في حين كانت الشعوب تنشد من ثورات الربيع العربي، الكرامة والحرية، أرادتها أمريكا كما يبدو مَطيّة، لتمرير مشروع الشرق الأوسط الجديد – حدود الدم – الذي وضعه الضابط المتقاعد رالف بيترز، لإعادة رسم خارطة المنطقة، خدمةً لمصالحها الاستراتيجية بعيدة المدى، عِبرَ تقسيم دولٍ قائمة، وضَمُّ مناطق من البعض منها لدولٍ أخرى، بحيث تَكبُر دول وتَصغَر أخرى، وبما يضمن تشكيل دول عرقية ودينية جديدة، ودمج إسرائيل فيها، لإنهاء الصراعات التاريخية التي لم تكن على الوجود، وإنما على الحدود التي رسمها الأوروبيون الانتهازيون وفق مصالحهم الذاتية، كما جاء في حيثيات المشروع، وما يهمنا؟ تلك الجزئية المتعلقة منها بالوضع السوري، وانعكاساتها على القضية القومية لشعبنا الكردي.
آليات المشروع؟ الثورات وما أفرزتها من صراعات بين قوى متناحرة لنشر الفوضى الخلاّقة، وتوفير الأرضية للتدخلات العسكرية الخارجية. أدواته؟ الراعي الأمريكي والأنظمة الإقليمية وميلشياتها العقائدية أو الارتزاقية، كسيّدُ الشهداء أو النجباء الشيعية المرتبطة بالنظامين السوري والإيراني، والسلطان سليمان شاه والجبهة الشامية وأحرار الشرقية الإسلاموية، المرتبطة بحزب العدالة والتنمية التركي، أما اختيار أبو عمشة وأبو شقرا وخيرية أو غيرهم لم يكن مَحضُ صُدفة، وإنما لتتناسب أدوارهم وطبائعهم الإجرامية، أما التغاضي عن انتهاكات اللاعبين وتحقيق بعض مصالحهم الذاتية، للسير بتنفيذ المشروع وفق الخطط المرسومة، وبما يحقق أهدافه.
لكل زمانٍ سلطانه، وللرجال أدوارهم في صناعة التاريخ سلباً أم ايجاباً، ولانتصار أية قضية لابد من توفر ظروف ذاتية وموضوعية، وإن ثَبُتَ بالتجربة أن الأخيرة أكثر أهمية، فما قدمه الكُـرد عبر التاريخ من تضحيات، كافية لبناء دول، لا تأمين حقوقٍ قومية مشروعة في إطار هذه الدولة أو تلك، لكن كما يبدو أن تضحيات الشعوب ودماء شهدائها، وإن كانت موضع افتخار شعوبهم ودليل إصرارٍ على انتزاع حقوقهم، إلا أنها لا تدخل في حسابات الدول العظمى وشركاتها الاحتكارية مالم تتفق وأجنداتها، فلولا هنري كيسنجر لَما انهارت ثورة أيلول المجيدة، فلولا جورج بوش الأبن لَما كان إقليم كردستان العراق، ولولا الأزمة السورية لَما تَمكّن كُـرد سوريا من تشكيل فصيل عسكري، ولولا بوتين وترامب، لَما تجرأت تركيا احتلال عفرين أو كري سبي/تل أبيض أو سري كانية/رأس العين.
لسنا بوارد الدعوة لإهمال الجانب الذاتي وتَبَني الاتكالية، أو انتظار مُنحة بحق تقرير المصير لشعبنا الكردي، تتكرم بها دولة عظمى حين نضوج الظروف الموضوعية، ولا بصدد خلق حالة من الاحباط في الشارع الكردي، وإنما لتصويب مساراتنا النضالية وللموضوعية.
حيث ثِمَة مُعطياتٍ جَمّة على الأرض وأخرى قادمة، وإذا كان ما من ثوابت في السياسة لا حدود إقليمية مُقدّسة، لحين الانتهاء من تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، وإن لم يكن من خبراء في شؤون المستقبل، كما قال بن غوريون مؤسس إسرائيل، بغض النظر عن موقفنا حياله، إلا أن كل المعطيات تؤكد، ما من بوادر حلٍ سلمي نهائي للأزمة السورية، ولا من عودتها إلى سابق عهدها، لا من حيث الوضع السياسي ولا الجغرافي، وبقاؤها مُقسّمة إن لم تكن بصورة دائمة ربما لأَجَلٍ غير مُسمى، مما يتطلب مراجعة جريئة وموضوعية لتوجهاتنا، واعادة توليفها مع ما تشهدها المنطقة من تحولات جذرية، أما القفز فوق الوقائع، والتباهي بثوابت أتت أُكُلُها، إن لم يكن انتحاراً هَدّرٌ للوقت والطاقات، تخبط فعزلة ليس إلا.
