القسم العاممختارات

عقدة الهجرات التاريخية عند النخب العربية

الافتتاحية

مجلة الحوار- العدد /77/ – 2021م

أثرت مسألة الهجرات التاريخية بشدة على الذهنية، أو العقل العربي المعاصر إن جاز هذا التعميم. فقد ساهمت ظاهرة الهجرات في توجيه وتأطير المسار العام للتفكير العربي السياسي. لا شك أنه قد تمت هجرات عربية تاريخية من قلب الجزيرة العربية بإتجاه الجوار الجغرافي عموما وإلى سوريا ومنطقة الهلال الخصيب بشكل خاص. لكن لم يتم تناول هذه الهجرات بموضوعية علمية لا في المناهج الدراسية، ولا في البرامج السياسية، وعلى ما يبدو وظفت هذه الهجرات بطريقة أيديولوجية سطحية، لتساهم في توجيه مسار الحركات والأحزاب السياسية العربية، ولتؤسس لبرامجها، سواء الإسلامية منها أو القومية، لدرجة أن صاغت وأطرت تفكيرها بطريقة صلبة، فتخشبت آليات التفكير لديها، ومازالت تصطدم بحقائق التاريخ ومعضلات الواقع.

السردية العربية العامة، وباستثناءات نادرة، تتلخص في أن هذه الهجرات تمت في مناخات سلمية، وكانت ضرورة للبشرية أيضا، وهي ذات خلفية قومية وروحية. فقد تمت الهجرات من الجزيرة العربية نحو جوارها الفارغ الخالي من البشر، أو من مجتمعات منظمة، لها خصوصيتها أو هويتها، وحينا آخر يتم تصوير دفعات الهجرة على أنها جاءت استكمالا لدفعات سابقة، إذ كانت تنتظر المهاجرين جماعات عربية مضطهدة من قبل “المحتلين للبلاد العربية”، فأنقذتها، بل تتم المبالغة في الترويج لقصص متخيلة: كاستقبال مجتمعات مسيحية (عربية) للعرب الفاتحين ببهجة وسرور. وفي الحالتين كانت هذه الهجرات مباركة، وخلاصا لهذه المناطق ومجتمعاتها العربية السامية الأسطورية القديمة. بالتالي كانت هذه الهجرات إنقاذا من احتلالات شعوب أخرى متطفلة ومعادية خرقت حدود الوطن العربي، هذه الحدود المخططة والثابتة منذ عصور ما قبل التاريخ، بحسب هذه السرديات …

أين تكمن المشكلة بالنسبة لهذا التناول؟ تكمن فيما يترتب على هذا المشهد الكاريكاتوري، والمثالي المتخيل أكبر عملية تزييف لتاريخ المنطقة، ويترتب على هذا التناول أسوأ قراءة محتملة للواقع، لماذا؟! لأن الحقيقة تختلف عن هذه السرديات المتخيلة، فالمجتمعات في المحيط العربي كانت مجتمعات منظمة ضمن ممالك وامبراطوريات كبرى، كانت مجتمعات تستمد جذورها من بيئات حضارية، مكتفية اقتصاديا، ومنظمة سياسيا، كانت مجتمعات متجذرة وموغلة في القدم. فمجتمعات شمال الجزيرة العربية، ومجتمعات شرق البحر المتوسط، كانت مجتمعات إنتاج وعمران، مجتمعات كفاية، انبثقت عنها مدن وحضارات، كانت باختصار مجتمعات متقدمة كثيرا على مجتمعات قلب الجزيرة العربية البدوية الفقيرة.

إن تثبيت سردية الهجرات العربية الأولى، ولاحقا الفتوحات الإسلامية في خانة الأسبقية التاريخية، وأحقية العرب بالسيادة على هذه البلدان (المحررة)، جاءت بصيغة ما كرد فعل على الفكر والنظرية الصهيونية التي تدعي حق الأسبقية التاريخية على تملك فلسطين. مما دفع بالفكر السياسي العربي المعاصر التماهي مع الصهيونية في المنهج والممارسة من هذه الزاوية.

