كان القصفُ الصاروخيّ على مدينةِ عفرين المحتلة السبت 12/6/2021، غير مسبوقٍ في حجمه ونتائجه، والواضح تماماً أنّه لم يحقق أيّة أهدافٍ عسكريّة مباشرة على الأرض، ولم تُستهدف نقاط تمركز القوات التركيّة ولا مقرات الميليشيات. وكانت النقاط المستهدفة ذات طابع مدنيّ منازل وبيوت والمستشفى الرئيسيّ في المدينة، وكان أغلب الضحايا من غير العسكريين أو المسلحين (أهالي عفرين الكرد ومستوطنين).
أهدافٌ سياسيّةٌ للقصفِ
قصفُ عفرين ليس كلَّ الحدثِ، بل يُرادُ له أن يكونَ مقدمةَ تحوّل، يتوقف إنجازه على مدى توافق مراكز صنع القرار الدوليّ مع المطالب التركيّة، وسيبقى تنفيذه رهن السجالِ السياسيّ بين أطرافٍ غير سوريّة، وما دام القصف لم يستهدف مراكز القوات التركيّة في عفرين، فهي لم تخسر، ولكنها تنتظر أن تكسبَ من جولةِ القصفِ. بعد خسائر لحقت بجنودها بعد سلسلة عمليات نُفذت في الفترة الأخيرة. بل إنَّ استهداف البيوت والمشفى، يمنحُ أنقرة الشرعيّة التي تبحث عنها في استمرار حرب الكرد، لتقولَ إنّ قصفها اليوميّ لقرى شيراوا ومنطقة الشهباء- شمال حلب هو إجراءٌ لردعِ قصف عفرين! وبعبارة أخرى الأهداف التركيّة لا تنحصر بالجغرافيا واحتلال الأرض.
وإن لم يحقق القصف أهدافاً عسكريّة، تبقى الأهداف السياسيّة هي محلُّ السؤالِ، والمهم هنا التوقف عند توقيتِ الحدثِ، فقد جاء متزامناً مع تصعيدٍ كبيرٍ تشهده إدلب منذ بداية الشهر الجاري، وكذلك مع اقترابِ موعد لقاءاتٍ سياسيّة مهمة، منها لقاء الرئيس الأمريكيّ جو بايدن مع الرئيس التركيّ رجب طيب أردوغان في الرابع عشر من حزيران- بروكسل ومع الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين في السادس عشر من حزيران- جنيف. وما حدث ميدانيّاً كانت رسائل سياسيّة عاجلة.
إلا أنَّ موسكو وأنقرة تتفقان في إبقاءِ الجيوب المتأزمة شمال البلاد، واعتماد الأسلوب العسكريّ، لاستنزافِ قدراتِ الخصمِ السياسيّ أو العسكريّ، وهو رهانٌ على الزمنِ، ولذلك اُعتمد أسلوبُ «ضرب الخصم بالخصم»، لتنتهيَ الأزمةُ في مستوى أهدافها التي بدأت منها. وتتحول كلُّ الميليشيات المسلحة إلى أداةٍ تركيّةٍ تضربُ بها الكردَ في سوريا، وغرقت في الارتزاقِ في حروبٍ خارجيّةٍ، وباتت حربُ الكردِ هدفاً أساسيّاً.
واليوم فإنّ عفرين منفصلة عن الجغرافيا السوريّة تماماً، وبحكمِ المنطقة التابعة مباشرة لتركيا دون إعلان ذلك رسميّاً. ويوم الجمعة 11/6/2021 دشنت الحكومة التركية «سد عفرين الأعلى»، في ولاية كيليس والملاحظ اعتماد اسم عفرين دون تغيير، وإدراج اسم عفرين ضمن التداول تركيّاً، لتأكيدِ ضمّها.
بدأت قواتُ الاحتلالِ التركيّ قصف قرى في ناحية شيراوا قبل أن تنقشعَ سُحبُ الغبارِ الناتجةِ عن قصفِ مدينة عفرين المحتلة، فيما اعتبره كثيرون أنّه الردُّ على القصفِ، والحقيقة أنّ المدفعيّة التركيّة لم تتوقف عن قصفِ تلك القرى وبخاصةٍ في الأيامِ العشرة الأخيرة، وكانت دائماً تأخذ زمامَ المبادرةِ بالقصفِ، بل إنّ معدلَ القصف التركيّ لمناطق التهجير القسريّ هو قصفٌ كلّ يومين تقريباً، على مدار أكثر من ثلاث سنوات، أي بعد احتلالِ عفرين، وتسبب ذلك بمجازر ودمار للبيوت.
