عابرة للأعمار والثقافات. لقد أنتجت طبقة سياسية أشبه بملوك السلطوية، ليس لهم القدرة ولا حتى إمكانية تصور ترك كرسي الحكم، لدرجة أنهم في كثير من الحالات يعملون على توريثها (انتخابياً) لأبنائهم. ويبدو أن مغانم السلطة في عالمنا الاستهلاكي المعاصر هائلة الحجم ومتنوعة، لدرجة أن كرسي السلطة يتقمص بل يستعبد جالسه، ويعيد صياغة وتوليف سيكولوجية عائلة الحاكم بأسرها لتنسج علاقة ولع حميمية مع الكرسي. بحيث طغت هذه الظاهرة السلطوية الجديدة على باقي سلوكيات هذه النخب، بل طغت على باقي سمات عالمنا المعاصر، وتحولت السلطوية إلى ثقافة سياسية واسعة الانتشار، تعولمت تماماً في ظل النظام الليبرالي، فلم تعد (السلطوية الجديدة) ظاهرة مرهونة ومستوطنة بين طيات ثقافة أنظمة الاستبداد العاري فقط، وليست منتجاً يخص العوالم المتصارعة بعنف خارج أوربا وأمريكا، بل باتت هذه السلطوية الوجه الآخر للفساد الإداري والسياسي، وهي في الوقت نفسه مرض مزمن من أمراض الاجتماع البشري في هذا العصر، حتى تحولت إلى فيروس يصيب مجتمعات وأجيال بكاملها. لأنها ليست مرهونة ومتوقفة على الولع بالمناصب العالية، ولا مرتبطة بامتيازات كبيرة فحسب، بل أضحت حالة تلازم المجتمعات في كثير من المواقع والمستويات المتدنية. ولعل أسوأ حالاتها ما أصابت تلك الجماعات المنظمة التي ادعت الثورية والاشتراكية، كما ادعت وروجت لاحقاً للنضال في سبيل الحريات وحقوق الإنسان، والتداول السلمي للسلطة. فكم صادفنا وقد نصادف شخصيات هنا وهناك، ظلت تصرخ باستمرار في سبيل التغيير والديمقراطية، لكنه ظل ملتصقاً لمدة طويلة بكرسي اعتباري قد لا يدر مالاً ولا امتيازات.
موضوعياً السلطوية الجديدة المستفحلة هي نتاج النظام النيوليبرالي المهيمن عالمياً، وهي ابنة النظام الاجتماعي المختل، غير العادل. كما أن للسلطوية علاقة معقدة بخلجات النفس البشرية وفردانيتها المتأزمة، فهي مرتبطة بوشائج وثيقة مع الدوافع النفسانية المضطربة؟ كالخوف من الحياة بعيداً عن منصة صناعة القرارات، وهي في الوقت نفسه نتاج فوبيا الموت بعيداً عن الكرسي. متعلقة بالخوف من النهايات، وكذلك التوجس من الموت البريء، الموت كإنسان ومواطن غير حاكم! أياً كانت صيغة الحكم، أو شكل الكرسي، مردوده أو طراز زخرفته.
———-
- باحث أكاديمي كوردي. مؤلف كتاب: أي الديمقراطيات تناسب كوردستان. (أربيل 2018)
* جريدة الوحـدة – العدد /343/- 14 آب 2023م – الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).