لذلك جاءت معالجة وتناول بعض النخب العربية لدراسة اجتماع ومستقبل البلدان العربية بعد استقلالها عن الحكم العثماني وتحررها من الاستعمار الأوربي مشوهة، لا تتمتع بالشجاعة لإعادة قراءة التاريخ، ولا حتى مقاربة تضاريس الواقع، فتلخص هذا القصور في إنتاج فكر قومي مضاد ومتأثر في الوقت نفسه بالصهيونية السياسية والفكرية، وبالدولة القومية الأوربية الصلبة، بمعنى اعتبار كل الهجرات العربية سلسلة من هجرات أزلية لقبائل تتحرك من أرضها في قلب الجزيرة العربية الى أرضها التي انتظرتها بفارغ الصبر خارج الجزيرة العربية، هذه الأرض التي كانت خالية من البشر، وتنتظر بشوق الفتوحات والهجرات البدوية العربية، في صيغة أقرب إلى الخيال منها إلا أي حقيقة موضوعية.

بناء على هذه الأفكار التي باتت منهجا، بل ثقافة سياسية ومعارف بديهية تتناقلها الأجيال، وقياسا أيضا على الفكر العربي الذي يفسر الحاضر بدلالة الماضي وعبر أحداثه، فكل الشعوب لا بد أن تكون مهاجرة، حيث فكرة الشعوب الأصلية مغيبة، وتم تغييبها عن الذهنية العربية السطحية، فالأكراد لابد أن يكونوا مهاجرين وكذلك الشركس والأرمن والأمازيغ، فإن لم تكن  هذه الشعوب والجماعات مهاجرة، فيجب أن تكون بالضرورة من أصول عربية أو سامية، أو أي تصنيف آخر لا يفصح عن حقائق التاريخ الصادمة.

وعلى اعتبار أن الأراضي خارج الجزيرة العربية وعلى تخومها الجغرافية هي أراضي كانت مطوبة باسم العرب، وإن هجراتهم كانت أبدية تبدأ بستة آلاف سنة قبل الميلاد، ولم تنته إلا بعد الحرب العالمية الثانية، فهي هجرات شرعية لا يحق لأحد اعتبارها حتى (هجرات)، اما هجرات الجماعات الأخرى، فهي افتراضية نتاج العقل الأيديولوجي العروبي في أغلب الأحوال، وإن وجدت فليس لها أي مشروعية، فالمشروعية هي فقط للهجرات الأولى، وحق الحكم والسيادة هو لمن سبق أن هاجر أولا، ونصب خيامه ونشر فرسانه، وسل سيفه، وهكذا…

في السنوات الأخيرة سمعنا وقرأنا الكثير من الترهات بخصوص هجرة الأكراد الى سوريا، بدءا من المتفلسف الأول رئيس الجمهورية، وصولا الى أي مراهق سياسي، مرورا بمنتسبي (المعارضة)، وجميع المتطفلين على التاريخ والسياسة معا. كل هذا التناطح والتناول الجاهل للتاريخ جاء لتبرير مواقفهم المؤازرة للظلم والعدوان، المتهربة من حق المساواة والعدالة، ناسين أن الحقوق لا تستند على بعد تاريخي فقط، فليس بالضرورة أن يكون الفرد من سلالة تسكن سوريا منذ ستة آلاف سنة حتى يكون له حقوق سياسية، بصرف النظر عن الكم الهائل من التناقضات والقراءات المشوهة لتاريخ سوريا والمنطقة.

وحيث أن الجهل وعدم قراءة التاريخ والواقع معا باتت سمة من أبرز سمات النخب السورية، سنذكر من جديد أن الهجرات كانت دائمة في كل أصقاع الأرض وليست في سوريا، كما أن اتجاه هذه الهجرات ومساراتها قد غيبت لأهداف سياسية وعنصرية ودينية صرفه، فالكورد قد هاجروا من أرض سوريا الحالية الى خارجها بعدد هو أضعاف من هاجر من جوارها الى مناطقها الداخلية الحالية. لذلك وفقط سنورد أدناه مثال واحد، نص نادر لمؤرخ كبير وموضوعي، يعد حجة في تاريخ المنطقة، هو شرفخان بدليسي، إذ ورد في كتابة (شرفنامة)، الذي كتبه بالفارسية قبل أكثر من أربعمائة عام، وترجم الى العديد من اللغات منها العربية. يكشف النص أدناه عن هجرة كبرى لقبائل وطوائف كردية من جغرافية غرب محافظة ادلب الحالية الى إقليم في غرب إيران يتاخم الخليج العربي، إلى منطقة لورستان تحديدا. كانت هذه الهجرة الكبرى من محيط جبل السماق شمال غرب محافظة إدلب الحالية وجنوب منطقة عفرين: “وفي خلال سنة 500 هـ / 1106 م نزحت زهاء أربعمائة أسرة كردية من جبل السماق ببلاد الشام إلى لرستان إثر نزاع قام بينهم وبين زعيمهم في موطنهم الأول، فآثروا الجلاء عن الوطن على الاقامة: وهناك دخلوا في رعاية عشائر وقبائل أحفاد محمد خورشيد المذكور” (بدليسي، 1959، ص25)