كذلك ثِمَة أسبابٍ جَمًة لا تقف عائقاً أمام تلاقي قنديل وهولير وحسب، وإنما في كبح جماح صراعهما، أما تأثير المحوريّن على المفاوضات الكردية – الكردية، إلى جانب قوى خارجية لا يحتاج لدليل، والتصريحات النارية من قبل المحسوبين على الطرفيّن المُتفاوضيّن بين الفينة والأخرى، مالم تحمل أجندات خارجية، تعكيرٌ للأجواء والعودة بالأمور إلى نقطة البداية، وما تشهدها المناطق الكردية المحتلة، من قبل الفصائل الارتزاقية الموجهة تركياً، فحدّث وما من حرج، وما يعانيه المُهجّرون قسرأ في ظل الحصار وغلاء الأسعار، وانعدام فرص العمل، إن كان في شرق الفرات أو منطقة الشهباء، هم من يكتوون بنيرانها وأدرى بها، فما السبيل؟
لعل لنا في تجربة أحزاب الاشتراكية الدولية والعلمية، حول سبل تحقيق الاشتراكية في بدايات القرن العشرين خير مثال، فما إن تعثرت المناقشات حول نقاط الخلاف وأودت للشرخ والتنافر بينهما، سرعان ما تم الاتفاق على تناول نقاط التلاقي، وتأجيل المسائل الخلافية ليكون كلمة الفصل فيها للتاريخ – انهيار الاتحاد السوفيتي.
السياسة فن الممكن، أما العزف على الشعارات البراقة، والتغني بالقضايا الاستراتيجية على حساب المتطلبات المرحلية، تَهَربٌ من الاستحقاقات، وأولها تشكيل كتلة كردية على أساس برنامج الحد الأدنى من قبل الأحزاب الفاعلة، ومن ذوو الاختصاصات الأكاديمية، لتمثيل الكُـرد في المحافل الدولية وإيلاء الاهتمام الرئيسي، مالم يكن لاستعادة المناطق الكردية المحتلة في ظل المعطيات الحالية، أقلها لمسألة اخراج الميليشيات الارتزاقية منها، والعودة الآمنة للمهجرين منها قسراً إلى بلداتهم وقراهم، أما الانتظار لحين توزيع الأدوار والمناصب والواردات بين خمسين فصيل، لا ترتقي جُلّها لمستوى أحزاب، في حين تسربت معلومات، عن الاتفاق على برنامج سياسي دون الإعلان عن مضمونه بزمنٍ قياسي، رغم التباين في الوسائل النضالية والرؤى السياسية، بين البارتي والبيدا، مسألة فيها وجهة نظر.
لم يعد خافياً تململ الشارع الكردي من تشرذم حركته، وتعثرها في أداء مهامها، فما من مادلين أولبرايت للنطق بحكم غير قابل للطعن، ولا مُهدي منتظر يوزع المناصب بين قياداتنا بالقيراط، وربما ما من قضية ترى النور مهما كانت عادلة، ما لم تمر على مطبخ المخابرات المركزية الأمريكية، إلا أن تشكيل كتلة كردية لا تحتاج إلا لأيام، إن تم الانطلاق من مصلحة القضية، لا أجندات حزبوية أو إقليمية. فهل بإمكان الأطراف المتفاوضة، أن تكون مُخيّرة لا مُسيّرة بقراراتها وإن لِمَّرة واحدة؟ أو من خيرٍ يُرتَجى مِن أحزاب عاجزة عن تشكيل كتلة على أنقاض مأساتنا الكردية، وهل من شرعية لمن لا يملك قراره، ولا ينطلق في توجهاته من مصلحة القضية؟ أليس وجودوها كَعدمِها؟ مجرد استطلاعات رأي برسم الأحزاب الوطنية الكردية ليس إلا.
* جريدة الوحـدة – العدد 327- شباط 2021م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).