ظاهرُها صراعات سياسية، وفي جانب منها تعود لخلافات قبلية بين بطون آل قريش، الذين ارتضوا الجاهلية على اعتناق أديانٍ سماوية خارج إطار القبيلة وصحرائها الجرداء القاحلة، وما إن تحقق لهم ما أرادوا، اختلفوا حول أحقيّة الرسالة المحمدية وأولويةُ الخلافة الراشدية، أفضت لطوائف ومذاهب متصارعة، تجلّت في أوضح صُوّرها بخلافات جوهرية فيما بين فقهاء المذهب الواحد من جهة، وبين المذاهب الأخرى من جهة ثانية، بما فيها حول تفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوّية، في تناقضٍ بين تفاسير الأمس واليوم، وبتأجيج صراعات تناحرية سُّنية – علوية وإطلاق فتاوى تكفيرية بين السُّنة والشيعة، نَجمَ عنه سبيُ نساءٍ وأسواقُ نخاسة و نحرٌ على الهوية، وتمثيلٌ بالجثث في أفظع جرائم عرفتها البشرية، ومع ذلك لا ينفكون متبجحين (كنتم خير أمة أخرجت للناس) مع بَترٍ مُتعمَدًّ للآية القرآنية.
عناوينٌ دفعت بالكثيرين لإعادة النظر بالدين، في اختيار الردَّة أو الربوبية، وانعكاسات لحالةٍ سيكولوجية فرضتها صحراء الجزيرة العربية، مُعضِّلتُها التعامل مع قضايا العصر، بذهنية قبلية على خلفية صراعات تاريخية لسنا بصددها، إلا كونها من جذور الأزمة السورية حيثُ شرُّ البليّة لكن! ما القضية؟
ما بين ظهراني معاناةٍ مريرة للطائفة العلوية، مَثَلُها مَثلُ الكُـرد والدروز، قاطنو الجبال، تحاشياً لجُورِ وبطش فئة مُستحكِمة من الأكثرية السُّنية، التي بسطت سيطرتها على السهول واحتكرت السلطة والمال لقرون، وصل الراحل حافظ الأسد قمة الهرم السياسي والعسكري في الدولة السورية، بانقلاب الحركة التصحيحية، التي أودت بحزب البعث للانشطار إلى جناحيّ بغداد ودمشق، متوجاً نجاحاته فيما بعد بقائد المسيرة، مستفرداً بحزب البعث ودوره في قيادة الدولة والمجتمع، معتمداً على المؤسسة العسكرية والأمنية، التي يتحكم بأغلبية مفاصلها أبناء الطائفة العلوية، في بناء دولة أمنية، حيث بلغ تعداد الفروع الأمنية ومفارزها أضعاف الكليات التعليمية والمشافي الوطنية، لو أقدم على حلّ القضايا الأساسية في بناء دولة على أسس حديثة ودستور عصري، أو حتى إن استعاض عنها بنشر ثقافة التسامح والتعايش، لما آلت الأوضاع باعتقادنا لهذه الكارثة الإنسانية.
استكمالاً لمقوّمات الصراع تم الاحتفاظ بصبغته السياسية، عبر التأكيد على منطلقات البعث وشعاراته القومية، محورها القضية الفلسطينية، في سعي حثيث لكسب الرأي العام العربي، والإبقاء على قانون الطوارئ والأحكام العرفية سارية المفعول بذريعة الصراع العربي الإسرائيلي، في كبت الحريات العامة، وتدجين الشارع السوري، في ظل انتشار ظاهرة الفساد والرشاوي والمحسوبية، إلى أن بات التوظيف بمهنة عامل نظافة في بلديةٍ ما، بالإضافة للأوراق الثبوتية المطلوبة، لا بد من موافقات أمنية، وللرشوة الأولوية، إلى أن وصل الحال بالكثير من المتسلقين والمنافقين على تسمية البلد بـ (سوريا الأسد) وكأنها لم تعد جمهورية لغلاة الشوفينية العرب.
ليس من قبيل الشماتة وإنما من قبيل الصحوة والعبرة – من أراد كله عاف كله – لسان حال العرب وجوهر القضية.
ليرحلَ مُورِّثاً عديدُ القضايا العالقة، إلا خطة انتقال السلطة تحسُباً لخطر صراعِ رموزُ حرسه القديم، ودرءاً لحصول فراغٍ أمني، للانقضاض على جمهوريته، وقد تبنى الرئيس الجديد شعار التطوير والتحديث والشفافية، لكن كما بدا، كان عليه السير على خطى والده الرئيس، وتجربة الطليعة المسلحة لجماعة الإخوان المسلمين ذراع نظام البعث في بغداد ومسعاه للإطاحة بنظام البعث في دمشق، وخواتمها المؤسفة بمدينة حماه في ثمانينات القرن الماضي مازالت ماثلة للعيان، لتؤكد أن ما بينهما يتخطى الترقيع والحلول الوسطية.
في ظل الغليان الشعبي والأوضاع المزرية، خاصة إثر ثورات الربيع العربي في نشر الفوضى الخلّاقة، تمهيداً لدمج إسرائيل بمشروع الشرق الأوسط الجديد، وانهيار الخَصمُ اللدودُ للنظام السوري، المتمثل بالنظام العراقي، وتحوُّلُ أوساطٍ واسعة من الحاضنة السنية السورية – إن صح التعبير – إلى كتلة إرهابية متنقلة، وفي ظل افتقار الثورة السورية إلى برنامج سياسي، ينسجم وعصر العولمة، ويلبي تطلعات كافة أطياف المجتمع السوري لانطلاقة الثورة السورية، التي سرعان ما تمت عسكرتها وتحريفها خدمةً لأجنداتٍ إسلاموية ومصالح دول بعينها، ليس في أدبياتها من قضيةٍ للإثنيات وحقوقها، وما عليها إلا الانصهار أو التبعية، أو محاربتها تحت يافطة التكفير والانفصالية، مع أن القضية الكردية بفضل تضحيات أبنائها ونضال حركتها الوطنية، أصبحت رقماً صعباً في المعادلة السورية من الحماقة تجاوزها، بل يفترض تناولها بحكمة وعقلانية .
لا عودة لسوريا إلى ما قبل أزمتها، وتصريحات لأطراف دولية متعددة حول بقائها مقسمة لأمد طويل، وقد ثبت بالتجربة فشلُ الحل العسكري، لم يبق أمام المعارضة والموالاة سوى مسارين؟ إما الاستمرار في أتون حرب مُدمِّرة، وقودها كافة مكونات الشعب السوري، وظلم ذوو القربى أشد مضاضةً، للدفع بالأوضاع أكثر نحو الهاوية، حتى إغراق السفينة بمن تبقى فيها، أو الركون لمنطق العقل في كبح جِماح التطرف، وجلوس ممثلي كافة أطياف المجتمع السوري حول طاولة حوار مستديرة برعاية دولية، لوضع دستورٍ ينسجم والنظام العالمي الجديد، في بناء دولةٍ ذاتُ نظام حكم برلماني تعددي، فيدرالي لا مركزي، في ظل تشاركية وطنية لإعادة إعمار سوريا، التي تتسع للجميع وخيراتها تكفيها وتفيض، وإن طال السكين العظم والضمير ما تبقى منها يستحق الكثير، فهل من صحوة وطنية أو إنسانية؟
* جريدة الوحـدة – العدد 323- تشرين الأول 2020م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).