الوطن هو ذات المرء تماماً… المرأة والرجل كائنان متوحدان، كوكبنا يفتقد إلى الجمال الفطري الحقيقي للأشخاص، يفتقد إلى الروح الصادقة
«الفنون بمختلف فروعها من موسيقى ورقص وغناء ورسم ونحتٍ وفن تشكيلي، إلى جانب الأدب والشعر والثقافة، تساهمُ في إغناء الحياة الروحية للشعوب وإثرائها، وتتحول إلى جسور وقنوات تواصل بين الأقوام والشعوب لتزيد من التقارب والتعايش المشترك، وتعزيز أسس السلام على هذه الأرض، والعمل معاً يداً بيد على نبذ العنصرية والاستعلاء والعنف والتوحش… ولتسليط المزيد من الضوء على الفن التشكيلي، وفي ديار الغربة، كان لنا هذا اللقاء مع الفنانة التشكيلية الكردية ابنة الجزيرة السيدة جنكيمان عمر»
• في بداية هذا اللقاء، نرحّبُ بالفنانة التشكيلية جنكيمان ضيفةً عزيزة على صفحات «ثقافة وفن» في جريدة «الوحـــدة»، ولتكن البداية نبذة مختصرة عن حياتك، من الطفولة في مرابع الصبا إلى بداياتك مع هذا الفن الجميل الذي تتحفين به محبي فنك والمهتمين به.
– جنكيمان عمر هي ابنة المناضل الراحل درويش ملا سليمان، لم يتسنَ لي مشاهدة ومراقبة أبي كما أغلب الأطفال، إذ أنه كان دوماً غائباً عنّا وعن الأنظار بحكم السياسة في الشرق الأوسط، وبالأخص قمع النظام السوري للكُـرد ولأغلب الأطياف التي كانت تعيش ولم تزل في سوريا. حاولت مراراً مراقبة الأفق عبر النافذة السرية في بيتنا البعيد عن قريتنا البعيدة، كي أخطف منه طيف أبي الملون، كنت دوماً أراقب الأطفال في الحي إذ يلعبون ويتقاتلون فيما بينهم، كان شغفي الوحيد العودة إلى البيت ومراقبة تلك الألوان التي تسدلها الشمس في لحظات الغروب علينا، كان شغفي أيضاً انتظار أبي، جلىّ ما أتذكره هو ذلك السلم الخشبي في بيتنا البعيد القريب، ذلك السلم الذي كان على أهبّة الاستعداد لإبعاده عنا وتيهه عنا وعن العالم.
في اللحظات تلك – التي كان الأطفال فيها يلعبون – ومن ذاك المنظور الأفق حيث كنت ربيبته أراقب اللون حاولت مراراً تقليد ما أراه، ولكي أُرضي أبي الغائب البعيد بدأت برسم صورة مصطفى البرزاني كما كأنه كان ندراً فيعود إثره، لم يعد أبي، لذلك رسمت صورة ليلى قاسم، وهكذا كنت أرسم دوماً الصور القريبة لقلبه الطيب على أمل عودته.
كان أبي يراقبني من خلال ذاك الطيف الذي كانت السماء ترسله إلي من خلال نافذتنا، لذلك انتابني شعور مريب، هو إذا ما واظبت على الرسم سيعود أبي إلينا، عاد أبي وواظبت على الرسم بعد ذلك كما لو كان أيضاً وعداً خفياً، إثر ذلك، تحول أبي إلى ذاك الشعاع الذي يهبط من مكان خفي على لوحة أي كائن يسعى في سبيل الرسم، أبي كان الطيف ذاك، أبي كان الشعاع ذاك الذي هبط مراراً مراراً من النافذة – أبي تحول إلى اللوحة إذ غاب عنا مجدداً هرباً من النظام السوري حيث دولة ألمانيا، قُتل أبي بعد سنوات على يد نازي كان قد توعّد أول أجنبي يصادفه بعد خروجه من السجن، طرق أبي بمطرقته على رأسه، الأمر الذي دفعت بالحكومة الألمانية إلى طلب الدعوة إلي لمشاهدته قبل موته، ووجدتني من دون إذن مني هنا، حيث أنا الآن في دولة ألمانيا.
