كان يسكن في حي الأشرفية بمدينة حلب مدرس ابتدائي كردي من إحدى قرى جبل الكورد، وكان محل احترام وتقدير ليس فقط زملائه في محيط عمله من المدرسين والمشرفين ويتمتع باحترام التلاميذ وذويهم وحسب بل وأهالي الحي.
وكما عرفه سكان حي الأشرفية فقد ذاع صيته الطيب بين أهالي الحي المجاور – الشيخ مقصود – الَذَين تُشكل نسبة الكورد القاطنين فيهما الأغلبية الساحقة.
هذه الصفات جعلت منه شخصية المناسبات، واعتاد الناس أن يشاهدونه في واجهة الحياة الاجتماعية في تلك المنطقة الشعبية.
إذ كان القائمين على إقامة حفلات الأعراس والاحتفالات والتجمعات ومآتم العزاء يحرصون على توجيه الدعوة للأستاذ الكوردي المذكور وكان المقعد الأمامي في صدارة الحفل مخصصاً له، فخراً واحتفاءً لمشاركته في هذا المحفل.
مساء أحد أيام الإثنين من الأسبوع قرع باب منزله في حي الأشرفية، ليفاجئ بوقوف شخص أصلع الرأس أجهم السريرة وخلفه رجلان آخران.
وبعد أن أفصح قارع الباب عن هويته وتأكد من هوية الشخص الذي فتح له الباب أنه هو المقصود من الزيارة المفاجئة، مدَّ يده إلى المدرّس وسلمه ورقة صغيرة قائلا: المعلم يريد منك أن تحضر يوم الخميس الساعة 2 بعد الظهر إلى مقرّ الأمن السياسي، ويريد أن يشرب معك فنجان قهوة.
استلم المدرّس الكوردي رسالة التبليغ وبينما يلقي النظر على مضمونها وجّه رجل الأمن إلى الأستاذ قائلاً: أستاذ احضر في الموعد المحدد؛ وأغلق الباب بعد أن استودعه رجل الأمن السياسي.
قرر أن يلتزم بالموعد وأن يكون دقيقاً في الذهاب إلى مقرّ الأمن السياسي في توقيته المحدّد ولم تكن الدقة في الالتزام بالمواعيد أمرٌ جديد في حياته اليومية.
وصل المدرّس إلى مدخل دائرة الأمن السياسي في الموعد المحدد له في رسالة الدعوة وقدّم نفسه للحاجب الذي كان أمام المدخل الرئيسي وبعد أن عرض عليه رسالة الدعوة أشار إليه الحاجب بالصعود، وهناك أوعز إليه شخصٌ آخر بالانتظار ريثما يتم إبلاغ المعلم – رئيس الدائرة، مصطلح المعلم كان يطلقه رجال الأمن على الرئيس المسؤول في الفرع.
لم يطل انتظار المدرّس الكردي حتى خرج شخصٌ من إحدى الغرف متوجهاً إليه، وأشار إليه باللحاق به. صعدا درج المبنى إلى طابق أعلى وعندما وصلا إلى آخر الممرّ قال له مرافقه انتظر هنا. ودخل المرافق الغرفة بعد أن نقر على الباب عدة مرات.
بعد أقل من دقيقة خرج مرافقه قائلاً: تفضل ادخل.
كانت الغرفة واسعة تبدو وكأنها صالة استقبال، يجلس صدر الغرفة خلف طاولةٍ كبيرة شخص أنيق المظهر، نادى قائلا: تفضل أستاذ أستريح، أهلاً وسهلاً. مشيراً إلى مقعد قريب من طاولته.
قابل الأستاذ الكردي الترحيب بالتحية آخذاً مكانه على المقعد الذي أشير له، ولايزال السؤال عن سبب دعوته للحضور إلى هذا المكان يطرح نفسه بإلحاح، ولكن حتى تلك اللحظة لم يصل إلى أية إجابة على هذا اللغز وهو الأستاذ المطّلع على العلوم والثقافة والتاريخ والآداب.
وانقطع تفكيره حول سبب وجوده في هذا المكتب الأنيق على صوت المضيف: شو بتحب تشرب أستاذ؟ قهوة أم شاي…
رد عليه الأستاذ الكردي: اللي بتشربه سيادتك…
أسرع المضيف بالقول: خلينا نشرب فنجان قهوة معك.
وتناول المضيف سمّاعة أحد أجهزة الهواتف المتعددة وطلب فنجانين قهوة سكر قليل.
بعد أن أحضرت القهوة نهض المضيف من مقعده وتوجّه مع فنجان القهوة إلى المقعد المقابل الذي كان قد جلس المدرّس الكردي عليه.
بدأ المضيف حديثه بالقول: أستاذ نحن نعرف كل شيء عنك، كل الناس تمدحك ورغم أنك كردي الأصل إلا أنك مدرّس ناجح ومتفوق حتى على بقية الأساتذة في المدرسة، ونحن نقدرك، ونريد مساعدتك.
ردّ عليه المدرّس الكردي: شكراً سيدي أنا أقوم بواجبي وهذه وظيفتي.
استطرد رئيس دائرة الأمن السياسي حديثه وكأنه لم يسمع رد الأستاذ على إطرائه قائلاً:
أنت تعلم أنه يوجد للأحزاب الكردية نشاطات مريبة في الأشرفية والشيخ مقصود وهم يحاولون نشر التفرقة بين المواطنين ويبثون الأكاذيب والدعايات المغرضة ضدنا وكثير منهم يأخذ تعليماته من جهات خارجية.
وأنا طلبتك للحضور لكي أساعدك إذا تعاونت معنا لخدمة الوطن.
وطلبنا منك بسيط، ولا يكلفك شيء ولا نحمّلك فيه أية جهد، وأنا أدعمك أن تبقى في وظيفتك وجميع من في المدرسة سيبقون على احترامهم لك وسيكبر منصبك في المدرسة.
وأنت تريد أن تسألني عمّا نطلبه منك.
شوف يا أستاذ، كلمة واحدة عليك أن تقولها وأنت في مجالس الأكراد وهي: «كل الأحزاب الكردية كذابه»… غير هيك ما تقول؛ بس في كل عرس أو مأتم والأكراد يدعوك دائما والناس تأخذ كلامك بمصداقية، قلّ هذه الجملة ولا تقول بعدها شيء آخر، فقط كلمة: كل الأحزاب الكردية تكذب؛ هاد هو ما أطلبه منك يا أستاذي العزيز. أليست الأحزاب الكردية تفتري وتخدع وتكذب على الناس البسطاء؟
استمع المدرّس باهتمام إلى كلام مضيفه محدقاً النظر فيه وانتابه شعور بالاستغراب لما سمعه، فرد قائلاً: ياسيدي، أنتم تعلمون أنني لا أنتسب إلى أية حزب ولا أحب السياسة، أنا من بيتي إلى مدرستي ومن عملي إلى بيتي، وهمي الوحيد هو إعاشة عائلتي وأولادي.
ما أن سمع المضيف تعليق المدرّس حتى ارتفعت نبرة صوته محدثاً الأستاذ الكردي قائلاً: اسمع يا أستاذ أنا قلت لك كلام وطلبت منك شيئاً بسيطاً لخدمة وطنك. أرجو أن تعلم جيداً أنني أستطيع أن أفصلك غداً من عملك وستبقى بدون مورد، وتترك عائلتك وأولادك عرضةً للجوع، فهل يهون عليك ذلك؟ قلت لك هذه الجملة: كل الأحزاب الكردية تكذب. وهذا هو ما عليك أن تقوله عندما تحضر الحفلات الكردية وعندما يدعونك إلى مجالسهم، أنت يسمعك الناس ويثقون بك وبكلامك.
بعد أن أدرك المدرّس الكردي جدية ما يعنيه مضيفه وفهم سبب دعوته لشرب فنجان القهوة في مكتبه، لم ير مجالاً للرد على رئيس دائرة الأمن السياسي وفضّل الصمت والسكوت.
ولكن لم يرق للمضيف سكوت ضيفه، فحاول للمرة الأخيرة توضيح ما يكنه له فقال: شوف يا أستاذ، أنا أريد مساعدتك وعليك أنت أن تفهم أن مصلحتك هي أن تسمع نصيحتي لك، وإلا فأنني أقسم لك بشرف وظيفتي أننا سنخرب بيتك ونفصلك من عملك. هذا أقوله لك للمرة الأخيرة، نحن نريد أن نحافظ عليك وعليك أن تفهم مصلحتك ومصلحة عائلتك وأولادك. اذهب ونفّذ ما قلته لك، ونحن سنتابعك، وعندك فرصة ستة أشهر، فإذا رأينا أنك لا تلتزم بتعهدك لنا فلا تلوم غير نفسك.
ونهض رئيس دائرة الأمن السياسي من مقعده موجهاً كلامه إلى ضيفه: يا الله، يا أستاذ الله معك، خلينا نسمع أخبارك الطيبة، ومكتبي مفتوح لك عند الحاجة.
ومدّ يده إلى المدرّس الكردي مودعاً: الله معك، مع السلامة؛ مشيراً بإصبعه إلى باب الخروج.
بعد مضي عدة أشهر على لقاء فنجان القهوة مع رئيس دائرة الأمن السياسي، أبلغت مديرية التربية في حلب الأستاذ الكردي قرار نقله من مكان عمله في الأشرفية إلى مدرسة ابتدائية في حي الشّعار. وكان ذلك النقل بمثابة الإنذار الأول لعدم تنفيذ المدرّس الكردي النزيه للبلاغ الذي أُمر به في جلسة القهوة مع رئيس دائرة الأمن السياسي بحلب.
فهل يا ترى لمصلحة من نكون، عندما نتفوه بكلامٍ غير مسؤول في أمرٍ يتعلق بأناس يخطؤون عن غير قصد وهم يمارسون ما يعتقدون بأنه خدمةً للشعب والوطن؟ فالتشكيك وباءٌ فتّاك زرعه أعداؤنا عن طريق ضعاف النفوس، ويجتره الطابور الخامس هنا وهناك، ليبعدنا عن كوادرنا الوطنية المخلصة ويقضي على رابطة الثقة بيننا ويشتت صفوفنا ويقضي على كل عوامل الوحدة والتضامن والقوة في نضالنا.
فلا تأخذوا الاتهامات على عماها ولا تقوموا باجترارها، بل تملّكوا الجرأة على التساؤل والسؤال والتمحيص عن مصدرها ومروجها وخلفيته الاجتماعية و و و.
يجب أن نملك الجرأة على التأكد من معرفة الحقيقة ولا نجترّ ما يصل إلى آذاننا اجتراراً وأن نتسلّح بالشجاعة الاجتماعية للحفاظ على القيم والمقاييس التي تصون النسيج الوطني وتزيد من لحمتنا الوطنية. وإلاّ نكون قد أسأنا لشعبنا وقدّمنا الخدمة المجانية لأعداء قضيتنا العادلة.
* جريدة الوحـدة – العدد /335/- 24 كانون الأول 2021م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).