قراءة في الكتب والمطبوعات: جريدة “كردستان” لصاحبها الأمير عبد الرحمن بدرخان، افتتاحية العدد (16) – 24 تموز 1899م
الترجمة عن الكردية: نوّاف بشار عبد الله
مهندس مدني. باحث وكاتب باللغتين الكوردية والعربية
مجلة الحوار – العدد /77/- 2021م
يتمنّى كلُّ مسلمٍ أن تدومَ هذه الدولة العثمانية وتظلَّ قائمةً قوية، لذلكَ، عندما نرى أنّ جسمَ الدولة مريضٌ بسبب سوء الإدارة، يتوجبُ علينا الإسراعَ بمعالجته وتداويه وإزالة أسباب ذلك المرض، لأنّ حياة الدولة من حياتنا وموتُها من موتنا. حينما نتعرّضُ إلى هجومٍ من وحشٍ قاتلٍ، وحفاظاً على أرواحنا نقومُ بحماية أنفُسِنا منه ونلجأُ إلى إفنائه باتباع كافة الوسائل والأدوات والتدابير الممكنة. لكن، هناك الكثيرُ من الوحوش التي لا نراها بأعيننا أو أننا نراها، لكننا لا نشعرُ بضررها وخطورتها الكبرى على حياتنا. فوجودُ ملكٍ ظالمٍ بسدّة الحكم مثلاً هو أشدُّ ضرراً من الوحوش الكاسرة، لأن الوحش يكتفي بهلاك شخصٍ أو شخصين أو ثلاثة أشخاصٍ، بينما يقومُ الملكُ الظالم بمحوِ وإفناء شعبٍ بأكمله. لا يستطيع الإنسانُ الأمّي الجاهلُ أن يلحظَ ضررَ الحاكم الظالم، لأنه لا يدركُ حِيَلَهُ ودسائسَه، لكنّ العلماءَ من الأمة يعرفونها جيداً. فبقدرِ ما يقوم المرءُ بحماية نفسه من شرور أفعىً، يتوجبُ عليه بنفس القدر أن يقومَ بحماية دولته من شرور الحكام الفاسدين الظالمين!
بسبب فسادِ وسوء إدارة السلطان، تعيشُ دولتُنا العثمانية هذه الأيام حالةً من الضعف الشديد والانكسار والتخلف بين الدول، فإنْ لم نسعَ نحنُ أبناءُ هذه الدولة إلى إيجاد علاجٍ لهذا الداءِ، فإنّ دولتنا تسيرُ نحو الانقراض “لا سمحَ الله”. لقد ازدادَ شعبُنا فقراً على فقرٍ ولم يعُدْ يمتلك بين يديه شيئاً، إذْ استولى السلطانُ ووزراؤه على كل شيء، على كل الموارد والخيرات المادية. إننا نمتلكُ مساحاتٍ شاسعةً من الأراضي الزراعية، لكن، وبسبب الفقر الشديد للأهالي، بقيت هذه الأراضي بوراً غير مزروعة. فلو قام السلطانُ بصرف نصف ثروته لتأمين البذار للفلاحين، لأثمرتْ تلك الأراضي وأينعتْ وأنتجت خيراتٍ وفيرة ساهمتْ في تسوية أمور الناس وسدّتْ احتياجاتهم المالية، لكن وللأسف الشديد، فإنّ السلطانَ لا يشعرُ أو يتألّمُ مما يعانيه الشعبُ من فقرٍ مدقع أو يتأثّرَ بأوجاعهم. إنّ الشعبَ يصرخُ من الجوع وأطفالُه اليتامي يمرضون من البرد القارس، يئنّون من الألم ويذرفون الدموعَ في الوقت الذي يعيش فيه عبد الحميد في قصره العالي لا يشعرُ بهم ولا يسمعُ بكاءَهم وعويلهم ونحيبَهم. ولئن استطاعَ على سبيل الفرض امرؤٌ الوصولَ إلى السلطان وشرحَ له همومَه وفقرَ حاله، فإنه يغضبُ غضباً شديداً ويقول له بأنك قد أتعبتَني وأقلقت عليّ راحتي، فيلجأ إلى معاقبته بالحبس أو النفي خارجَ البلاد!
