القسم العاممختارات

الغرق…

رئيس التحرير/د. آزاد أحمد علي*

حسنكيف المدينة – الأسطورة، المدينةُ الحية التي كانت تشبهُ المتحفَ، المدينة التي تختزلُ تاريخَ المشرق، بأفراحِهِ وآلامِهِ، بانجازاتِهِ ومآسيه، المدينة المتعددة الصفاتِ والمزايا، وآخرُها، المدينة التي ستختفي.

نعم هكذا بكلِّ بساطةٍ، ستختفي واحدةٌ من أقدم مدن العالم، ستغطسُ تحت الماء، أو ستُغرَقُ بحججٍ كثيرةٍ. ستُغرَقُ حسنكيف ليس بإرادتها ولا برغبة أهلها، فقد حُكِمَ عليها بالغرق، وتمَّ تثبيتُ الحكم بدون اعتراضٍ أو نقضٍ. لقد تمَّ التخطيطُ لغمرها بالمياه، بل حُكِمتْ عليها بالزوالِ من قبل همج العصر، يتمُّ اغتيالُها من قبل أعداءِ التراث وقَتَلة التاريخ. لقد حُكِمَ عليها بالاختفاء، لكي تختفي معها ثقافةٌ متكاملةٌ وسجلٌّ موثقٌ بالحجر والنقش من تاريخ المشرق.  تزولُ حسنكيف، ومعها ستزولُ حقبةٌ طويلة من تاريخ المشرق، حقبة تجسّدَتْ تماما في تلك المدينة الخالدة وفي محيطها. المشكلة ليست في التاريخ والتراث والثقافة الجامعة لشعوب المنطقة فحسب، بل مرتبطُ بأحلامِ ومشاعرِ وذكريات مئات الألوفِ من سكانها وجوارها القريب المفجوعين بهذا القرار القاسي، القرار الجائر، كجورِ سائرِ سياساتِ الحكام الغزاة الأتراك منذ مئات السنين.

حسنكيف تُغرَقُ بمساجدها ودُورِها السكنيةِ، بكهوفها وكنائسها القديمة، تُغرَقُ وتُجرَفُ معها الكثيرُ من الروح الإنسانية، تُغرَقُ معها كلُّ الأحلام في البقاء والتنزُّهِ والعيشِ على ضفاف دجلة الخالد. سيذرفُ محبوا التراث والتاريخ عليها الدموعَ. ولكن، كجلِّ السياسات التركية، تلك السياساتِ القاتلة للأحلام والجمال، ستمرُّ كلُّ القرارات التركية كما مرَّتْ كلُّ المجازر المادية والمعنوية الموجهة ضد إنسان المشرق، سيمرُّ اغتيالُ هذه المدينةِ كما مرَّ من قبل كلُّ اغتيالاتِ التاريخ، تدميرُ المجتمعات وتجريفُ آثار الحضارة…

فكما نحلمُ نحنُ بالتعايش والحبِّ والجمالِ، هم مولَعون بالقتل والإعدام وتغيير تاريخ المنطقة، استبدال البشر وإغراق الحجر والآثار.

لقد أُعدِمَتْ مدينةُ حسنكيف الكردية العربية السريانية، وحُكِمَ عليها بالموت غرقاً، لكنَّ العبرةَ ليس بالإغراق الفيزيائي لجسد هذه المدينة، لأنَّ مشروعَ تركيا قائمٌ على إغراقِ الآخرين، وستمرُّ دون حساب بفضل الإغراق الروحيِّ لمساحاتٍ واسعةٍ من المشرق وأوربا. إنه مشروعٌ أُسِّسَ على دعاماتِ تدميرِ روحِ التنوُّعِ والتعايش.

لقد كانت حسنكيف، مدينةَ المعابد والكنائس الأولى، كانت مدينةَ المساجدِ والتكايا، مدينةَ الحدائقِ والأسماكِ الذهبيةِ، مدينةَ المغاورِ، مدينةَ انسانِ الشرقِ الأولِ، مركزَ آخرِ مملكة أيوبيةٍ، وحلقةَ الوصلِ تاريخياً بين فارقين ودولتها المروانية، ومدينة جزيرا بوتان وإمارتها البوتانية. لقد كانت مدينة العلماء والمتصوفة، كانت … وكانت حتى تنتهي كلُّ المفردات.

الاغراقُ والإعدام لمْ يكنْ قراراً ارتجالياً، ولا وليدَ اليومِ والأمسِ، أنها خطةٌ ممنهجة منذُ عقودٍ، بل منذُ مئاتِ السنين، خطةٌ للتخلُّصِ من تاريخ المنطقة، قبلَ التخلصِ من البشر والشجر والحجر، لتظلَّ الأرضُ، كلُّ هذه الأرضِ جرداءً، جرداءً من ذاكرتها وتاريخها وثقافتها، لتبقى الأرضُ عاريةً هزيلةً تستقبلُ أحفادَ الغُزاة الهمجِ. الهمجُ الذين غَزَوا هذه الأرض وكانوا مجرّدين إلا من اسلحتهم وولعهم بسفكِ الدماءِ واغتيالِ الجمالِ …

ليست أقدمُ مدينةٍ في التاريخ معرضةٌ للغرق فحسب، بل ثمةَ ما هو أكثرُ قيمةً وأهميةَ أيضاً في انتظار دوره في الغرق. فالهدفُ كما قلنا ونكرِّرُهُ هو اغراقُ قِيَمِ التعايُشِ والتعاونِ في مجتمعاتنا، الهدفُ هو إلغاءُ كلِّ ما هو راسخ وناصعٌ في ماضينا المشترك.

فنحنُ ندخلُ عصرَ الغرقِ والإغراق، الطوفانُ يجتاحُ مجتمعاتِنا، طوفاناً بعد آخر، الطوفانُ الذي يقودُه العسكرُ والرأسمالُ المدجَّجُ بالأسلحة والثقافاتِ المتوحشةِ، طوفانٌ يقودُه ساسةٌ شعبويون، دمىً بشريةٌ، صغارٌ وجبناءٌ تافهون إلى أقصى حدودِ التفاهة!. فهلْ مِنْ قوةٍ تستطيعُ التكاتفَ في وجهِ هذا الطوفان؟ فهلْ مِنْ عملٍ وجُهدٍ جماعيِّ قادرٍ على التخفيفِ من آثارِ هذا الطوفان، قادرٍ تجنيبِ مجتمعاتنا من الغرقِ في الظُلُماتِ، ظُلُماتِ العصبيةِ والجشعِ والفسادِ، فهلْ مِنْ حُلمٍ قادرٍ أن يتحققَ ويُقوِّضَ أركانَ التفاهةِ، التفاهةَ التي تُغرِقُ البشريةَ بسيولِها عاماً بعدَ آخر؟!..

 في هذا العددِ الجديدِ منْ مجلة “الحوار” نواصلُ الحلمَ، حلمَ البقاءِ قربَ الإنسان، حلمَ البقاءِ إلى جانب المظلومين، حلمَ البقاءِ تحت خيمة الإنسانية، حلمَ التخلّي عنْ كلِّ مستوياتِ الجشعِ، حُلمَ احترامِ الماضي، حلمَ قراءة التاريخِ التي فيها معرفةٌ للناس.

* افتتاحية مجلة الحوار- العدد 75/ 2020م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى