بين أعصاب المعابر، ونواقيس المآذن، وجراحات شنكال وعفرين وسري كانييه وكري سبي، تتدفق روائح العذابات كأساطير ملحمية تحكي جنون عقيدةٍ تختمر في الرؤوس، أفرزت وتُنضج عقولاً سطّحها التلقين وقلوباً اكتست سواداً مطرزاً بالغي والكراهية، غذَّتها أوهام الحقد الدفين، فسحقت كل زهرةٍ، كل أمل، كل سعادة، وأطلقت العنان لغرائزها المكبوتة باسم الدين.
جحيمٌ مستعر وَفَد إلينا غازياً، مُشبعاً بعقليةٍ مستهجنة من بطون كتب التاريخ المشوهة والفتاوى والتفاسير المتوائمة مع مسيرة أنظمة وتنظيمات دموية امتهنت حروب الإبادة بحق الكُـرد، بما أُتيح لها من أدواتٍ وسلطان، وذلك خوفاً من انبثاق لحظةٍ تاريخية فاعلة أمامهم، يرفعون فيها الحيف عن كاهلهم ويصدّون سياسات وممارسات محو هويتهم وإزالتهم من الوجود، وينالون حقوقهم باقتدار.
كانت شنكال، حيث جحافل «داعش» وبدعمٍ من دولٍ معادية للكُـرد، مارست أفظع الجرائم والأهوال، من قتلٍ وسبي واختطاف وتدمير بحق الكُـرد الإيزيديين المسالمين، بحجة أنهم كفار لا يؤمنون بالإسلام وبالتالي استباحة دمائهم وأعراضهم وممتلكاتهم، إذ سوَّلت لهم أنفسهم حتى اغتصاب الكثير من أطفالهم ونسائهم والمتاجرة بهم في أسواق النخاسة العربية.
تلتها كوباني، التي هَجَرَ أهاليها في غضون أيام، تحت ضربات وحوشٍ آدامية داعشية، لتُدَمر المدينة في حربٍ ضروس قاوم فيها الكُـرد ببسالة، فارتد «داعش» إلى حيث أتى، ولكنه عاد لينتقم في ليلة الغدر، فنحر المئات من أبنائها النيام.
على تخومنا تتربع حكومةٌ همجية، تتمترس بأيديولوجية فاشية طورانية ودينية طائفية، يؤازرها مرتزقة سوريون وأصحاب عمامات من المأجورين الذين لا يتوانون عن إصدار فتاوى تُكفِّر الكُـرد وتدعو (للجهاد المقدس) ضدهم وتُبيح قتلهم ونهب ممتلكاتهم وإبادتهم؛ حكومةٌ تستقي تطلعاتها من تاريخها الدموي، آوت جيوشاً كالزومبي تغزو الأرض هنا وهناك، تفتك بالأبرياء، وتهدف لتهجير الكُـرد السكان الأصليين من مناطقهم التاريخية قسراً وتوطين موالين لها من عربٍ وتركمان بدلاً عنهم، بخطة تغيير ديمغرافي ممنهجة.
وبعد قضاء قوات سوريا الديمقراطية والتي تلعب فيها وحدات حماية الشعب والمرأة YPG-YPJ دوراً مميزاً على «داعش» عسكرياً في شمال وشمال شرقي سوريا، بدعم ومساندة التحالف الدولي، وثأراً لتنظيم «داعش» الذي يربطه علاقات حميمية مع تركيا بوساطة قطرية، إلى جانب عدائه للكُـرد أصلاً، قام الجيش التركي، بمشاركة ميليشيات سورية إرهابية منضوية فيما يسمى بـ «الجيش الوطني السوري» التابع لـ «الحكومة السورية المؤقتة و الائتلاف السوري- الإخواني»، وعلى مرأى من العالم أجمع، بالعدوان على منطقة عفرين الكُـردية واحتلالها تحت اسم «عملية غصن الزيتون»، فمورست كافة أشكال الإرهاب المنظم من تهجير وقتل وخطف واعتقالات واستيلاء على مساكن الناس وأراضيهم، ناهيك عن فرض الأتاوى والضرائب على المتبقين وترويعهم بغاية إرغامهم على الرحيل.
واستكمالاً للحقد الدفين، أطلقت تركيا مع الميليشيات المدعومة منها «عملية نبع السلام» في حربٍ جنونية على منطقتي سري كانييه وكري سبي، مستخدمةً كافة صنوف الأسلحة بما فيها الفوسفور الأبيض المحرم دولياً، واحتلتهما بعد أن نزح منهما أكثر من مئتي ألف نسمة، هرباً من البطش والفظائع، ولا تزال تركيا تجهد وتبغي احتلال باقي المناطق الكُـردية في شمالي سوريا.
الائتلاف السوري- الإخواني المعارض بارك المحتل التركي في اغتصاب أراضي بلدنا سوريا واعتبره فتحاً وتحريراً، ولا يزال يتمسك به المجلس الوطني الكردي؛ ممثلوهما يزورون مناطقنا المحتلة دون خجل أو حياء، وهم يرافقون المرتزقة المجرمين بين حقول الزيتون والقمح، ويجتمعون معهم خلف طاولات فارهات، متناسين قيّم الحرية والكرامة وأرواح الشهداء هفرين وبارين وآرين وغيرهم، صمٌ بكمٌ، لا يسمعون ولا يهتدون من صرخات وآهات المعذبين والثكالى.
حوَّلت تركيا «مسلحي الثورة والجهاد» إلى مرتزقةً تحت الطلب وعابرين لحدود الدول، وتاجرت بهم، بل ودرَّبتهم على الإجرام والخزي والعار، ليغدوا همج العصر، ترمي بهم أينما تريد، ضد الكُـرد والأرمن والليبيين وغيرهم.
كنّا وما زلنا نرفع رايات السلم والحرية والمساواة، نعشق الكرامة والأرض والزيتون وسنبلة القمح، نحترم الإنسان أياً كان لونه ودينه وقوميته، ونرضى بالحوار كرامةً لا مذلة، ولن نقف مكتوفي الأيدي أمام من يحاول سلب هويتنا وحريتنا وكرامتنا.
* جريدة الوحـدة – العدد 324- تشرين الثاني 2020م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).