الطاحونة من الناحية التقنية تعد وريثة الجاروشة أو الرحى الحجرية اليدوية، وهي عملية تطوير للرحى المنزلية (Destar)، التي مازالت تستخدم في العديد من مناطق كوردستان، وكلاهما ابتكاران موغلان في القدم، وينتميان على الأرجح إلى بيئة الشرق الأدنى الأوسع. إذ أن زراعته وجني محصول الحبوب بدأت منذ العصر الحجري الحديث، خاصة قرب سفوح جبال زاغروس وسنجار وفي أعالي الجزيرة الفراتية، بحسب أغلب علماء آثار ما قبل التاريخ: (جاك كوفان في كتابه الزراعة والألوهية) وكذلك جميس ميلارت (في كتابه أقدم الحضارات في الشرق الأدنى).
لقد تدرج الاعتماد على الحبوب من جرشه يدوياً بالرحى البسيطة حتى الوصول إلى الطواحين الهوائية والمائية، كذلك تلك التي تدار بواسطة الحيوان. فإنتاج الحبوب المطحونة (الطحين) وبالتالي الخبر، كان ومازال أساساً للحياة الاجتماعية، بل لوجود الإنسان نفسه.
لا شك أن الطواحين المائية هي ابنة البيئة، مرتبطة بوفرة المياه، وخاصة المياه الجارية. فحتى يتم بناء وتشغيل الطواحين المائية يجب أن يتوفر شرطان أساسيان:
الأول، وجود ماء جاري بتدفق جيد أو غزير. والشرط الثاني، وجود طبوغرافيا مناسبة، بمعنى توفر الأرض المائلة بمناسيب مختلفة، كالهضاب وسفوح الجبال، أو حواف الوديان العميقة، لتأمين جريان حرف للمياه وتوجيها بدقة. تاريخياً لم يتوفر هذان الشرطان إلا قرب سفوح الجبال، ومنها جبال كوردستان، وكذلك في أعالي الهضاب غير الجافة مثل القسم العلوي من الجزيرة الفراتية.
لذلك احتضنت منطقة أعالي الجزيرة الفراتية وعموم مناطق كوردستان، خاصة تلك المحاذية لمسارات الأنهر الطواحين المائية منذ عهود قديمة، وخاصة مناطق ديار بكر وبوتان القريبة من الأنهر. نظراً لكثرة الأنهر الفرعية، ووجود العديد من الينابيع الغزيرة، بدءًا بمنطقة دشتا هسنا (منطقة ديرك)، وصولاً إلى ضفاف نهر الجق جق قرب نصيبين، فقامشلو الحالية، مروراً بمنطقة آليان العريقة. فقد تم استثمار هذه المياه الجارية في تشغيل وتدوير الطواحين المائية قبل سقاية الأرض.
لقد كانت للطواحين أهمية كبيرة ومركبة في العالم القديم، فهي آلة كبيرة، منشأة هندسية ذات تأثير اجتماعي عميق. إن المتتبع لتاريخ العمران الريفي خصوصاً والحضري عموماً يجد أنه كانت عبر التاريخ للطواحين أهمية ودور رئيس في رسوخ واستدامة هذا العمران نفسه، فلا حياة اجتماعية مستقرة بدون إنتاج مستدام للخبز. إذ أن المادة الأساسية لغذاء الإنسان في الشرق الأدنى كان القمح – الخبز، الذي قد يعود تاريخ إنتاجه على الأرجح إلى الألف العاشر ق.م، بحسب أغلب المصادر.
كما أن طبقة الفلاحين المستقرة قد تشكلت وتبلورت حول إنتاج القمح – الخبز بشكل رئيس. فضلاً عن أنه كان للصراع على هذا المنتج – الغذاء الرئيسي في العالم القديم دور رئيس في رسم مسار الأحداث وطابع الصراعات البينية للمجتمعات المتجاورة.
