السلطات الضعيفة بمؤسساتها التشريعية والقضائية والدول النفطية أكثر قابليةً للفساد… تلك التي يمتزج في نظام حكمها ما هو توتاليتاري بما هو قبلي أو عائلي، أو ما هو إيديولوجي قوموي بما هو سلطوي دكتاتوري
يعد الفساد أحد أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات المعاصرة، حتى باتت تتصدر أجندات وخطط تحسين الحوكمة وتطوير الديمقراطيات، فقد تفاقمت المسائل المرتبطة بالفساد في العالم المعاصر وتشعبت لدرجة باتت الدراسات ذات الصلة بالحوكمة وإدارة المجتمعات لا تتخوف من ربط ظاهرة الفساد المستفحلة مع أنظمة الحكم ذات الطابع الديمقراطي، بصرف النظر عن درجة انبثاقها عن الناخبين، أو حقيقة مطابقة بنية هذه النظم للمعايير الديمقراطية، فأغلب الحكومات التي تدعي تبني الديمقراطية، وبصرف النظر عن درجة تصنيفها ضمن منظومات الحكم الديمقراطي، تعاني من انتشار جراثيم الفساد في مفاصلها. علما أن الفساد بات يشكل أحد المعايير التي تضاف إلى المقاييس التي تصنف درجة النقاء الديمقراطي لأنظمة الحكم، سواءً من منظور الشفافية والحكم الرشيد، أو من زاوية ممارستها للفساد بمختلف أوجهه، فحتى الدول الرأسمالية الليبرالية، سواءً الأوربية منها أو الأمريكية تقع في أحابيل الفساد المعاصر، ويمارس العديد من القادة والساسة في العالم (الديمقراطي) عمليات فساد منظمة ذات أوجه مختلفة. لدرجة أن بات الفساد المالي والاداري جزءاً عضوياً من بنية أنظمة الحكم في العالم المعاصر، بل مناخاً يتم إعادة انتاجه ونشره تحت عناوين الديمقراطية والحكم المدني في أغلب الحالات. لكن في ظل هكذا ثقافة سياسية سائدة باتت جزئية مستوى الفساد، أو درجته هي موضوع البحث والدراسة، إذ أن درجة فساد الحكم هو ما يلفت النظر في المقام الأول، فضلاً عن الحروب الاعلامية التي توجه عادة وسائل الاعلام بشكل محدد نحو المواضيع المشكوك في احتوائها على ملفات الفساد.
في المشهد العام للحكومات المعاصرة من الملاحظ اتساع دائرة الفساد عاماً بعد آخر، لكن بعض الدول تنبذ ثقافتها الفساد ولا تتقبله، لدرجة أن من يثبت عليه تهمة الفساد، أي ممارسته لعملية سوء استخدام السلطة وتوثق خروقات كبيرة في مساره المهني، يضطر للاختفاء والتواري عن الأنظار، أو ينتحر قبل اتخاذ حكم السجن والتغريم بحقه، كما حدث مراراً في اليابان وغيرها من الدول ذات الثقافة التي لا تقبل الفساد في شرق آسيا. في حين يدرج الفساد السلطوي والإداري ضمن المكاسب التي يتم غض الطرف عنها بدرجات متفاوتة في البلدان النامية والعوالم الشرق أوسطية والافريقية. أما أكثر السلطات قابليةً للفساد، فهي تلك التي لا تتمتع بأيديولوجيا واضحة، والبعيدة عن منظومة الضوابط الديمقراطية، كالسلطات الضعيفة بمؤسساتها التشريعية والقضائية، أو تلك التي تتموضع في مرحلة (الانتقال الديمقراطي). لكن الغريب أن من بين هذه السلطات الأكثر قابلية وممارسة للفساد فهي تلك الدول المنتجة للنفط، هذا ما تبينه معظم الدراسات وتؤكده الوقائع والأحداث اليومية، فلأول مرة يتم الربط بين مادة خام وثقافة سياسية مكتسبة، إلى جانب تأثير عملية الانتاج والتسويق بشكل مباشر وفاقع على نظام الحكم وأخلاقيات القيادات السياسية والادارية.
الفساد ملازم للإنتاج النفطي
من بين أكثر الدول فساداً هي تلك التي تمتلك احتياطات نفطية وانتاجاً نفطياً وفيراً، ويبدو أن مجموعة من العوامل تتضافر لتوطين الفساد في تلك البلدان والمناطق النفطية، منها على سبيل المثال دور شركات النفط والجهات المسوقة له، التي تتطلب مصلحتها التجارية والمالية بأن لا تكون عملية الانتاج والتسويق شفافة من جهة، وأن لا يكون الحكم شرعياً ومنبثقاً من إرادة سكان تلك الدول من جهة أخرى، لأن الجماهير ستطالب الحكومات المنتخبة بالكشف عن الحسابات، وبالتالي سيكون من حق المجتمع التدقيق التام في كل جوانب الانتاج والتسويق، وبالتالي تتراجع فرص الاستفادة وتتضيق هوامش الاحتيال والاستغلال. فشركات النفط تفضل منذ تأسيسها التعامل مع الشخصيات أو العوائل الحاكمة فقط، وذلك لتسهيل عمليات الاستكشاف والتسويق والاستثمار.
هكذا كانت البدايات مطلع القرن العشرين في أغلب المناطق التي اكتشف فيها النفط. واستمرت هذه المعادلات المرتبطة بعوالم النفط والغاز وتأثيرها على أنظمة الحكم، لا بل حتى مساهمة الخرائط النفطية وكذلك خرائط الاحتياطي من الغاز في صياغة الخرائط السياسية الجديدة. مهما يكن، بات الحديث يدور كثيراً حول علاقة النفط بالفساد، وما هي أكثر الدول النفطية فساداً وليس أقلها، حيث يبدو أن من أكثر هذه الدول النفطية فساداً هي تلك التي يمتزج في نظام حكمها ما هو توتاليتاري بما هو قبلي أو عائلي، أو ما هو إيديولوجي قوموي بما هو سلطوي دكتاتوري، وقد تحققت وتراكمت هذه الصفات مجتمعة -وكعينة للتذكير والاستدلال فقط -في بلد صغير يقع في غرب أفريقيا. بلد يتكون من جغرافية ضيقة على الساحل الغربي للقارة الأفريقية بالإضافة إلى خمس جزر تقع داخل المحيط الأطلسي، حيث يبلغ مساحة غينيا الاستوائية حوالي /28/ ثمانية وعشرون ألف كيلومتر مربع. تظل هذه الدويلة المرشحة لاستلام قيادة قافلة الفساد النفطي صغيرة بالمقياس الديمغرافي أيضاً، فعدد سكانها لا يتجاوز مليون وأربعمائة ألف نسمة. في حين انتاجها النفطي قارب المائة وخمسون ألف برميل يومياً، وعلى الرغم من قلة هذا الانتاج بالمقارنة مع باقي الدول المنتجة للنفط، إلا أنه دخلٌ كبير للرئيس الحاكم، نظراً لحرمان الشعب من الواردات النفطية، وقلة عدد السكان في الوقت نفسه.