تحذيراتٌ قبل القصفِ الصاروخيّ
في متابعة الهجوم الصاروخيّ على مدينة عفرين المحتلة، سبق أن توقفنا لدى طبيعة المواقع المستهدفة وأنها لم تشمل مراكز القوات التركيّة المحتلة، ولا مقرات الميليشيات المسلحة، وهي كثيرة في المدينة، ولم يحدث ذلك ولو من قبيل الخطأ.
كان لافتاً مبادرة الإعلام التركيّ لاتهام طرفٍ كرديّ بأنه يقفُ وراء القصف، وهذا يفترضُ أن تُستهدفَ مواقع عسكريّة، وأن يكونَ معظم الضحايا من المسلحين وأما وقوع ضحايا مدنيين فهو من قبيلِ خطأ سقوط قذيفة. ولكنَّ التجنبَ الكاملَ لأهدافٍ عسكريّةٍ يعني الدقّةَ أيضاً، وأنَّ الجهةَ التي قصفت تعمدت إيقاعَ أكبرَ عددٍ من الإصاباتِ في صفوفِ المدنيين لتحقيقِ أهدافٍ سياسيّةٍ، وبغايةِ الضغطِ.
تؤكدُ المعلوماتُ الواردة من عفرين أنّ المقرَّ العسكريّ لقواتِ الكوماندوس التركيّ تمَّ إخلاؤه قبلَ القصفِ، وهو الموقعُ الوحيدُ الذي تمَّ استهدافُ محيطه، وهنا تأكيدٌ لدقةِ الاستهدافِ، فالمطلوب خلقُ مبررٍ شكليّ، يتمُّ تداوله إعلاميّاً.
من جهة أخرى تمَّ تداولُ تسجيلٍ صوتيّ لشخصٍ قيل إنه «النقيب أمين»، بعث قبل القصفِ بتحذيراتٍ إلى الميليشياتِ لتوخي الحذرِ والحيطةِ، وقال إنّهم علموا من «الإخوة الأتراك» باحتمالِ وقوع القصف، مع اتهام مسبقٍ لما سمّاها «الحزب الانفصاليّ» والذي يجهّزُ مدفعيّة ثقيلة وراجمات صواريخ، رغم أن كاملَ قرى ناحية شيراوا ومنطقة الشهباء تُقصفُ يوميّاً.
الواقع إنّ أنقرة تسعى لحشدِ موقفٍ دوليّ متوافقٍ مع سياستها الاحتلاليّة، مع التلويحِ بعصا التهديدِ في مسألتين اللاجئين والمسلحين، لتجبرَ الآخرين على التوافق مع نظريتها القوميّة الغريبة، والقول للعالم أنّ كل أبناء القوميّة الكرديّة هم إرهابيون وتعمل على اتهامهم بالانتماء إلى حزب معين، مع تعميم نظرية أنّ تركيا داعية سلام، ومن حقها اتخاذ ما يلزم من إجراءات تدخلٍ لتضمنَ أمنها القوميّ.
تعتمد أنقرة على ثقل تركيا الدولة وموقعها الجيوسياسيّ في المنطقة وتستثمرُ العاملَ الدينيّ وعواملَ الاحتقانِ الناتجةِ عن الأزمةِ السوريّةِ لتنفيذ أجندتها، وبذلك شكّلت جيشاً تركيّاً من السوريين يمكنها زجّه حيث تريد، وتستنفر في هذا السبيل كل إمكاناتها الإعلاميّة بالإضافة عامل التمويل القطريّ، ودعم المؤسسات والجمعيات الإخوانيّة في دول المنطقة وبخاصة في دول الخليج للاستمرار في بناء المستوطنات وإنجاز التغيير الديمغرافيّ.
من المستفيد من قصف مدينة عفرين؟
الإجابة على هذا السؤال تتطلب البحث في ركنِ الجريمةِ المعنويّ، ومن تتوفر لديه النية، فيما اتهامُ أنقرة لا يمكنُ الركونِ إليه، فهو اتهامٌ سياسيّ، ينطلقُ من سياستها الدائمة والعدائيّة تجاه الكرد، ولا يمكنها أن تدعمَ الاتهامَ بالأدلةِ الماديّة، ومعلوم الجهة التي تمتلك صاروخ كراسنوبول الموجّه بالليزر والذي اُستخدم في القصف.
