الرؤية الشمولية ونظرة الاستعلاء القومي، إن للمعارضة أو الموالاة حيال الكُـرد وحركتهم الوطنية، وتدابير جمّة لجعلهم أدوات لتنفيذ أجنداتهما باسم الدين أو الوطنية، أو ترويضهم على الاحتواء والتّبعية وإلا! فمصيرهم الغُبن والتهميش؛ فلا اعتراف ضمني بأن الكُـرد شُركاء لا مُرَداء، ولا من مادة دستورية تُقر بأن الكرد يشكلون ثاني أكبر قومية في البلاد ووجودهم على أرضهم التاريخية يعود إلى ما قبل تأسيس الدولة السورية بمئات السنين؛ ففي حين اعتمد النظام الخيار العسكري في مواجهة أزمة البلاد، اختطف تنظيم إخوان المسلمين وتشكيلات السلفية الجهادية «ثورة الكرامة والحرية» لأجندات طائفية وإقليمية.
توجهات دفعت بالكُـرد للبحث عن وسائل، لإيجاد موقع لهم على الساحة السياسية، أما سَحبُ النظام لمؤسساته الأمنية والعسكرية من المناطق الكردية؛ لم يكن لسواد عيونهم كما يظن البعض، وإنما! عن دراية لما يدور خلف الكواليس من صراعات أساسية؛ أما مطالب الكرد! نظام ديمقراطي يحقق المساواة بين المكونات السورية، على نقيض غالبية المعارضات؛ الساعية لإسقاط رأس النظام وحلقتة الضيقة؛ وتأسيس نظام إسلاموي أشد فتكاً وتخلفاً وراديكالية، ربما للثأر والانتقام ليس إلا!
أدى الانسحاب إلى فلتانٍ أمني وفوضى، ورغم الموقف الوطني المُشرّف للأحزاب الكردية بشكل دائم، وامتناعها عن حضور الاجتماع الذي دعاهم إليه رئيس الجمهورية، تضامناً مع باقي أطراف المعارضة، والمشاركة الفاعلة للجماهير الكردية وحركتها الوطنية بالاحتجاجات السلمية، سعت حكومة العدالة والتنمية- تركيا تجييش مشاعر الحقد والكراهية لدى الفصائل المسلحة ضد الكُـرد ومن ثم الإدارة الذاتية، وتقديم الدعم العسكري واللوجستي لها، لكسب ولائها واستخدامها في قمع أي طموحٍ كردي، وبما يحقق الأطماع التركية- العثمانية الجديدة بالمنطقة (الميثاق المللي).
فما إن قام النظام بسحب مؤسساته الأمنية والعسكرية، وحتى قبل تشكيل الكُـرد لوحدات حماية الشعب والإدارة الذاتية لإدارة مناطقهم والدفاع عنها، قامت جماعات مسلحة «جيش حرّ» بمحاصرة عفرين وتشديد الخناق عليها، وعدم الانفكاك باحتجاز المدنيين الكُـرد؛ وأقدمت على قتل أول مجموعة مدنية تطوعت لجلب الطحين من مدينة حلب إلى عفرين، وهاجمت «لواء عاصفة الشمال» من أعزاز على قرية قسطل جندو في تشرين الأول 2012م؛ واستمر التهديد بأن صلاة العيد القادم ستكون بمساجد عفرين، لاستفزاز الكُـرد وافتعال معارك جانبية، كما نفذت جماعات «الجيش الحرّ» وأخرى جهادية عشرات الهجمات على عفرين بين أعوام /2012-2017/م، أفضت لاستشهاد مواطنين كُـرد دون ذَنب، تمهيداً للانقضاض على الإدارة الذاتية فيها بدايات 2018م، خدمةً لأجندات تركية.
أدركت روسيا خطورة الوضع السوري العام وما شهدتها المناطق الكردية من تطورات لم تَرُق لتركيا، وما شكلته الفصائل الراديكالية من تهديد، إن على العاصمة دمشق أو لبلدتي نبل والزهراء المواليتيّن للنظام قرب عفرين؛ كانت اجتماعات أستانة – سوتشي تمخضت عن صفقة بوتين – أردوغان بمباركة النظام السوري وإيران، لخلط الأوراق، وفي توفير الظروف المناسبة، لتوتير الأوضاع بين «الفصائل المسلحة» و «وحدات حماية الشعب والمرأة»، فاضطرت الأخيرة ربما بتشجيع من موسكو وبمشاركتها في عمليةٍ عسكرية عام 2016 ضد جبهة النصرة وجماعات أخرى شمال حلب، لإبعاد خطرها عن عفرين، أدت إلى إفراغ منطقة الشهباء وتل رفعت من معظم أهاليها، لتقوم روسيا أواخر 2017م بمنح الضوء الأخضر لتركيا باحتلال عفرين مقابل إفراغ مناطق سورية عديدة من ميليشيات المعارضة الموالية لها؛ والدفع بمهجّري عفرين قسراً إبّان العدوان التركي إلى مناطق الشهباء وتل رفعت، ليكونوا دروعاً بشرية أو كمنطقة عازلة بين «بلدتيّ نبل والزهراء ومدينة حلب- الخاضعة لسيطرة الجيش السوري» و «أعزاز ومارع والباب الخاضعة لسيطرة الفصائل المسلحة والاحتلال التركي»؛ وتم ترحيل المجموعات المسلحة التي رفضت التسوية مع النظام وبأسلحتهم الفردية وبرفقة عوائلهم من غوطة دمشق وريفي حمص وحماه، ورحلةٍ اشتهرت بالباصات الخضر نحو الشمال، ليتم توطينهم في منطقة عفرين المفرغة من معظم أهاليها أواسط آذار 2018م، تلتها عملية ترحيل أخرى من ريف إدلب الجنوبي وريف حلب الغربي في عام 2019م، وذلك ضمن مخططٍ تركي لإحداث تغيير ديمغرافي شامل في المناطق الكردية المحتلة، في صفقةٍ قذرة وسابقة خطيرة على الصعيد السوري والإقليمي.
أما هجوم داعش على مدينة كوباني/عين العرب انطلاقاً من دولتها الإسلامية المزعومة «الموصل العراقية- الرقة السورية»، ما كان ليتم، لولا بأوامر من الرئيس التركي شخصياً، وفق معلوماتٍ أدلى بها قادة من تنظيم داعش بمقاطع مُصوّرة، عقب الهزيمة المُهينة والخسائر المُذهلة بالعتاد والأرواح في صفوف التنظيم الارهابي إبّان عمليات التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية بمساعدة وحدة من قوات البيشمركه.
اللغز! بالنظرة القومية الاستعلائية وديمقراطية الأكثرية وبمنطلقات حزب البعث القائمة على صهر الأقليات الأثنية والقوميات في بوتقة القومية العربية، وبنظرية المؤامرة والأحكام المسبقة، وبالولاء للمذهب لا للدين وللقبيلة لا للوطن!؛ حيث العصبيات القبلية والقومية والدينية والتدخلات الخارجية مُحال أن تأتي بنتائجها السلبية والمدمِّرة، ما لم تجد في بنية المجتمع حاضنة لها.
المفتاح! كان في البداية بيد النظام، بإفساح المجال أمام لغة العقل، بإجراء حوارات وطنية جدية وإصلاحات جذرية، وبإطلاق الحريات العامة؛ إلا أنّ الفأس قد وقع بالرأس كما يقال لكن! في الجانب الآخر هل كانت المعارضة المنضوية تحت عباءة جماعة الإخوان المسلمين الموالية لحكومة العدالة والتنمية، وتُقاد من قبل قوى سلفية غير مؤمنة بدولة المواطنة ولا بنظامٍ علماني ولا بمقولة الدين لله والوطن للجميع، ولا الحلول الديمقراطية… تقبل بهكذا عروض؟ ألم تكن القيم الوطنية والإنسانية تقتضي إن كانوا حقاً أبناء ثورة وطُلّاب كرامة وحرية، قيام كل «فصيل مسلح» بتحرير منطقته وبإدارتها كأمر واقع دون انتهاكات وارتكاب جرائم، وبشكلٍ ينسجم وتوجهات أهاليها، أسوةً بالكُـرد، عوضاً عن العداء ومحاربة إداراتها، بمزاعم وحجج واهية، في محاولات لتشويه الحقائق وتبرير الجرائم المرتكبة من قبلها؛ فرغم نأي الكُـرد بأنفسهم عن الصراع المسلح بين النظام والمعارضة، وترجيحهم للنضال السلمي، فقد تمت محاربتهم تحت يافطة «التكفير والانفصالية»، حتى دون منحهم فرصةً من قبيل الاختبار أو التجربة.
المفتاح! هو بامتلاك عقلٍ متحرر ومنفتح على الآخر المختلف، بوقف نزيف الدم، نبذ العنف والتطرف، بطاولة حوار مستديرة تضم ممثلين عن كل المكونات السورية، ورعاية دولية، يفضي إلى دستور حضاري عصري، يلبي طموحات كافة أطياف المجتمع، وينسجم مع نتاجات الفكر الإنساني والعولمة؛ الصلح سيد الأحكام والمسامح كريم! إن كنّا حقاً مسلمون وبسنّة نبيّنا ملتزمون! هل لنا أن نستلهم من سيرته الدروس والعِبر؟ ومن صُلح الحُديبيّة مثالاً يُحتَذى به؟ أم بات الدين عباءةً لارتكاب المعاصي في ظلها؟ شريطة أن تسبق كل جريمة صيحة (تكبير) لإضفاء صبغة الحلال على الحرام والطاعة على المعصية، وفق فتاوى فقهاء السلفية الجهادية.
المفتاح! دولة ذات نِظامُ حُكمّ برلماني؛ تعددي لا مركزي؛ وبقضاءٍ مستقل ونزيه، بإعادة الحقوق لأهلها ومعاقبة المجرمين تكمن العدالة أما السؤال! لو لم تكن الأحزاب الوطنية الكردية مجتمعة تهدف لتشييد نظام ديمقراطي وقبلت دعوة النظام وتحالفت معه؛ وارتضت على نفسها الارتزاق والارتهان لجهة أجنبية كما فعلت أكثرية المعارضة؛ ألم تكن لتحصل على أسلحة وأموال وربما تُحسِّن مواقعها؟ ألم تكن من السهولة حينها الدفع بفصائل الشهباء وإدلب إلى صحراء الرمادي العراقية؛ لا البادية السورية؟ التصفيق مُحالٌ بيدٍ واحدة مهما سَعَت ومهما كانت قوية، تخدرت أيادي الكُـرد وهي ممدودة لكافة القوى الوطنية السورية، دون نتائج إيجابية ملحوظة ولا من آذانٍ صاغية.
اللغز والمفتاح! التحرر من العصبيات القبلية والقومية والدينية؛ مِن نظرية المؤامرة والأحكام المُسبَقة، ومن ديمقراطية الأكثرية الزائفة، مُحالٌ! أن تصبح سوريا مُلكاً لطرفٍ بعينه؛ وإلا! فالتقسيم أو تدمير ما تبقى منها على رأس مَن لازال متشبّثاً بها، يتطلع إلى دولة يتمتع فيها بطعم الكرامة والحرية، التي أنتفض يوماً من أجلها.
* جريدة الوحـدة – العدد /332/- 19 آب 2021م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).