تم تابع بدليسي سرديته التاريخية مبينا استمرار الهجرات ونزوح (27) طائفة وقبيلة كوردية ابان حكم هزار أسف من غرب سوريا الى لورستان: “فهرع إليه أقوام كردية كثيرة من سكان جبل السماق للإقامة به وذلك كجماعة العقيلي من نسل عقيل ابن أبي طالب، والهاشمي من سلالة هاشم بن عبد المناف، وطوائف مختلفة مثل: أستركي، مماكويه، بختياري، جوانكي، بدانيان، زامديان، علاني، لوتوند، بتوند، بوازكي، شنوند، راكي، خاكي، هاروني، اشكي، كولي، ليراوي، مولي، بحسفوي، كمانكشي، مماستي، أومكي، توابي، كداوي، مديحة، اكورد، كورلاد، إلى غير ذلك من العشائر والقبائل الأخرى التي لا يعرف لها نسب. فازداد شأن هزار أسف وأخوته بقدوم هذه الجماعات عليهم والتقائهم بهم، إذ قوي جانبهم بهم فهاجموا مقاطعة شولستان” (ص28) هذا وقد توفي هزار أسف سنة 1275 ميلادية. في قراءة أولية لهذا النص نستنتج أن هذه الوثيقة التاريخية تدل أولا على أسبقية الوجود الكردي في شمال غرب سوريا الحالية، وخاصة محافظة إدلب ومنطقة عفرين ولواء إسكندرون، نظرا للعدد الكبير من القبائل والطوائف التي هاجرت منها، وهي كوردية في أغلبيتها الساحقة. فقد كانت هذه المنطقة مولدة وطاردة للسكان الكورد تاريخيا، وليس كما روج له سياسيا بأنهم قد هاجروا إليها. فالأكراد هاجروا من مناطق الشمال وشمال غرب سوريا الحالية والجزيرة الفراتية بأضعاف من قدم اليها في عهود متأخرة. فقد كانت هجرة الكورد من شمال غرب سوريا الى لورستان كبيرة بل هائلة بحسب عدد القبائل والطوائف المذكورة في الشرفنامه. لذلك وبدلالة العديد من المصادر والوثائق الأخرى، فالوجود والجذر التاريخي للكورد في غرب سوريا الحالية وقرب الساحل السوري أقدم من كل التوقعات. وهي ليست كما روجت نتاج الحروب الصليبية، علما أن شرفخان بدليسي قد عد العقيليين أكرادا، وهذه مسألة تدرج ضمن المشتركات، كما يمكن الافتراض أن المهاجرين من جبل السماق كانوا شيعة أو علويين، وقد تكون الصراعات المذهبية أحد مسببات هذه الهجرة، فالهجرة لم تكن بسبب خلافات قومية بالتأكيد.

أخيرا نود التأكيد من جديد على أن قراءة التاريخ بشكل موضوعي ودقيق من قبل المختصين يجب أن تخدم المشتركات، وتؤسس لمشاريع التعاون والتحالف، وليس كما تعود عليه الصهاينة الجدد لترسيخ العداوات والدعاية للتكنيس الديمغرافي وبناء مجتمعات ودول النقاء القومي والديني، التي لا يمكن أن تستند سوى على الأكاذيب الكبرى. فالانتقال من مشكلات التاريخ الى الحاضر قلما يؤسس للمشتركات، لكن الانتقال من مشتركات الحاضر نحو بناء مستقبل آمن يعد حجر الزاوية في تأسيس الدول الديمقراطية المستقرة.

في هذا العدد من مجلة الحوار سنستمر، وسنحاول أن نقرأ التاريخ بدلالة مشتركات المستقبل، ونفتح صفحات جديدة لحوارات كوردية – عربية جادة، فمستقبل مجتمعاتنا مرهون بالتخلص من الأوهام كما التخلص من الأحقاد.

رئيس التحرير 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى