باحث أثري
مجلة الحوار – العدد /79/ – السنة /29/- 2022م
لعبت المرأة الأوركيشية دوراً مهماً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والإدارية خلال الألف الثالث ق.م، وبرزت أسماء من داخل القصر الملكي لسيداتٍ كانت لهنّ اليد العليا خلال فترة حكم أزواجهن للمدينة، كما توضح الأختام المكتَشفة في أوركيش (تل موزان)[1] وطبعاتها التي حملت أسماء أصحابها، كتلك العائدة للملكة أوقنيتوم Uqnitum وتلك العائدة للملكة تارام أكادا Taram Agade وأيضاً للمربية (الحاضنة) زامينا Zamina وللطباخة (رئيسة الطباخين) تولي Tuli. لعلّ الدور الأبرز كان لأوقنيتوم زوجة الملك الحوري توبكيش ) Tupkish الربع الأخير من الأف الثالث ق.م) ويحمل اسمها معاني آكادية[2] وتعني Lapis Lazuli girl أي فتاة اللازورد.
ويُعتقد أن «توبكيش» قد تزوجها ضمن سياق المصاهرات السياسية والدبلوماسية التي كانت دارجة خلال الألفين الثالث والثاني ق.م كما تزوج خليفته فيما بعد بتارام أكادا ابنة الملك الأكادي نارام سين حفيد شروكين (سرجون) وكانت تلك المصاهرات من شأنها أن تؤدي إلى تمتين العلاقات وأواصر القربى بين الممالك المتواجدة في تلك الفترة وإن كانت مؤقتة.
عثرت البعثة الأمريكية العاملة في «تل موزان» على عشرات الأختام[3] وطبعاتها العائدة للملكة أوقنيتوم ضمن الجناح الخدمي المكتشف؛ حيث غرف الخزن والمطبخ والمستودعات.
وكانت هذه الأختام صغيرةً من الحجر وبارتفاع يصل إلى نحو 2سم وتحمل مشاهد وصوراً تدلُّ على أدوارها المتنوعة داخل القصر الملكي، وغالباً ما كانت تلك الطبعات موجودة على الجرار والصناديق والسلال والحقائب والحوايا والأبواب.
يبدو أن أوقنيتوم كانت مسؤولة عن اقتصاد المملكة خلال فترة حكم زوجها توبكيش، حيث أن البضائع أو المزروعات التي كانت تزرع في أراضي المملكة أو المناطق المجاورة التي كان يتم شحنها للقصر؛ كانت تمهر بختم الملكة وكانت تخزن في مستودعات عائدة لها داخل القصر، حيث أنه من ضمن 123 من الأختام المكتشفة أو طبعاتها كُتبَ عليها عبارة «الملكة/ NIN أو «أوقنيتوم زوجة توبكيش/ DAM TupkiŠ “ أو أسماء أشخاص مرتبطين بخدمتها.
كان أشخاص ينوبون عن الملكة في تخزين البضائع في القصر، وعملاءٌ كانوا يعملون لصالح الملكة في الخارج، وكان هؤلاء يشرفون على شحن المواد للقصر، وبالتالي كانت هناك شبكة واسعة من الموظفين والعاملين سواء داخل القصر أو خارجه والمدينة إما في مجال الزراعة أو التجارة، وكان هؤلاء – كما ذكرنا – تابعين مباشرة للملكة أوقنيتوم أو يعملون تحت إمرتها[4] وكان معظم العمال والموظفين وناقلي العربات على معرفة بوجود ختمها على البضائع.
شخصية أوقنيتوم القيادية ودورها المميز في القصر قد يكون نابعاً من البيئة التي عاشت فيها في السابق قبل مجيئها لأوركيش، أو قد يكون في الغالب نتيجة استقلالية المرأة في أوركيش وتحررها وبالتالي انفتاح الملك توبكيش والمسؤولون البارزون في القصر على الملكة الجديدة وتقديمهم للتسهيلات اللازمة لبروز شخصيتها.
من الأختام التي تعكس دورها.. جلوسها بمحاذاة زوجها برفقة أولادها دون تأخير أو تقديم في مشهد عائلي (الشكل رقم 1) بنفس الحجم والسوية وعلى كرسي مشابه، وهو مشهد من النادر وجوده في الفن الميزوبوتامي، ويستَدل من المشهد أنها لا تقل مرتبة عن زوجها، وعلى عنصر التشاركية في إدارة الحكم، كما إنه يعكس قوة العلاقة والرابطة الزوجية.
الشكل رقم (1) طبعة ختم للملكة أوقنيتوم تظهر فيها برفقة زوجها وأولادها. الصورة مأخوذة من مقالة منشورة لجورجيو ومارلين بوتشيلاتي 2001.
ودور المرأة في الإدارة وأنها هي المسؤولة عن الأمور اللوجستية والبضائع الداخلة للقصر. كما يستدل على انها الزوجة المقربة والأم لحكام أوركيش المستقبليين، وبالتالي هذا المشهد كما تقول مارلين كيلي بوتشيلاتي «يمثل رسالة شخصية وسياسية تتمحور حول أحقية انتقال الحكم إلى الابن كوريث للعرش» بالإضافة إلى أن المشهد يرسخ من مكانتها المرموقة داخل قصر زوجها.
كذلك يوجد طبعة ختم تظهر فيها العازفات إلى جانب صورة لها وللمربية وللوصيفات ولأولادها في مشهد نسائي كامل (الشكل رقم 2) يحمل في طياته عدة دلائل بالإضافة لإضفاء طابع الهيبة على النقش كإظهار جزءٍ من مشاهد الحياة اليومية التي كانت تعيشها الملكة داخل مملكتها، كما أن المشهد يظهر العلاقة القوية التي تربط زامينا المربية مع الملكة بشكلٍ خاص والقصر بشكل عام ويوضح الدور الذي لعبته زامينا كإحدى الشخصيات النسائية القوية ضمن القصر.
الشكل رقم (2) طبعة ختم للملكة أوقنيتوم تظهر فيها برفقة ابنتها و زامينا ووصيفاتها إلى جانب العازفات. الصورة مأخوذة من مقالة منشورة لجورجيو ومارلين بوتشيلاتي 1997.
زامينا المربية Za-me-na (Um-me-da) وهو اسم حوري، ارتبط اسمها بالعناية وتربية أفراد الأسرة الحاكمة كما هو واضح من خلال النقوش الظاهرة في الأختام العائدة لها حيث غالباً ما تظهر بنفس ارتفاع الأطفال (الشكل رقم 3)، وهي من الشخصيات المقربة من الملكة وكانت لها امتيازاتٌ وصلاحياتٌ داخل القصر وكانت على علمٍ بكل التفاصيل المتعلقة بالقصر فيما يخصُّ أمور الإدارة العائدة للملكة أوقنيتوم[5].
الشكل رقم (3) طبعة ختم للمربية زامينا تظهر فيها برفقة الملكة وابنها مع إحدى الوصيفات. الصورة مأخوذة من مقالة منشورة لجورجيو ومارلين بوتشيلاتي 1997.
كانت زامينا تشرف على تربية الأولاد وتلقنهم الثقافة الحورية[6] كاللغة وغيرها، فيما كانت الطباخة تولي Tuli – وهو اسم يحمل معاني حورية أيضا – والتي حملت هي الأخرى أختاماً باسمها (الشكل رقم 4) وهي من المقربات للملكة أوقنيتوم، كانت تشرف على أمور الوجبات ونوعيتها لغاية تتعلق بالاهتمام بالأطعمة التقليدية والعادات المتعلقة بآداب الطعام الحوري[7]، وبالتالي المحافظة عليها وتقديمها لاسيما في الاحتفالات والمناسبات الدينية والسياسية.
الشكل رقم (4) طبعة ختم لرئيسة الطباخين تولي. الصورة مأخوذة من مقالة منشورة لجورجيو ومارلين بوتشيلاتي 2001.
يوجد طبعة ختم يظهر فيها انتاج الحرف المتعلقة بالفخار (الشكل رقم 5)، حيث تظهر فيها امرأة وهي تعمل على تصنيع نوع من الجرار الفخارية وهذا المشهد له دلالة اجتماعية واقتصادية ضمن المدينة وخارجها بالنسبة للمجتمع الأوركيشي، وقد وجدت نماذج من الفخاريات التي كانت تصنع في أختام عائدة للملكة أوقنيتوم. يعتقد ان الملكة أوقنيتوم كانت تشرف على الفنانين الذين كانوا مكلفين بصناعة أختامها، ويبدو أنها هي من كانت تقترح شكل الصور والوضعيات والنقوش (الكتابات) التي كانت تدون على الختم[8].
الشكل رقم (5) طبعة ختم تظهر فيها إحدى النسوة وهي تصنع الفخار. الصورة مأخوذة من مقالة منشورة لجورجيو ومارلين بوتشيلاتي 2015.
بدت أوقنيتوم مشابهة لباقي النسوة اللواتي كنّ يظهرن في أختامها من ناحية اللباس وإن كانت لباسها تختلف أحياناً، إلا أن الاختلاف كان واضحاً في ربط وطول الشعر (جدائل الشعر) التي كانت تتميز بها الملكة وبناتها عن باقي النسوة اللواتي كنّ يكتفون بربطة شعر عادية دارجة في تلك الفترة.
لا يوجد في أوركيش دلائل تشير إلى تعدد الزوجات كما أن الزوجة في أوركيش كان لها دور بارز على عكس أوغاريت مثلاً التي كانت الأولوية فيها لأم الملك[9].
مشاهد الأختام تؤكد على الدور المضيء للمرأة داخل أوركيش وبالتالي تؤكد على أن المرأة الأوركيشية كانت مختلفة عن باقي النساء في جنوب بلاد الرافدين وغرب سوريا خلال الربع الأخير من الألف الثالث ق.م وحتى قبلها[10]، كما ان التنقيبات الأثرية التي أجريت في الموقع أظهرت الدور المتنوع للمرأة الأوركيشية لاسيما الملكات منهن وكذلك تنوع المهن والحرف النسائية داخل القصر كما أن أوقنيتوم وحاشيتها كانوا يتمتعون بالسلطة والقوة داخل القصر.
الجدير بالذكر أن الأختام الأسطوانية في أوركيش (تل موزان) لعبت دوراً محورياً مهماً في تسليط الضوء على واقع المدينة وطبيعة شعبها ودورها واسهاماتها الحضارية في تاريخ الشرق القديم في ظلَ ندرة الكتابات والنصوص الحورية المكتشفة في أوركيش حتى هذه اللحظة.
قدمتْ لنا أختام أوركيش وطبعاتها المصنوعة من الطين والحجر، والعائدة إلى فترة الألف الثالث قبل الميلاد بأحجام يتراوح بين ارتفاع 2-3 سم وقطر 2 سم، تفاصيلَ دقيقةً من خلال طرحها لمواضيع كثيرة تعلقت بطبيعة العلاقات الاجتماعية بين الأسرة الحاكمة والحاشية، وأيدولوجية السلالة الحاكمة وفكرة الخلافة والتعاقب على العرش، وطبيعة الاسماء والألقاب الملكية، والمصاهرات السياسية، كما طرحت الأختام مواضيع إدارية كثيرة أظهرت دور المرأة الرئيس في متابعة تلك الأمور ودورها في عملية الاشراف على البضائع وصرفها والتعاون مع أشخاص ينوبون عنها في المراقبة والتسجيل ومن بين تلك المواضيع الإدارية دور مطبخ القصر ونوعية الوجبات وكذلك أمور التربية والعناية بالأطفال.
عالجت الأختام كذلك الكثير من المواضيع ذات الصلة بالميثولوجيا الحورية والآلهة ورموزها ودور الكهنة وواجباتهم تجاه المعبد والمدينة، كما طرحت الأختام مواضيع اقتصادية كثيرة متعلقة بالإنتاج، بالإضافة إلى كل هذه المواضيع قدمت لنا الأختام مادة لغوية من خلال النقوش الكتابية القصيرة ذات الصيغة التعريفية للمشاهد المصورة كما قدمت لنا افكاراً عن نوعية اللباس والهدايا التي كانت تقدم للملك والملكة وللقصر في تلك الفترة.
الهوامش:
[1] تل موزان أو ما يعرف تاريخياً بأوركيش يقع في الطرف الشمالي الشرقي من سوريا ضمن مثلث حوض الخابور العلوي، بالقرب من بلدة عامودا، ويبعد التل عن مدينة قامشلي حوالي 20كم غرباً. يعتبر تل موزان أحد أكبر المواقع الأثرية العائدة لفترة الألف الثالث والثاني ق.م (برونز قديم و وسيط) , وإحدى أولى المراكز الدينية في شمال ميزوبوتاميا. التنقيبات النظامية في الموقع بدأت في عام 1984 من قبل البعثة الأمريكية بإدارة مارلين وجورجيو بوتشيلاتي Marilyn and Giorgio Buccellati، وتمكنت البعثة بعد عشر سنين من العمل المتواصل من اكتشاف هوية أوركيش الحورية وذلك في عام 1995 بعد العثور على طبعة ختم في القصر الملكي كتب عليها توبكيش حاكم أوركيش.
[2] Giorgio Buccellati, 2013, p 85
[3] ترافق ظهور الأختام الأسطوانية مع ظهور الكتابة حوالي أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، وذلك نتيجة لتعاظم الدور الاقتصادي والتجاري والحاجة إلى التوثيق من جهة وظهور الملكية الفردية من جهة أخرى
[4] Marilyn Kelly- Buccellati, 2010 b, p 191
[5] Marilyn Kelly- Buccellati, 2016, p 57
[6] Giorgio Buccellati, 2013, p 85
[7] Giorgio Buccellati, 2013, p 85
[8] Marilyn Kelly- Buccellati, 2010 b, p 191
[9] Pat McDonnel and Samie Twair, 1997, p 9
[10] Marilyn Kelly- Buccellati, 2016, p 60