الملفت والمثير للجدل أن الشركات الأمريكية باتت تهتم بهذا البلد الصغير والمستعمرة الاسبانية سابقاً، حتى باتت غينيا الاستوائية رابع أكبر دولة مستقطبة للاستثمار الأمريكي، من دول إفريقيا – جنوب الصحراء الكبرى. والسبب وراء الشهرة التي اكتسبتها غينيا الاستوائية هو اكتشاف البترول فيها منتصف تسعينيات القرن الماضي. استمر الاكتشاف والانتاج حتى زاد إنتاج البترول أكثر من عشرة أضعاف منذ عام 1996، ويتوقع أن يستمر الانتاج النفطي في التزايد. مع ذلك لم يصدف أن ورد ذكر هذا البلد كدولة لا تحترم حقوق الانسان أو لا يطبق نظامها السياسي أبسط مستويات الديمقراطية على الرغم من وجود برلمان شكلي. إذ يحكم غينيا الاستوائية الرئيس (تيودور اوبيانغ نغيما مباسوغو) منذ 1979، وكان قد استلم السلطة إثر انقلاب دموي. كما أن هذا الرئيس بات يعد من أقدم الرؤساء حالياً في أفريقيا والعالم، فهذا الدكتاتور النفطي يصرف جزءاً كبيراً من ميزانية الدولة لعائلته، بينما يعيش نصف مليون مواطن على دولار واحد للفرد في اليوم، إلى جانب ذلك فالخدمات شبه معدومة. لأن مياه الصرف الصحي تسيل في شوارع العاصمة مالابو، كما لا يوجد نقل جماعي عام، وتعاني البلاد من نقص شديد في مياه الشرب والكهرباء.
باختصار يتصف نظام الحكم في غينيا الاستوائية بالقوة والسيطرة على مقاليد الحكم دون رقيب أو منازع، فالبلد غير ديمقراطي واستبدادي بامتياز. إضافةً لذلك احتل المرتبة الأولى في العالم من حيث تفاقم الفساد، بحسب تصنيف منظمة الشفافية العالمية. فعلى سبيل المثال وكأحد آخر المؤشرات على فساد الحكم في دويلة غينيا الاستوائية، انفجرت منذ أشهر قضية مصادرة مجموعة من السيارات الفخمة العائدة لابن الرئيس المسمى (تيودوران أوبيانغ) والذي يتم إعداده كالعادة لحكم البلاد من بعد والده الذي قارب الثمانين من عمره، قضى منها /41/ إحدى وأربعون عاماً في الرئاسة.
فبعد سلسلة من الاجراءات القضائية وعدة قضايا فساد مشابهة -حيث تتشابه ملفات الفساد لأبناء الرؤساء -عرضت في سويسرا ضمن مزاد علني /25/ سيارة فخمة يملكها تيودور نجل رئيس غينيا الاستوائية، فقد كان القضاء في جنيف قد صادرها في إطار تحقيق حول غسل أموال، وذلك للبيع في مزاد علني في سويسرا، هذا وتقدر القيمة الإجمالية لهذه السيارات بأكثر من /17/ سبعة عشر مليون دولار. علماً أن أغلى هذه السيارات هي سيارة لامبورغيني فينينو رودستر بيضاء، صنعت يدوياً في بريطانيا، وتقدر قيمتها بحوالي /6/ ستة ملايين دولار.
ملفات الفساد متشابهة، بل أحيانا تتطابق لدى أبناء رؤساء البلدان الديكتاتورية والنفطية منها على وجه الخصوص، فهذه عينة لملف صغير لفساد نظام الحكم في أصغر بلد أفريقي، وكذلك أصغر بلد نفطي في العالم، بناءاً وقياساً عليه، ما هو حجم وطبيعة ملفات الفساد التي تختبئ في الأدراج منذ عشرات السنين، هذه الملفات الاقتصادية والنفطية التي تتشابك، بل تغلف ملفات تتضمن صفقات سياسية، بعيدة كل البعد عن مستقبل مجتمعات البلدان النفطية؟ الجانب الأهم في الموضوع هو ليس طبيعة ملفات الفساد، بقدر ما هو درجة تواطؤ الحكام الفاسدين مع البلدان الرأسمالية (الديمقراطية) وشركاتها المنتجة والمسوقة للنفط؟! وكذلك نسيان الاعلام الغربي طبيعة هذه الأنظمة وغض النظر عن ممارستاها بحق شعوبها.
الإجابة على هذه التساؤلات قد تقربنا من معرفة حقيقة وأبعاد الأوهام المرتبطة بتأسيس نظم ديمقراطية متكاملة وفاعلة في البلدان الناشئة خارج الدول الأورو -أمريكية بشكل عام، النفطية منها بشكل خاص.
* جريدة الوحـدة – العدد 323- تشرين الأول 2020م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).