تركت إثر ذلك بيتنا وتلك الأطياف المتعددة التي كانت تدلو من السماء إليّ، إلينا، تركت أيضاً كل ما عشته في تلك المدينة دراساتي، المعاهد، الذكريات المرتبطة مع أبي، وجئت إلى هذا المكان وشاهدت أبي جثة دون أن تراه عيني.
لم أستوعب قط، لم أستوعب بتاتاً، أبداً، أني سأصطدم مجدداً بذاك الطيف الذي كان يشع عبر النافذة – نافذة غياب أبي – لم أستوعب لسنوات عديدة ما كان وما حدث وما سيحدث في مكان بعيد، بعيد عن تلك الأمكنة التي عشناها كحالة تشرد إثر رهاب النظام السوري، أمكنة مثل القامشلي، حلب، والعديد من قرى عفرين .
أبي الذي كان اللوحة الأم – كان اللوحة الأب، كان ولم يزل اللوحة، إذ وهب حياته لقومه، للدفاع عنهم، لصد الظلم عنهم، تصدى للاستبداد في سوريا، قُتل على يد نازي في دولة بعيدة، هنا حيث أنا الآن.
حاولت ولم أزل إعادة اللوحة التي كانت في ذهني لحظات الطفولة، سعيت في سبيل – رغم موته – إنقاذ أبي من تلك السنوات ((العجاف)) التي عاشها، أنا هنا الآن، أنا هناك الآن، أنا في أثر أبي / اللوحة. هذا جزءٌ مكثف جداً جداً، لأنني لو أكتب الأجزاء الأخرى من مسيرة حياتي، حتى ولو المختصر منها أو القليل القليل منها – مثلاً عن تقليدي لأمي الفنانة حقاً (مصممة الأزياء) وكيف كانت ترسم تصاميمها وأنا كنت أجلس بالقرب منها لأقلدها – لطال بنا الحديث كثيراً ولن ننتهي، إذاً فلنقف عند هذه النقطة وللحديث بقية.
• هل هناك مدارس عالمية مختلفة في عالم الفن التشكيلي؟ وإن كانت هذه المدارس موجودة، فإلى أيّ مدرسة تنتمي الفنانة جنكيمان؟.
– الانتماء بالنسبة لي مصيدة وخدعة إن وقعت فيها، قد تجد نفسك في وعكة نفسية، وستبحث من جديد عن شيء جديد، وستبقى في هذه الدوامة، هكذا ولن تكون أنت أنت. بكل الأحوال ثمّة مدارس عالمية عديدة في الفن عموماً (رغم أني ضد مصطلح المدرسة) وبكل تواضع، سعيت، ولم أزل أسعى في سبيل وجود الإنسان، وجود الكائن، جلىّ ما يهمني الآن وقبل ذلك.
• في نهاية شهر نيسان المنصرم، شاركتِ إلى جانب باقة من الفنانين الكرد في المعرض المشترك الذي أقيمَ في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، حيث شارك فيه فنانون من قرابة ثلاثين دولة؛ بماذا شاركتِ؟ وهل شاركتِ في معارض أخرى؟.