فهمُ الحدثِ يتطلبُ وضعَه ضمن السياقِ العامِ للأحداثِ والسجالِ السياسيّ حول عفرين، ويُطرحُ السؤالُ حول الجهةِ المستفيدةِ من القصفِ، ووفقَ الرؤيةِ الكرديّةِ فإنّ قضيةَ عفرين لا تنفصلُ عن مجملِ الأزمةِ السوريّةِ، ولا يمكنُ إنهاء الاستيطان في عفرين دون عودة المستقدمين من ريف دمشق وحمص وديرالزور وحماه وسواها إلى قراهم وبلداتهم. وهو ما يحتاج حلاً شاملاً للأزمة، وبذلك يدركُ الكردُ محدوديّةَ العملِ العسكريّ، وأنّ الثقلَ سيكون للجهود السياسيّة والتوافقاتِ بين مراكز القرار، وألا يتجاوزوا حدود العملِ المقاوم الذي يستهدفُ مقرات الاحتلال وميليشياته. والقصفُ لا يتوافق مع طبيعةِ العملياتِ التي ينفذها أبناء عفرين، والتي تقتصر على عملياتِ كرّ وفرّ والدخولِ في اشتباكاتٍ محدودةٍ غالباً ما تكونُ في قرى الأطراف، إلا أنّ الهجوم الصاروخيّ كان كثيفاً وكان عددُ الضحايا كبيراً. ولم تُستهدف مواقعُ للاحتلالِ التركيّ ولا مقراتِ الميليشياتِ، وكان معظمُ الضحايا من غير العسكريين والمسلحين.
يُذكر أنّ سلطات الاحتلال التركيّ منعت يوم القصف الإعلاميين والناشطين من دخول المشفى الذي أُسعف إليه المصابون، وسمحت فقط لمراسل وكالة الأناضول الحكوميّة التركيّة، لضمانِ حصريّة المعلومات، إذ لا زالت منطقة عفرين المحتلة مغلقة أمام وسائل الإعلام، ولا تسمح سلطات الاحتلال إلا براويتها الوحيدة عن مجريات الأحداث.
الأمرُ الذي يلفت الانتباه أكثر هو استهداف المشفى الرئيسيّ في المدينة، وتنصُّ المادة 18 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12آب 1949 على أنّه لا يجوز بأيّ حال الهجوم على المستشفيات المدنيّة المنظمة لتقديم الرعاية للجرحى والمرضى….، وعلى أطراف النزاع احترامها وحمايتها في جميع الأوقات.
وسبق أن خرج المشفى عن الخدمة في آخر أيام العدوان التركي على عفرين في 15/3/2018، وأسفر القصف يومها عن 16 شهيداً بينهم امرأتان حُبلتان، ومرّ الحادث بدون صخبٍ ولم يحظَ بالتنديد والاستهجان والرفض، لأنّ الضحايا كانوا كرداً، ولأنّ توافقاً دوليّاً كان قد حصل حول احتلال عفرين بأيّ ثمنٍ! وبذلك، لم يعدِ السؤالُ يتعلقُ بالقصفِ، بل بطبيعةِ المواقع المستهدفة، وبالتالي التوظيف السياسيّ للحادث، وما يمكن أن يليه من مواقف.
والإجابة على سؤال من الطرفِ المستفيد من القصف؟ هناك من أراد أن يبعثَ برسالةٍ مصبوغة بالدمِ لتكونَ أكثر تأثيراً، والقصف لم يحقق أيّةَ أهدافٍ عسكريّةٍ، بل أن يتم استثماره لتحقيق أهدافٍ سياسيّةٍ، يتم ترجمتها لاحقاً بعملٍ عسكريّ، وفي هذا السياق جاءت دعوة المدعو «نصر الحريريّ» لأنقرة بالقيام بعملٍ عسكريّ في سوريا لتكتملَ الإجابةِ، وهي تتوافق مع سياسة احتلال عفرين بمشاركةِ مسلحين سوريين، بحجة افتراضيّة هي الأمن القوميّ، واليوم تحضّرُ أنقرة لعملٍ عسكريّ محتملٍ في منبج، وتحتاجُ ذرائع القيام بذلك، فكان القصفُ، ومن بعده رسالة المدعو «نصر الحريريّ»، وليتضح كاملُ المشهدِ بربط القصفِ الصاروخيّ مع محاولة استثمار الأحداث التي شهدتها مدينة منبج مؤخراً، بالتوازي مع محاولة أنقرة ترميم علاقتها مع واشنطن.
* جريدة الوحـدة – العدد /331/- حزيران 2021م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).