إذا أعيد النظر في التاريخ الحديث فسنجد أن هناك حالة من عدم الاستقرار في دول المنطقة سواءً كان في العراق أم إيران أم تركيا أم سوريا، وذلك بسبب الصراع السياسي ما بين هذه الدول والصراع الداخلي، الاثني والطائفي، داخل كل دولة بالإضافة إلى الدكتاتورية والاستبداد وبعض السياسات العنصرية والإقصائية التي تمارسها حكومات هذه الدول تجاه شعوبها ومكونات مجتمعاتها. جميع هذه الدول هي دول تتميز بتنوع مكوناتها، لكن كل القوى الحاكمة فيها لم تتوفر لديها إرادة الاعتراف بهذه التعددية عن قناعة حقيقية ولم تتبنَ أو تمارس ما يساهم في حماية هذا التنوع، ولم تنظر إليه على أنه عامل قوة لا ضعف، فحاولت عبر السياسات العنصرية إلغاء هذا التنوع عن طريق القومية تارةً، وعن طريق الدين في أماكن أخرى. فبدلاً من أن تعمل هذه السلطات على إرساء قواعد التماسك الوطني رجحت كفة الشرخ المجتمعي وإنهاء الثقة بين مكونات المجتمع، عبر خلط الأوراق وبث الفتن بين القوميات والأديان والمذاهب، وذلك لكي تجد مبرراً للتدخل والقمع وبالتالي تبقى في السلطة. كما أن بعض الأيادي الخارجية لم توفر جهداً في سبيل دعم هذا التوجه.
ما يتوجب فعله اليوم وأمام هذا الواقع في سوريا، هو البحث عن قواسم مشتركة بين السوريين والبحث عما يجمع المكونات لا عمّا يكون السبب في تفككها. يجب بناء الثقة وبناء التماسك المجتمعي داخل إطار جامع وهو الدولة الوطنية، دون أيديولوجيات قومية أو فردية أو دينية أو مذهبية.
فمع تخبط الحركة الكردية في سوريا وعدم وجود مشروع واضح المعالم وقابل للتطبيق، ومع إشكالية التمثيل القائمة حتى ضمن الوسط الكردي نفسه، بالإضافة إلى رفض كلٍ من المعارضة والنظام معظم ما يتم طرحه من قبل الأطراف الكردية خاصةً فيما يتعلق بشكل الدولة، ومع عداء بعض الدول للحقوق الكردية وغض نظر بعض الدول عنها، بالإضافة إلى إهمال طرح الملف الكردي من قبل أي جهة دولية للنقاش، فقد بات لزاماً محاولة البحث عن سبل أخرى يمكن من خلالها ضمان حقوق الأفراد والمكونات في سوريا المستقبل، مع الاحتفاظ بالخصوصيات وضمان عدم خلق ديكتاتوريات محلية أو مركزية، أو أغلبيات برلمانية مستقبلية تتحكم بكل مفاصل الحكم وتلغي الآخر بحجة الأغلبية وممارسة الديمقراطية.
من هذه السبل والطرق، اللجوء إلى التوافق بين الأطراف السورية كافةً على مجموعة مبادئ فوق دستورية، تتجلى في شكل اتفاق سياسي عام يضمن حقوق الجميع ويبدد تخوفات كافة الأطراف، وتكون أساساً ومنطلقاً لصياغة الدستور السوري المُرتقب. ومن هذه المبادئ مثلاً: وحدة البلاد، لامركزية الدولة، شكل الدولة ونوع الحكم، فصل الدين عن الدولة، فصل السلطات، استقلالية القضاء، الكوتا النسائية والحقوق الأساسية للمكونات والأقليات.
ولكي يتم التوافق على ومن ثم تطبيق هذه المبادئ والنصوص، والتي بدونها لا نعتقد أنه يمكن الوصول إلى حلول عامة شاملة في سوريا، يجب البدء بحوار جدّي وجديد مبني على أساس أن كل السوريين تهمهم المصلحة السورية الجامعة، وأن الوطنية التي ليست حكراً على حاملي هوية معينة. حوار سوري هدفه بناء الثقة أولاً وإرساء قواعد العيش المشترك ثانياً، وذلك لقطع الطريق أمام التدخلات الخارجية وخصوصاً الإقليمية منها. حوار بين الجميع ومع الجميع، فلا مستقبل لأي عملية سياسية ما لم يكن الجميع حاضراً، وما لم تكن مطالب وتخوفات الجميع مطروحة للنقاش. حوار على طاولة تجمع كل المكونات بلا استثناء، بناءً على عقلية جديدة قائمة على التسامح مع الأخذ بعين الاعتبار تعويض كل المتضررين والمظلومين من تبعات السياسات الخاطئة. حوار نحو التفكير بجدية بما يجمع المكونات ويضمن مستقبل الأجيال السورية القادمة. حوار على أساس الاعتراف بالآخر واحترام الخصوصية وصون التنوع الاثني واللغوي والثقافي والديني، الذي بدوره سيساعد في بناء النسيج المجتمعي الوطني في سوريا.
* الجزء الأخير (النقاش والتوصيات) من بحث بعنوان «الحركات السياسية والمدنية الكردية في سوريا وإشكالية التمثيل»- كانون الأول 2020م، برنامج الشرعية والمواطنة في العالم العربي- وحدة أبحاث الصراع والمجتمع المدني في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية LSE.
* جريدة الوحـدة – العدد 327- شباط 2021م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).