لأجل تأمين مستقبله وحماية مصلحته، يدفعُ السلطان 40-50 ألفاً لكلِّ وزيرٍ من مال الشعب كما يدفعُ مبالغَ طائلَة لا تُعَدُّ ولا تحصى لرجال الأمن الساهرين على حمايته وحماية حكمه، إلا أنّ أصحابَ الشهامة والإرادة الصلبة غير الدائرين في فلكه، محرومون من النعم ومعرضون لنكباتِ السلطان ونِقمته. يأخذ عبد الحميد المالَ من شعبه، ويضعه في البنوك بالرّبا ليحصل على فوائدها، ومن المعلوم أنّ الرِّبا حرامٌ على كلِّ مسلمٍ. يدّعي عبد الحميد أنه خليفة الرسول (ص)، وفي الوقت ذاته يأكلُ مالَ الربا الذي حصلَ عليه عنوةً من الشعب المظلوم المغلوب على أمره. ولئن أُحسِنتْ إدارة دولتنا، لأصبحت في مصاف الدول الغنية العامرة، لكنها تعتبر اليوم دولة محتاجة منهوبة، وإنّ سببَ هذه الحالة هو السلطانُ وأمناؤه.
تَزيدُ وارداتُ دولة الإنكليز عن نصف واردات كلّ دول العالم، ومع ثرواتها وكلّ غناها فإن المبالغَ المخصصة فيها لرواتب مسسؤولي حكومتها تقلُّ كثيراً عن الأموال المخصصة لمسؤولي حكومتنا. كلُّ هذه الأحوال الناجمة عن سفاهة السلطان، تعطي المبررَ الكافيَ لخلعه عن العرش، وبناءً عليه، حتى صلاة يوم الجمعة يعتبرُ فاسداً وغير مقبول، ناهيك عن الأموال التي تُنفقُ في قصر السلطان فهي غير قابلة للحصر والتعريف.
في أحدِ أيام خلافة الإمام عليٍّ رضي الله عنه، جاءه رجلٌ وكان الوقتُ ليلاَ يسأله عن أمر بخصوص الدولة وأحوال الأمة. بعدَ أن أجابَ الإمامُ عن سؤاله، دخلَ الرجلُ في حديثٍ عامٍ مع الإمام. حينها، أقدمَ الإمام على إطفاء السراج وبقي الاثنان في ظلام دامسٍ. سألَ الرجلُ الإمامَ عن سبب إطفائه للسراج، أجابه قائلاً: حينما جئتني في البداية وكان سؤالك وإجابتي عنه يتعلقان بأمور الأمة، لهذا كان من حقي أن أشعل السراجَ الذي أعطاني إياه بيتُ المال، لكن النقاش الذي دار تالياً، كان شخصياً، وليس من حقي أن أستعملَ الأشياء التي يعطيني إياه بيتُ المال في غير موضعها.
أيها المسلمون.. هكذا يجبُ أن يكون الخليفة وهكذا كان الخلفاءُ الراشدون.
من الخلفاء الأمويين، الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي مرض يوماً، وكانت زوجته تقوم بخدمته لوحدها دون غيرها. في تلك الأثناء قامَ أخو زوجته بزيارته للاطمئنان عليه بسبب المرض الذي ألمّ به. وقع بصرُه على ثوب الخليفة فوجده متسخاً، غضبَ كثيراً وعاتبَ أخته على تقصيرها قائلاً لها: كيف تدَعين ثوبَ زوجك متسخاً هكذا يا أختي؟ أجابته أخته قائلةً: إن الخليفة يمتلكُ ثوباً واحداً، وبسبب مرضه وانشغالي به، لم أتمكّن من غسله.
أيها الأكراد، تأملوا هذه الحالات وتصوّروا حجم التبذير الذي يجري في قصر السلطان، فلو رأى المرءُ حقيقة الوضع في قصره، لخشيَ من الله سبحانه وتعالى تسميته بخليفة المسلمين!
