لعل المتابع للشأن السوري عموماً والكردي خصوصاً، يُلاحظ بوضوح الفروقات التي تتميز بها المناطق الكردية أو تلك الخاضعة لـ «الإدارة الذاتية الديمقراطية- شمال وشرق سوريا»، والتي تبلورت خلال سنوات الأزمة السورية المستفحلة وتداعياتها.
الكُـرد قاربوا السياسة والحراك الميداني في سوريا بخليطٍ من التصورات والشعارات وحتى المزاجيات، وتحت مؤثرات خارجية عديدة، خاصةً تلك المنطلقة من أطراف كردستانية والتي لا نزال ندفع ثمنها السلبي أكثر مما جنيناه من إيجابيات، أبرزها الاستقطاب الحاد بين «آبوجيين و بارزانيين» على حساب خصوصية القضية الكردية واستقلالية القرار السياسي الكردي في سوريا.
تأسست الإدارة الذاتية في المناطق الكردية كضرورة موضوعية وحاجة مجتمعية، كشكل من أشكال إدارة المجتمع لنفسه بنفسه، في ظل تراجع النظام الرسمي وغياب سلطة ومؤسسات الدولة تحت ضغط الانتفاضة الشعبية، بينما حَمَّلها الانقسام الكردي- الكردي الكثير من التبعات السلبية.
كانت الإدارة داعمة وحاضنة لوحدات حماية الشعب والمرأة YPG-YPJ ومُؤسِسَة لقوت الأمن الداخلي التي دافعت عن مناطقنا باقتدار وتضحيات جسام ووفرت أماناً واستقراراً ملحوظاً، وقدَّمت الإدارة خدمات كبيرة في مجال التعليم والثقافة واللغة الكردية والصحة والطبابة والبلديات والطاقة والأمن الغذائي وتوفير فرص العمل وتنمية الاقتصاد وغيرها، ولكن اعترضت مسيرتها صعوبات وظروف قاسية، أبرزها تلك الهجمات العدوانية من تنظيمات النصرة وداعش والجيش الحرّ، وآخرها احتلال تركيا ومرتزقتها لمناطق عفرين وسري كانيه/رأس العين وكري سبي/تل أبيض واستمرارها في الاعتداءات، وكذلك مضايقات النظام السوري لها، إضافةً إلى تَوَسُّع حجم المسؤوليات عن تلك المناطق المحررة من داعش (منبج والرقة وريفها وريف دير الزور…) وعن تشكيل قوات سوريا الديمقراطية وتبعات مهامها الكبيرة وموجبات محاربة الإرهاب، إلى جانب الحملات الإعلامية العديدة التي شُنت ضدها ولا تزال والنعوت التي أُلصقت بها بهتاناً «انفصالية، إرهابية، عميلة لأمريكا، عنصرية…».
وإن توفر هامشاً واسعاً للحراك السياسي والثقافي والعمل الإعلامي واحتراماً للتعددية المجتمعية في ظل الإدارة الذاتية، ولكن! مقومات الديمقراطية – المفردة الواردة في أسماء جميع مؤسساتها- تبقى متدنية مع وجود النواقص والسلبيات، أبرزها تغلغل الفساد وحالات سرقة المال العام دون محاكمات وعقوبات عادلة ورادعة للمرتكبين لها، في ظل الارتجالية والمزاجية في اتخاذ بعض القرارات وعدم وجود آلية إدارية مالية شفافة تحدد موازنة كافة الدوائر وأوجه الصرف والإيرادات، وغياب قانون ضريبي عادل، كذلك ضعف الكفاءات وانخفاض مستوى الأداء لدى المؤسسات وقلة المشاريع التنموية والانتاجية قياساً بالاستهلاكية منها والخدمية، وتلكؤ ديناميكية تأمين احتياجات المواطنين اليومية من غذاء وطاقة وغيرها.
كما أن وصاية العسكر- وهم ليسوا اختصاصيين- على كافة مفاصل الإدارة تُضعفها وتُقوِّض صلاحيات مجالسها، لذلك تَضْعُف الرقابة المؤسساتية وتنتعش حالات المحسوبية والفساد، إذ تنحصر بعض عقود التجارة وغيرها بأشخاصٍ محددين، ويتبوأ انتهازيون وضعاف نفوس أو مفتقدي مؤهلات مواقع المسؤولية بدلاً عن ذوي الكفاءة والنزاهة.
أما قانون الأحزاب الذي وضعته الإدارة مبكراً، ولم تكن منتخبة بَعد، ودون أن يحظى بإجماعٍ شعبي وسياسي، أجج الصراع الحزبي وفتح المجال أمام تمييع العمل السياسي والاعتداء على مكاتب وأنشطة حزبية، وسمح بتأسيس أحزابٍ تفتقد لأدنى مقومات العمل التنظيمي والسياسي، والتي زادت من تشويه المشهد العام للحركة الكردية في سورية.
والمشكلة الأساس هي في حشر السياسة والحزبوية في العمل الإداري، وخاصةً في مجالات التربية والتعليم والقضاء، التي تتميز بالحساسية والأهمية الكبرى في حياة المجتمعات، فما هو قائم في المجالات الأخيرة من إدارات ومناهج وكوادر وبرامج، لم تحظَ بَعد بتأييدٍ وقبولٍ شعبي عام، لِمَا يكتنفها من أخطاء ونواقص وضعف إمكانات وعدم توفر غطاء سياسي قانوني رسمي معترف به على الصعيد الوطني السوري أو الدولي.
علاوةً على ممارساتٍ تُسيء لسمعة الإدارة الذاتية، كمخالفة بعض القرارات الصادرة عنها من قبل أهل الحكم ذاتهم، واعتقال مواطنين خارج إطار القانون، والإخفاء القسري لبعضهم، وتجنيد أطفالٍ من قبل جهةٍ لا تعلن عن مسؤوليتها؛ تلك التي من الواجب على الإدارة وفق العقد الاجتماعي تلافيها، وأن تبقى الجهات الأمنية كمؤسسات استخباراتية، لا تغدو بديلة عن مؤسسة «الأمن الداخلي».
تبقى الإدارة منجزاً، يتوجب الحفاظ عليها وحمايتها وتطويرها، وكذلك تحديث ديناميكيتها بالاستناد إلى مبدأ فصل السلطات؛ فلابد من مراجعة نقدية شاملة لكافة جوانب الخلل والسلبيات التي ظهرت أثناء العمل والممارسة خلال السنوات السابقة، لأجل تفاديها والعمل على تكريس الجوانب الايجابية والسعي إلى ترسيخ الثقة بين الإدارة والمجتمعات المحلية من خلال الشفافية ومكافحة الفساد والمزاجيات وتحقيق العدالة الاجتماعية، ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب وتعزيز المؤسساتية، لا بتقسيم الحصص والمناصب بين هذا الطرف وذاك.
* جريدة الوحـدة – العدد 326- كانون الثاني 2021م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).