القسم العاممختارات

اللحظات الأخيرة لفصل توأمين… سبعينيٌ يحمل تسعينية- تراجيديا عفرين!

شوكت شيخو*

لحساسية الموقف وفظاعة الحدث، رغم البحث في ثنايا الذاكرة وبين الكتب، لم يكن من السهولة بمكان، اختيار عنوانٍ جامعٍ ومُوفّق، يختزل المأساة وينسجم مع تشتت الأفكار والهواجس في آنٍ واحد.

وسط عفرين، شارع التلل، كان السبعيني «أبو نجم» يدير محلاً لتأمين لُقمةَ عيش عائلته، يلتقي الجيران حوله لشرب كأس شاي من شاياته المميزة بمذاقها ولونها الأحمر القاني، أو فنجان قهوة سادة، ولتبادل الآراء حول الأزمة السورية أو القضية الكردية مع بعض هواة السياسة، كما كان بمثابة كَمِرَةَ مراقبة لالتقاط ما يجري حوله من أحداثٍ ذات معنى، دون أن يخطر على باله بأن الخطوة الأولى للألف ميل في رحلته للمجهول ستبدأ يوماً من ذا المحل.

الخامس عشر من شهر آذار عام ألفين وثمانية عشر، لم يكن بنظره يشبه الأيام الثمانية والخمسون، التي مَرّت على عفرين ذاك الشتاء، فما شهده من تقلبات، أعادت بذاكرته للسويعات القليلة التي سبقت حرب تشرين عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، التي شارك فيها أثناء خدمته الالزامية كقائد جماعة ورامي رشاشٍ رباعي ١٤،٥ مُضاد للطائرات؛ شتَّان ما بين مُتابعٍ للأحداث ورامٍ للرشاشٍ بالجولان، وبين حرب تشرين وغزو عفرين، مع تباين الأهداف، فقد تماثلت الأجواء، بين خريف حوران وربيع كرداغ/عفرين.

لكل فعلٍ مؤشراتُه، وقد تعددت المعطيات كما المؤشرات، بأن المنطقة مُقبلةٌ على أحداثٍ خطيرة لن تُحمَدَ عُقباه! كسوفٌ للشمس وأجواء مُغبرة، هكذا تراءى له على الأقل، شوارعُ كادت أن تخلو من الحركة ومن العوائل النازحة من القرى والتي كانت تفترش الأرض أو ظهر آلياتها قبل يوم، مثلما أثارت مخاوف «أبو نجم» إعادة تموضع نقطة المراقبة الروسية من معسكر الطلائع في كفرجنة إلى بلدة تل رفعت، ورسالة الرئيس  بوتين للرئيس الأسد التي حثَّته للتأقلم مع المستجدات على الحدود الشمالية لبلاده، إبّان التهديدات والتحضيرات التركية باجتياح عفرين، وكذلك الإقدام المنقطع النظير لأهالي عفرين على اقتناء الحقائب السفرية، الذي كان تأثيره أشدُّ وطأةً على النفوس، من ليلة القصف نفسها؛ أما الصورة التذكارية لبعض أعضاء حزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا بمكتبه في الأيام الأخيرة من الحرب، لم تكن بحاجة إلى جُلّ عناء، بأن وراء الأكمة ما وراءها؛ كما أن كلمة أحد كوادر حزب الاتحاد الديمقراطي بساحة آزادي ذلك اليوم، التي أكد فيها على استمرار المقاومة، وبأن تركيا لن تدخل عفرين إلا على أجساد المدافعين عنها، كانت بمثابة تحية وداعٍ أخيرة ليست إلاّ! لتثبت الوقائع فيما بعد، بأن المشهد لم يكن يحتمل إلا التفسير عَينه.

دونما تفكير وبخطى مُثّقلة، توجه الرجل إلى مكتب حزب «الوحدة» لعلّ من خبرٍ يُفرِج هَمه، جَمعٌ من الأصدقاء موزّعون في الغرف وخارج المكتب، يتداولون آخر الأخبار الواردة من أطراف البلدة، أو بانتظار فرصة اللحظة الأخيرة، تُجنّبُ عفرين من خطرٍ داهمٍ بات قاب قوسين أو أدنى. اخترق المكان جرس هاتف أحدهم، اتصالٌ من أخيه في قريتهم كوركا/ Gewrika، التي استولت عليها المرتزقة، سرعان ما تغيرت ملامح المُتّلقي كنذير شؤومٍ، أو برقية لا تحتمل التأجيل، يُخبِرُهُ فيها على لسان أحد المسلحين! أن عفرين سَتُقصف الليلة.

لم يكن الخبر إلا تأكيد عمّا كان يخشاه «أبو نجم» ويُشغِلُ فكره، حيث نزل كالصاعقة على الموجودين، ليتوادعوا وعيونهم تملؤها العبرات والقلق، وكأن ما مِن لقاء مرتقب يجمع الأحبة؛ ليُسرِعَ الخطى إلى منزله بجانب حديقة التجارة، فيرى عائلته على أحَرِّ من الجَمر تنتظر قدومه، للانتقال والمبيت في منزلٍ لقريب، دون استئذان صاحب المنزل، أو حتى الاستئناس برأيه، حيث التحركات اللا طبيعية منذ الصباح في حيّهم، الذي كان يضم إحدى المؤسسات المدنية للإدارة الذاتية، لم تكن تحتمل التأويل، إلا كونها عملية تفخيخ ما قبل الانسحاب. ليس هناك وقت للتفكير وزوجة ابنه في الأشهر الأخيرة من حملها، ووالدته التي تجاوزت الخامسة والتسعين من عمرها، انهارت قواها مذ تطرق إلى مسامعها احتمال مغادرتهم لعفرين، ليضطّر لحَملها على ظهره للطابق الثالث في الشقة، التي قضوا فيها ليلتهم بانتظار أقدارهم، وقد غدت الأقدار بيد مَن يملك القوة.

مشاهد دراماتيكية لا تفارق مُخيّلته، ولا تنفك تمرّ أمام ناظريّه كشريطٍ سينمائي، رغم مرور ثلاث سنوات عليها، كيف لا! وليلةً شاهد فيها بأم عينيه اقتلاع الزيتون من مدينة التآخي والسلام، وأقذرُ عملية فصل توأمين (الكُـرد و الداغ) في التاريخ، من قبل حكومة حزب العدالة والتنمية، والمرتزقة السوريين باسم الدين، والدين منهم براء كبراءة سيدنا يوسف من دم أخيه؛ مشاهدٌ تُعاد نشرها للتخفيف من وطأة المُصاب الأليم، ولتذكير الأجيال بما حصل ذات يوم في عفرين، وبأن الكُـرد لا يتخلون عن الداغ وهما صنوان عاجيان لا ينفصمان مطلقاً.

لعلّ أكثر المشاهد تراجيديةً وأشدُّها وخزاً لضمير السبيعيني، حين غدت عفرين الخيرات غنيمةً لأسراب الجراد، وهو الذي يحمل والدتُهُ التسعينية، متنقلاً بها من منطقة إلى أخرى على ظهره أحياناً و بالسيارة تارةً، إلى أن أوصلها لأخيه بمدينة استَنبول التركية، لتنتقل إلى جوار ربها في آذار 2021، وليُحرَمَ من حمل نعشها بعد أن أصبح لاجئاً، وعفرين تئن بين أيادي من هم على شاكلة «أبو عمشة»؛ ومازال مؤمناً بالحكمة القائلة لو دامت لغيرك لما آلت إليك، لاسيما وحسابات الأسواق التركية لم تعد تتطابق والصندوق، والرياح لا تجري كما تشتهيها السفن والسفّانا، واللعب مع الكبار في المستنقع السوري ليس بالأمر المستهان، لا ثوابت في السياسة، هناك مستجدات في سياسات الدول إزاء عفرين، بدأت تتكشف خيوطها للعلن، ومُحال أن لا يكون للكُـرد من موعدٍ مع التاريخ، لينال كل مُجرمٍ جزاء ما اقترفت يداه، إعادة الحق لأهله والقصاص من الجُناة جوهر العدالة.

* جريدة الوحـدة – العدد 328- آذار 2021م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى