مع السنوات الأولى لاستقلال الدولة السورية عن الانتداب الفرنسي، بدأ نظام الحكم السياسي مشواره بعدم الاعتراف الدستوري بوجود الشعب الكُردي، لذا بدأ الشعور الكُردي يتنامى بالحاجة إلى وضع سياسي ودستوري خاص بهم يُمكّنهم من ممارسة دورهم على وجه مساوٍ مع بقية السوريين، مما فُرضَ عليهم السعي لتوفير قوى سياسية تطالب بشرعنة حقوقهم القومية بصورة عادلة. وهنا ازدادت حاجتهم إلى ضمانات دستورية حقيقية لتوجهاتهم القومية السياسية والثقافية المُغايرة للآخرين.
في الحقيقة، إن وجود الشعب الكردي، هو وجود تاريخي أصيل بمناطقه الثلاث ذات الخصوصية الكُردية الثقافية والجغرافية (عفرين، عين العرب، القامشلي)، وإن استحقاق تواجده على أرضه ليس مُجرد تحوّل فكري أو سياسي ما، إنما هي حقيقةً علمية أقدم من وجود الدولة السورية التي مارس مختلف أنظمة حَكمها الاضطهاد والظلم القومي بحق الكُـرد منذ نشأتها.
الأنظمة السورية المتعاقبة لم تتقيد حتى بالمبادئ الدستورية التي سنّها ممثلوها، وافتقرت لأي اعتراف بالتعددية السياسية الحقيقية والقومية والثقافية في المجتمع السوري ككل، وتحوَّلت إلى حكم سياسي استبداداي لم يلتزم بدستوره، إلى أن وصلت إلى احتكار السلطة من قبل شخصٍ واحد ولعائلة واحدة ولطائفة واحدة بذاتها!
حيث تؤكد الوقائع والحقائق على وصف هذه الحقبة باللا دستورية، ببساطة حلولها «الدستورية» لم تصل إلى مستوى حل سياسي عادل مُستمر لقضايا كل السوريين، لذا لا بد من شرعنة دستور عصري جديد نظيف وعادل للدولة.
إن إنكار الدساتير للتنوع القومي والثقافي في البلاد، ومحاولة إلغاء الهوية الخاصة بشعوب وأقليات المنطقة، وفرض الهوية العربية بمنحى شمولي شعوبي مركزي (الشعب في سورية جزء من الأمة العربية)– دستور 2012، وإصباغ الدستور بالنزعة العروبية الإقصائية، وإشباعه بالبعد الإسلامي كهوية دينية (دين رئيس الجمهورية الإسلام، الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع) – دستور 2012! أفضى إلى اعتبار الشعب السوري على اختلاف قومياته وأقلياته وأديانه جزءاً من الأمة العربية الإسلامية جِهاراً بالقوة.
بهذا المنحى العنصري العروبي الإسلامي الذي تَجذر في مؤسسات الدولة والمجتمع، طغت الهيمنة السياسية لحزب البعث بإقرار دستوري (حزب قائد للدولة والمجتمع) على مقاس الفكر الإيدلوجي العفلقي عبر استفتاء شعبي نظّمه البعث عام ١٩٧٣؛ وقد تم تعزيز دور الدستور في إعلاء شأن وتفوق القومية العربية دون غيرها، وفي طبع الدولة بهوية قومية بعثية خاصة، مع تجاهل الإشارة إلى أي قوميات أو مكونات أو ثقافات أخرى غير العربية.
إلاّ أن احتجاجات عام ٢٠١١م أجبرت النظام السوري إلى إجراء بعض التعديلات الشكلية، التي لا تمس جوهر وطبيعة النظام القائم وتشريعاته، فأعلن عن دستور جديد في شباط 2012م، محافظاً على غالبية مبادئ ومواد الدستور السابق دون اعتراف جدي بأية قومية أو ثقافة أو لغة أخرى في البلاد.
وما جَعلنا نَهتم بهذا الموضوع الدقيق، هو اقتراب بداية الحل للكارثة السورية بالمفهوم الدولي، ونظراً لوجود مجموعة مبادئ دستورية مُتعلقة بحقوق ومصالح الأفراد والمكونات والشعوب وبمستقبلهم السياسي يجب الاستفادة منها، ولكي تَكتسب هذه المبادئ قيمة قانونية مُفيدة ومُوجبة في الدستور القادم، ومن المُلفت للنظر هي قواعد أعلى سمواً من قواعد الدستور الأخرى، تُلزم المُشرع إلى سن نصوص الدستور بشكلٍ صحيح، بحيث تتضمن حقوق تخص الأفراد والمُكونات والشعوب من خلال استقرار النظام السياسي، في ظل ما يعرف بـ»المبادئ ما فوق الدستورية» بحيث لا يُمكن الإخلال بتلك الحقوق. ومن هذا المنطلق بالذات يقتضي الحل الدستوري العادل للقضية الكردية في سوريا من خلال «إقرار ضمانات ما فوق دستورية» لا ينالها التغيير أو التعديل، إلا عبر طريق إجراء استفتاء لإرادة الكُـرد.
لذلك، من الضرورة القصوى التوصل إلى إقرار مبدأ المساواة القومية وفقاً لمبادئ ما فوق دستورية تضمن التعددية وتحمي حقوق القومية الكُردية وباقي الأقليات الغير العربية، وأن تُحترم تطلعاتها المشروعة، لسبب واحد وهو أن أي نظام حكم سياسي لمُستقبل سوريا، سيستمد شرعيته من قوة أغلبية قومية أو دينية أو طائفية، الذي سيشكّل تهديداً فعلياً للديمقراطية ويُقوض كل توجه حقيقي نحو المساواة بين السوريين.
من البديهيات تطلع الشعب الكُردي ومعهم الأقليات القومية الأخرى إلى وضع دستوري ديمقراطي عادل يسمح لهم ممارسة دورهم السياسي الفعلي والحقيقي إلى جانب الأغلبية العربية.
فمن الواجب القانوني للمُشرع السوري مستقبلاً، أن يستند إلى مبدأ الإقرار الدستوري لهوية الدولة الشاملة المُتعددة القوميات والأقليات والثقافات، فسوريا تتكون من قوميتين رئيسيتين عربية وكُـردية، إضافةً إلى الاعتراف بحقوق الأقليات الأخرى كالتركمان، السريان، الكلدان وغيرهم.
وأن ينص الدستور الجديد صراحةً على تحقيق المُساواة بين أبناء القوميتين العربية والكُردية في الحقوق كما الواجبات، كحل عادل للقضية القومية للكُـرد بمفاعليها القانونية الرجعية اتجاه السياسات العنصرية التي مُورست ضدهم منذ عقود، بالإضافة إلى ضمان المُشاركة السياسية والتمثيل المُتساوي لكل السوريين دون تمييز أو عوائق تتناقض مع حق السيادة، فالكُردي كالعربي كما غيرهما، والقضاء على الفوارق الاجتماعية والسياسية والثقافية بين مواطني الدولة السورية بهدف التأكيد على هوية المُواطنة المُتساوية لكل السوريين دون تمييز عنصري، ودون تفوق عنصر بذاته على غيره.
لتحقيق هذه المُساواة، لا بد من التوصل إلى نظام ديمقراطي عادل، بصيغة نظام حكم لا مركزي بين السوريين، كصيغة بديلة للدولة الاستبدادية المركزية الحالية، والإسهام في المُشاركة السياسية الديمقراطية المتكافئة.
* جريدة الوحـدة – العدد 328- آذار 2021م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).