عندما توفي السلطان عثمان الأول -الذي هو من أجداد هذا السلطان- كان ميراثه بعد رحيله يقلُّ كثيراً عن ميراث أيّ إنسانٍ فقير. لكن، لو تمّ توزيعُ أموال عبد الحميد المكدسة على هذا الشعب الفقير، لأصبحَ الجميعُ أغنياءً يعيشون بثراءٍ.
توجدُ في قصر السلطان عدةُ آلافٍ من بنات الشركس يعشنَ حالة من البؤس، أسوأ من حالة الأسرى، حيث تدخلُ هذه الفتياتُ المسلماتُ القصرَ صغيراتٍ ولا يخرجن منه أبداً، يكبرن بالعمر ويصبحن مسناتٍ ويمُتن دون زواجٍ ودون أطفال، كل ذلك من أجل سعادة السلطان عبد الحميد وحسب. فلو قام السلطان بدلَ حبسهن في القصر وإفناء حياتهن في العزلة على تزويجهن برجاله، لازداد عددُ أفراد الأمة وكسب رضى الله تعالى ورضى الشعب وعامة الناس.
كما توجدُ في اسطبلاته أعدادٌ كبيرة من الخيول التي تأكلُ وتشربُ ليلاً نهاراً دون أن يستفيد الشعبُ منها شيئاً، بل على العكس من ذلك، فإنّ السلطان ينتزعُ مصاريف هذه الخيول من قوت الشعب ولقمة عيشه. بدل أن يقومَ السلطان بتربية هذه الأحصنة وينفقَ عليها طائلَ الأموال كان من الأفضل أن يوزعها على جنوده وضباط جيشه، لكن السلطانَ قد أدارَ الظهرَ للعدل ويعملُ كلَّ وسعه بسفاهةٍ ويسيرُ على الدرب الخاطئ، لأنّ مستشاريه ومجلس عقلائه هم مجموعةٌ من الغجر عديمي الأصل والضمير، أولئك الذين يقومون بشحنه على الدوام بأوهامٍ أوصلتهُ إلى درجة أنه يصدق كلَّ من يكذبُ عليه. وبهدف الابتزاز، يقوم رجال القصر بإخافته وبثِّ الرعب في أوصاله زاعمين أنّ الشعب يريد قتلَه، ومن شدة خوفه، يقوم السلطان الموهوم بإعطاء المال بجزالةٍ لأولئك اللصوص بغية حمايته من الموت المزعوم، فمن شدة التبذير قد جفّتْ منابع الثروة.
بدلاً من حماية نفسه وتأمينها بالعدل، لأنّ النفسَ التي لا يتمُّ حمايتُها بالعدل والإحسان، لا يمكنُ تأمينُها بأية وسيلةٍ أخرى. من شدة خوفه وهلعه من الموت، لا يخرجُ السلطانُ من القصر، فيضجرُ وتضيقُ به الدنيا، فمن أجل الحصول على فرصةٍ صغيرة من الراحة والأمان، يقومُ بصرفِ مبالغَ طائلة غافلاً عن هموم الشعب ومصالحه بشكل نهائي، فهو على استعدادٍ أن يصرف ألف ليرة ذهبية للظفر بساعةٍ واحدةٍ من الراحة والمتعة. لكنّ النفسَ لمْ تشبعْ يوماً من الملذات الشيطانية، وبقدر ما يشغل المرءُ نفسه بمثل هذه الملذات، أي حينما يصبحُ متبوعاً لنزواته وأهوائه، يصبح أسيراً لنفسه الأمّارة بالسوء.
كان من الأجدى للسلطان بدلَ أن يعملَ بنصائح القبطي أبو الهُدى (أبو الضلال) ويفنيَ عمرَه في ليالي الفسق والفجور، أن يتركَ هذه الأحوال التي لا تليقُ بمكانته ويهجرَها، وينتخبَ ندماءَه من الطيبين، ويُبعدَ هذه الزمرة الفاجرة المحيطة به عن القصر ويسيرَ على خطى وهدي الخلفاء الراشدين، عندها، سوف تشعرُ نفسُه بالسعادة وروحُه بالاستقرار وتتمّ المحافظة على مصالح الشعب ومستقبله. أصبحَ الناسُ على بيّنةٍ مما يجري من أحوالٍ في قصر السلطان، فالأتراكُ يعرفونها، لذلك هناك العديدُ من الصحف التركية تقوم بنقل الصورة والواقع إلى مَن لا يعرفونها. ولأن الكردَ بعيدون عن اسطنبول، فإنني ملزمٌ أن أعلمَهم بواسطة جريدتي هذه. عندما يعرف الجميعُ الحقيقة، فإنهُ فرضٌ على كل مسلمٍ أن يبحثَ عن دواء لهذا الداء القاتل، لأنه داءٌ هادمٌ لحياة الشعب مخرّبٌ للوطن ومضرٌّ بالناموس، وإن الشعبَ هو مَن يدفعُ ضريبة سوء السلطان.
من المحتملِ أن يكون هناكَ الكثيرُ من العلماء والبكوات والأغوات يرون هذه الأحوال السيئة ويرغبون في أعماق نفسهم منعَ حدوثها، لكنهم ومن أجل شهوات الدنيا ومغرياتها لا يرغبون في الشروع بالمنع. فمن أجل ملذات عدة أيامٍ في هذه الدنيا الفانية، يقومون بإهمالِ خدمة ضرورية لشعبهم. على أولئك ألا ينسوا أن الرسول (ص) قد أمرَ: (حبُّ الدنيا رأسُ كلُّ خطيئةٍ).
إنّ ذلك الذي يقومُ بتعطيل وإبطال شجاعته وهمته بسبب تعلقه بملذّات الدنيا، فإنه سوف لن يخسر الدنيا وحدها، بل سيخسرُ الآخرة أيضاً، ولسوف يلقى أولادُه من بعده الضررَ والخسارة ضريبة تقاعسه عن تأدية واجبه، وإنّ سعادتنا تكمنُ بالالتزام بأمر الله سبحانه تعالى ورسوله (ص). عندما كان سلاطينُنا يسيرون على هدي هذه الأوامر كنا مسيطرين على الدنيا وعندما تركوها، تخلفنا عن العالم. السلطانُ حسبَ افترائه وأفرادُ الشعب حسب درجة قوتهم مطالَبون بالقيام بواجبهم. لكن، هناك ملاحظة في كلمة (حب الدنيا) تحتاج إلى التدقيق، فإنّ ما تنهى عنه الشريعةُ هي (حب الدنيا) وليس الدنيا بذاتها لأنّ الدنيا هي مزرعة الآخرة. لقد وهبَنا الله تعالى في هذه الدنيا الكثيرَ من النعم ويتوجبُ علينا شكرَه وتأدية الطاعة والولاء له. ولأنّ الدنيا ليست مذمومة، فقد أرسلَ الله سبحانه وتعالى الكثيرَ من الأنبياء والرسل لعباده، ولكن يبقى (حب الدنيا) مذموماً، لأن المبتليَ بحب الدنيا ومهما يكن صاحبَ مالٍ وفير وثروة طائلة، فإنه لا يستطيعُ أنْ يستعمل ذلك المال في سبيل الإحسان أو تقديم خدمةٍ لأي إنسانٍ، بل بالعكس، فهو من شدة حرصه على ماله وطمعه الشديد، يلجأ إلى ارتكاب المعاصي وأعمال السوء بماله. أما الإنسانُ غير المبتلي بحب مال الدنيا، ولو استحوذَ على مال الدنيا كلها فهو غيرُ مُلام وغير مؤاخَذُ لأن كسبَ المال ليس مذموماً، حيث قال الرسول (ص): الكاسبُ حبيبُ الله. يجب على المرءِ العملَ في دنياه بهمة ونشاط متواصلٍ لأن العملَ يجلبُ السعادة لصاحبه. فلو اغتنى المرءُ بعمله وجمعَ ثروة كبيرة، فهذا ليس بعيبٍ أو خطيئة، بل على العكس من ذلك تماماً فهو موضعُ احترامٍ وتقديرٍ. لهذا فإنّ الشخصَ الذي يغتني بعرق جبينه باعتماد الطرق المشروعة، فهو يستطيعُ عند الحاجة أن يصرفَ كلَّ ماله في خدمة شعبه ووطنه، ويتضحُ من ذلك أنه ليس مبتلياً بحب الدنيا.