– في المعرض المشترك الذي أقيم في مدينة ستراسبورغ الفرنسية – في أحد متاحفها المهمة – شاركت بعملين في مجال الفن التشكيلي (الرسم): واحدة بعنوان (المرآة) والأخرى (الإطار). وبالنسبة للشق الثاني من هذا السؤال نعم شاركت بالكثير من المعارض الفردية والجماعية في سوريا وفي أوروبا. وأعترف إني غير مجتهدة من الناحية الإعلامية وحتى الآن لا أتقن فن الدعاية والإعلان عن معارضي أو مشاركاتي الفنية على أي حساب من حساباتي في السوشيل ميديا إلا نادراً جداً، ربما لأن الإعلام والدعاية هو من آخر اهتماماتي، مع العلم كانت هناك معارض لي إهداء لسوريا وشهداء سوريا في بعض المتاحف والصالات الألمانية، وقدّمت فيها عدة مشاريع عن قصة أبي من اللحظة التي كان يغيب فيها عنا إلى لحظة رحيله المفاجئ، حتى عندما كانت تأتيني أي دعوة فنية خارج مدينتي أو فكرة عمل أي رِبورتاج فني عني أو أي عروض فنية خارج وداخل ألمانيا في الغالب كنت أرفضها، وخاصة بعد الثورة السورية بسنة تقريباً، ابتعدت عن الإعلام وعن العروض وعن الآخر بشكل عام وفضلت أن أعمل بصمت حتى هذه اللحظة، من الآن فصاعداً أود أن أكون نوعاً ما قريبة وحاضرة ومتواجدة أكثر.
• ما هي مساحة الوطن، المرأة والبيئة في لوحات جنكيمان؟.
– الوطن – ربما العديد من الناس تحدثوا عن هذا الأمر- لكن من منظوري هو ما أرسمه، بكل الأحوال، الوطن هو ذاكرة المرء ومستقبله هو أحلام المرء، ويمكن القول أن الوطن هو ذات المرء تماماً، وإضافة على ذلك، بالنسبة لي على الأقل هو تلك النافذة التي ينظر منها المرء إلى داخله ويبصر ذلك الضوء الخفي، أجل النور الذي يرشده إلى حيث الأمان المطلق، حتى هذه الأخيرة ربما صعب تحقيقها في حياتنا الأرضية التي شوهها الإنسان بسبب البرمجيات المؤلمة والخاطئة التي ترعرع عليها ومعها وفيها وابتعد عن فطرته وعن حقيقته. أما بالنسبة للشطر الثاني لسؤالكم، بالنسبة إلي المرأة في أعمالي، أنظر إليها كما لو أنها كائن متماهي مع الرجل في اللوحة، سيما أننا بنات وأولاد بيئة شرقية كانت المرأة فيها تساهم ولا زالت تساهم دوماً إلى جانب الرجل في بناء البيت، الحراثة، الحراسة – حراسة البيت، حراسة القطعان – كانت المرأة مساهمة بكل الأحوال في بناء البيت، المكان، القرية، البلد. لا أستطيع بل لا أريد الادعاء بأنني مع المرأة كونها مظلومة، لأنني أعتبر مفردة حقوق المرأة التي تطالب بها المرأة بحد ذاتها حالة عنصرية ونقص اتجاهها، طبعاً هذا من وجهة نظري، ربما هذا الرأي قد يزعج الكثير من الجنس اللطيف، لكن بالنهاية لكل منّا فكره الخاص به وعلينا التقبل، في كافة الأعمال سعيت ولم أزل في سبيل دمج ملامح المرأة مع ملامح الرجل، رأيت في هذا الشيء أمراً ربما يساهم أو قد ساهم حقيقةً في بلورة ذاك العيش المشترك، ذاك الإطار الذي ساهمت البشرية في سبيله، ألا وهو، إنقاذ الكائن من الظلم، ما تعيشه المرأة يعيشه الرجل، كذلك لست قادرة على إرغام نفسي على أن أُفضل المرأة على الرجل أو الرجل على المرأة، بكافة الأحوال أشعر دائماً أنهما كائنين متوحدان، يعبق منهما رائحة الحب وبنفس الوقت تلك القسوة الأزلية والأبدية للأسف- تلك التي يعيشها البشر على كوكبنا.
• هل تترك الغربة تأثيراً ما على أعمالك؟.
