ليس من باب المجاملة، إن تم التأكيد على أن العلاقات العربية – الكوردية قديمة ومميزة، وأن هذه العلاقات الملتبسة ذات الطابع التنافسي حيناً، والتضامني الإيجابي في أغلب الحالات، سواءً من ناحية العلاقات الاجتماعية والتعاون الاقتصادي، أو على مستوى التحالفات التاريخية.
لا شك أن المجتمعات العربية والكوردية قد مرّت في المنطقة بمنعطفات سياسية حادة، كانت من أهم هذه المنعطفات خروج السلطة من يدّ العرب المسلمين الفاتحين، بدءاً بمطلع الألفية الثانية للميلاد، حيث طويت صفحة مرحلة الازدهار والحكم العربي في القرون الهجرية الأربعة الأولى، بعد سيطرة العناصر الآسيوية التركية وكذلك الفارسية على مقاليد السلطة في بغداد. وهذا الحدث التاريخي شكّل بدايةً لمرحلةٍ جديدة وعصيبة من تاريخ المشرق والعالمين الإسلامي والعربي، لدرجة أن المؤرخ العربي حسين مؤنس جعلها مفتاحاً على تفسير تاريخ المنطقة، فقد أكد على أن عدد كبير من القبائل العربية تعرضوا إلى الأذى على يدّ الحكام الترك، لدرجة أنهم انسحبوا إلى البادية وعادت بعض القبائل العربية إلى موطنها الأصلي في شبه الجزيرة العربية.
ليس هنالك من شك أن العنصر العربي اُستبعد من الحكم بعد تسلّط العناصر الآسيوية التركية والمغولية والفارسية، وما حكم الأيوبيين لمعظم البلاد العربية إلاّ أحد أوجه ونتائج هذا الضعف، كما أن حكم المماليك لمعظم البلاد العربية، على الرغم من غربتهم ومحدودية عددهم، كان أحد نتائج هذا الاستبعاد، وبالتالي الضعف في البناء السياسي والمجتمعي العربي. حتى جاء الحكام العثمانيون، فاستكملت دورة استبعاد العرب عن الحكم في بغداد ودمشق، ولم يَعُد هنالك أي دور سياسي للمجتمعات العربية، سواءً في قيادة العالم الإسلامي أو حتى إدارة مجتمعاتها المحلية.
وانتظرت الطلائع العربية الفرصة في العودة للحكم والنهضة من جديد، لذلك انتظرت ولادة قوة سياسية لمؤازرتها ومواجهة الظلم التركي – العثماني، حتى برزت قوة الكورد الديمغرافية والسياسية في وجه العثمانيين، بدءاً بمطلع القرن التاسع عشر. وفي هذا المسار يمكن رصد بدايات التحالف والتنسيق السياسي المعاصر بين العرب والكورد منذ الانتفاضات الكوردية الأولى في وجه السلطة العثمانية. فقد بيّنت الدراسات المتعددة أن قبيلة طي العربية قد شاركت بفرسان ضمن جيش الأمير محمد الرواندوزي حوالي عام 1830م، وكانت ثمة خيمة خاصة بهؤلاء الفرسان يزورها الأمير محمد للاطمئنان عليهم (بحسب البروفيسور جمال نه به ز). وعلى الرغم من أن مركز هذه الانتفاضة وبالتالي الإمارة كانت تقع في منطقة جبلية بعيدة عن المناطق العربية، أي في مدينة رواندز ضمن منطقة سوران في المثلث الحدودي الايراني التركي، والواقعة حالياً داخل إدارة إقليم كوردستان العراق، ومع ذلك فقد شاركت مجموعات من الفرسان العرب في هذه الانتفاضة ضد السلطة العثمانية وأقاموا لفترة طويلة في خيامهم إلى جوار الفرسان الكورد.
كما أن الانتفاضات الكوردية التي تصاعدت ضد الحكم العثماني منتصف القرن التاسع عشر بقيادة بدرخان بك البوتاني نالت دعماً من القبائل العربية، خاصةً شمر والعبيد. حتى أن بعض الوثائق العثمانية تُذكر بأن حاكم بوتان الأمير بدرخان هو الذي طلب من شمر النزوح شمالاً والتمركز على مسافة مسير يوم واحد من مدينة جزيرة ابن عمر مركز الإمارة، للقيام بالتنسيق العسكري مع قواته وتقديم الإسناد لهم حين اللزوم. لذلك استقرت أقسام وبطون من شمر في شمال غرب سنجار جنوب منطقة رميلان، وتعهد الشيخ فارس الجربا لبدرخان بتقديم ألف مقاتل كمشاركة عربية في دعم انتفاضته الكوردية الكبرى ضد الحكم العثمانيين، واستمر هذا التعاون والعلاقات التحالفية حتى أواخر القرن التاسع عشر، وترجمت من جديد مع انتفاضة الشيخ عبيد الله النهري في شمذينان، وأحد نتائج هذا التعاون تُرجم في أن عبيد الله عندما هُزم أمام العثمانيين لجأ إلى الجزيرة العربية، وعلى الأرجح إلى مدينة مكة المكرمة، حيث توفي ودفن فيها.
مروراً بالتعاون السياسي والعسكري الواسع مطلع القرن العشرين، وأثناء الحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى مرحلة جمال عبد الناصر الذي وقف بقوة إلى جانب الحقوق الكوردية السياسية المشروعة، وبهذا الموقف أسس لتحالف عربي – كوردي متين وفعّال في وجه تركيا وإيران، ولو لم يدم طويلاً.
يمكن الاستمرار في سرد هذه الأحداث والتوقف عند العديد من المحطات، لكن ما هو مؤكد أن هذه العلاقات التحالفية كانت نتيجة لحسن العلاقة التاريخية وفقه الجوار الإيجابي الراسخ بين الشعبين من جهة، وكمطلب عملي للتحالف في وجه الأخطار المشتركة، وسعياً وراء مطلب استعادة السيادة والسلطة المسلوبة من العرب والكورد من جهةٍ أخرى.
في هذه الأيام وبعد مرور حوالي مائتي سنة على بدء العلاقات التحالفية العربية الكوردية المعاصرة، تعود أجواء القرن الحادي عشر الميلادي من جديد، وإن بصيغة أخرى. ففي هذه الأوقات العصيبة، تتفاقم مساعي التسلط والتمدد التركي والإيراني، ويتم السعي لتثبيت الهيمنة التركية والفارسية من جديد على العالمين العربي والإسلامي، لذلك يبدو استعادة التحالف العربي ـ الكوردي مطلباً سياسياً واستراتيجياً ملحاً، فتجديد هذا التعاون والتحالف لم يعد قيمة تضامنية أخلاقية فحسب، وإنما حاجة ومصلحة سياسية مشتركة. هذه المقدمة ليس للتذكير فحسب، وإنما يظل جهداً مستداماً ومتواضعاً منّا في دعم وتنشيط الحوار الكوردي – العربي. فما سنقوم به من نشر آراء ودراسات تُساهم في تسليط الضوء على هذا الحقل المعرفي والسياسي العملي، هذا الحقل المنسي بل المُغيب قسراً، لأن هذا الحقل مهم لمستقبل الشعبين وليس للحكّام والمستبدّين.
لقد شارك العديد من المثقفين العرب والكورد في إنعاش هذا المسار في مراحل متعاقبة، وتنبهوا لأهميته؛ أملنا يتجدد بأنه سيشارك في حقل الحوار العربي الكوردي لاحقاً نخبة من المفكرين والباحثين العرب والكورد.
مهما كانت الإشكالات فهذه الجهود القديمة- الجديدة تندرج ضمن عملية إحياء التضامن العربي الكوردي، وهي دعوة مستمرة، آملين أن نتعلّم ونتسلّح جميعاً قبل أي خطوة لاحقة، بأخلاقيات الحوار ونتشبع بثقافة الاختلاف وقبول الرأي الآخر، ناشرين المعرفة الحقّة والحقائق العلمية، وبالتالي مساهمين في مسار التنوير.
في هذا السياق وتكريماً للمعرفة العلمية، نحتفي في فاتحة ملف هذا العدد من مجلة الحوار بالسوسيولوجي العربي اللبناني القدير الدكتور أديب معوّض، الذي يُعد بحق أول من دفع بمسيرة الحوار العربي – الكوردي نحو التحرك، ودعا إليها بوضوح، فضلاً عن أنه تطوَّع لنشر دراسات وكتب علمية رصينة أسست لمعرفة دقيقة بحقيقة وجود شعب عريق وقديم في الجوار العربي القريب.
رئيس التحرير
* مجلة “الحوار”- العدد 76 – السنة 27- 2020م.