لقد كان الصراع على الخبز – الغذاء في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية محددة صريحاً. حتى أثر في التغيير المفاجئ لمجريات الأحداث التاريخية، ومنها منطقتنا. ونظراً لعدم وجود احتياطي غذائي كبير في المجتمعات الفلاحية، فضلاً عن فقدانها في المجتمعات البدوية، لذلك فالمناطق التي كانت تمتلك الطواحين كانت تمتلك أداة إنتاج مهمة، بل كانت تمتلك سلطة مادية حقيقية على محيطها. وهذا ما استنتجتاه من تاريخ العمران في الجزيرة الفراتية، فلقد كانت سلطة إنتاج القوت بصفة مطلقة بيد المجتمعات الفلاحية الكوردية، وهذه السلطة الأساسية التي كانت بيد الكورد عبر التاريخ: سلطة انتاج القوت سببت له معضلات إضافية، وجذبت الغزاة. إذ كانت جميع القرى الكوردية تحتوي على طواحين خاصة بها فضلاً عن تنور (فرن) لكل بيت أو لعدة عائلات متجاورة.
لقد كانت لتقنية استخدام الماء لتدوير الآلات عموماً، الطواحين خصوصاً، جذر تاريخي عميق في مناطق بوتان وآمد (ديار بكر)، حيث ازدهرت تماماً إبان الدولة المروانية – الدوستكية بعد الألف الأولى للميلاد. هذا ويعيد العالم الأثري طه باقر تاريخ الاهتمام بالطواحين في مناطق أعالي نهر دجلة إلى ما قبل هذه الفترة بكثير.
كما أفترض بحسب اطلاعي أن كثرة الطواحين في منطقة بوتان (شمال شرق الجزيرة الفراتية) يمكن ربطها بتطور علم الميكانيك التطبيقية محلياً، وكذلك وفرة الصناع والحرفيين المهرة، فضلاً عن الطحانيين (Qeraş)، إذ أن بديع الزمان أبو العز اسماعيل بن الرزاز الجزري، وهو من مواليد مدينة جزيرة ابن عمر (1136-1206) م قد ألّف أول وأهم كتاب في علم الميكانيك الآلات المائية (بحسب محقق الكتاب البروفيسور هيل)، المعتمدة بشكل رئيس على طاقة المياه، وهو كتاب: (كتاب الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل). وهو كتاب عملي نادر، طبق بعض ما ورد فيه على أرض الواقع، في المدن الكوردية: فارقين وآمد (ديار بكر) وجزيرة بوتان. نرفق ربطا صورتان للآلات المائية التي اخترعها ابو العز الجزري.
استمر هذا التراث التقني لعهود طويلة حتى اشتهرت منطقة جزيرة بوتان بصناعة حجر رحى (الطواحين). فقد ذكر الباحث الكبير عبد الرقيب يوسف: «وكان يصدر من منطقة الجزيرة/بوتان الملح أيضاً، وكذلك أحجار الرحى/الطاحون من النوع البازلتي الأسود وكانت قيمة الحجر الواحد منها في العراق خمسين ديناراً أو أكثر. وكانت أحجار الرحى تشكل مادة تجارية رابحة كانت تورد دائماً من الجزيرة بواسطة الأكلاك/القوارب إلى الموصل والعراق حتى الحرب العالمية الأولى. ولا تزال مجموعات من أحجار الرحى الجاهزة للتصدير تشاهد متروكة على شواطئ دجلة فوق جزيرة بوتان، حيث تركت لما أقفل الطرق بسبب تأسيس الحكومة العراقية». (الحضارة الدولة الدوستكية، ص327).
إن الطواحين المائية التي كانت تعمل في أعالي الجزيرة السورية إلى فترة متأخرة كانت امتدادا لهذا الإرث الحضاري وترجمة للخبرة والتقنيات المتوارثة في المناطق الكوردية.
ومن الملاحظ أنه من الناحية التقنية أن المنشأة كانت تشيد من المواد المحلية تماماً، كالحجر والخشب مع قليل من المعادن. حيث جاء استخدام مادة الاسمنت سواء كملاط، أو كطبقة تغطية للقنوات الناقلة للماء وآبار التشغيل في فترة متأخرة، وعلى الأرجح بعد عام 1950. كما تم ملاحظة وجود عدة مطاحن بأكثر من بئر تشغيل، بما معناه وجود أكثر من حجر طحن داخل منشأة المطحنة الواحدة. وهذا دليل على أن الطاقة الإنتاجية للمطحنة كانت تزداد بحسب الطلب. وثمة مصادر تؤكد أن الطحين المنتج في هذه المطاحن كان يصدر لمناطق بعيدة تتجاوز جبل سنجار. طواحيننا دليل عراقة وأصالة مجتمعاتنا وينبغي الحافظ عليها وتوثيقها، واستثمارها اجتماعياً وسياحياً.
* جريدة الوحـدة – العدد 328- آذار 2021م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).