– ربما جاوبت على هذا السؤال من خلال السؤال الذي سبقه، بكافة الأحوال أنا مؤمنة تمام الإيمان بأن الغربة مفهوم باطني، كثير يعيشون الحالة هذه، أي بما معناها، الغربة ليست مقترنة بغياب المرء عن المكان الذي ولد فيه، ربما قد تكون الغربة ذاك المفهوم السحري الذي ليس في مقدور أحدهم وصفها، ثمّة من يعيش داخل بيته وينتابه الشعور بالغربة، الأمر، مقترن بما يتمناه المرء، أحدهم بعيد عن المكان الذي ولد فيه، أحدهم بعيد عن أمنياته وأحلامه، أحدهم بعيد عن قلبه وعن النور الذي بداخله، أحدهم بعيد عن والدته، أحدهم بعيد عن أولاده ، وهكذا وهكذا، إذاً لا تعاريف للغربة.
• هناك قامات فنية كردية شامخة في عالم هذا الفن، حيث لها بصماتٌ واضحة، كيف تنظرين إلى الفن التشكيلي الكردي، وهل له خصوصية معينة تتعلق بالبيئة والمجتمع والتراث؟.
– العديد من الفنانين الكُـرد ساهموا بطريقة ما بحسب أساليبهم المختلفة في بلورة بل في صياغة ما عاشوه داخل بيئتهم. لست ناقدة، حقيقةً، كي أقيّم تلك التجارب – والتي أغلبها ثمينة وهامة للغاية.
بكافة الأحوال لكل مجتمع خصوصيته مثلاً: إذا ما تتبعنا الفن الهندي على سبيل المثال سوف نلحظ فيه ما يمس المجتمع الهندي، وهذا مثال كافي حسب اعتقادي بأن كل فنان يرسم البيئة التي ولد فيها – الأمر مقترن بأن الفن نتيجة تراكمات معينة، تلك التراكمات التي إذا ما نظرنا إليها بعيون دقيقة قليلاً نلحظ بحسب اعتقادي أنه لا يمكن تصنيف الفن على غير هذا النحو.
• في الختام، ماذا تود جنكيمان قوله لقرّاء «الوحـدة»؟
– في الختام أود أن أقول أننا نحتاج العودة إلى فطرتنا الحقيقية، نحتاج إلى خلوة حقيقية بين حين وحين، ننسحب من كل ما يحيط بنا من عوالم خارجية، وخاصة عالم السوشيل ميديا، وعن جميع الشاشات الإلكترونية والعالم الافتراضي، وحتى الواقعي، لكي نعيد توازننا ونُرتب دواخلنا، ونقضي وقتاً أكثر مع ذواتنا، لنكون أكثر صدقاً وإخلاصاً مع أنفسنا ومع الآخر، حقاً كوكبنا هذا الذي نعيش فيه وعليه يفتقد إلى الكثير الكثير من الجمال الفطري الحقيقي للأشخاص، يفتقد إلى الروح الصادقة، حقيقةً نحتاج أن نكون في مرتبة البشر لنعيد للكون توازنه، فالإنسان بعدم مصداقيته مع نفسه ومع الآخر ساهم في زعزعة العلاقات الطيبة وحتى خلخلة الكون كله، فكوكبنا هذا يحتاج الإنسان الجديد الذي يعطي الحب بوضوح، الذي لا يرمي أخطائه او انحرافه أو عدم مصداقيته على الآخر، وليعترف على الأقل بينه وبين نفسه لولا أن عنده استعداد لكل هذا لمى استطاع أي آخر التأثير عليه، تغيير مساره نحو ما لا يريد، هو المسؤول الوحيد، لأنه قادر على أن يرى نفسه خائناً أو سارقاً أو كاذباً إلى… إلخ. ماذا لو تسأل نفسك مرة واحدة كيف أتصل بنوري؟.
تتقدم «الوحـدة» بكل الشكر لفنانتنا القديرة على منحنا هذا الجزء من وقتها، آملين لها ولكل فنانينا الكرام النجاح والتألق.