ما من توأمٍ لها ولا ذُرّية، دُرَّةٌ كردية بمسحة ربّانية ليس لموقعها الاستراتيجي، ولا لتجانسها المجتمعي المتحرر والمتسامح وغنى تراثها الشعبي وحسب، لكن لرمزيتها! وإذا عُرِفَ السبب بَطُلَ العجب كما يقال! فقد كانت سهولها وهضابها أدغالاً عصيّة على العابرين، لا تمرُّها إلا الوحوش والثعابين، ورغم ما لحق بها من غُبنٍ واضطهاد من قبل الحكومات المتعاقبة على دفة الحكم في سوريا، تحوّلت بهمّة وسواعد أبنائها إلى جناتٍ، تفوح منها رائحة الطيب والطبع الكردي الأصيل، لتغدو مُضطّجعاً لكل ذو همٍ وضيق، وخلال الأزمة السورية ملاذاً للمقهورين، فاستماتوا لتحيا أميرةً شماء، تروي إنجازات وبطولات أحفاد الهوريين.
لكن! ما إن تكالبت عليها قوى الغدر والطغيان، على وقع الصفقات الدولية المخزية، لتغدو في غفلةٍ من التاريخ، غنيمةً مستباحة لأسراب الجراد وغُرْبان البين المذهولين من انهيار آخر قلاع الدكتاتورية الشعبوية في بغداد، وآخر معاقل الإرهاب الإسلاموي في الباغوز وهجين، ليقعوا فريسةً سهلة الانقياد من قبل أجهزة الاستخبارات الدولية وفي مقدمتها الميت التركي، لزجِّهم في حروب لا ناقةَ لهم فيها ولا جمل، سوى صَبّ جام غضبهم على الكُـرد، نكايةً بإنجازات إقليم كردستان، وموقفه من الحملة الدولية لتحرير العراق من براثن نظام الطاغية المقبور صدام، وانتصارات قوات سوريا الديمقراطية «قسد» على تنظيم داعش شرق الفرات ولإرضاء «خليفتهم الجديد» أردوغان للعبث الممنهج فيها، وارتكاب جرائم لا تخطر على بال، ولا تطاوع الذوات البشرية لسواهم من الإقدام عليها ضد سكانها الآمنين، لتعيد للأذهان جرائم صدام بحق كُـرد العراق من زاخو إلى خانقين، وجرائم آل «أرطغرل» من عثمان إلى أردوغان، بحق أحفاد الميديين من مدينة آمد/ديار بكر إلى جبال حفتانين.
لا شك للسياسة المُتَّزنة دورُها، لكن من السذاجة أيضاً! الاتهام أو الاعتقاد بأن وحدهُ حزب الاتحاد الديمقراطي PYD بسياساته كان وراء ما حلَّ بها، رغم عديدُ أخطائه، فمشكلة تركيا لا تنحصر بطرف كردي ولا بتوجهاته وإنما بجوهر القضية، وأي انتعاش لها فوبيا كردية، تستوجب محاربتها وإن كانت على أسوار الصين.
تلك هي عفرين التي تقع على حدود تركيا، ولا تبعد عن البحر الأبيض المتوسط غرباً سوى أميال، وتفصلُها عن امتدادها الطبيعي كوباني/عين العرب- شرق الفرات مناطق ذات غالبية عربية، إضافةً إلى قيام إقليم كردستان العراق بإجراء استفتاء شعبي على الاستقلال، كورقة ضغطٍ أخيرة على حكومة بغداد للالتزام الكامل بالدستور، وما شهدتها القضية الكردية في سوريا من تطورات، وما رافقها من تعاطف شعبي ودولي، وجدت فيها حكومة حزب العدالة والتنمية التركي، فرصةً مؤاتيه للبدء بتنفيذ بعض مراحل الميثاق المللي.
ولاختلاق المبررات المباشرة لعدوانها، قامت بتسريب خريطة مزيّفة لـ «كردستان سوريا»- بأيادي كردية- تضم كامل الشمال السوري وتوصل عفرين بالبحر، لتتهم على أساسها قوى كردية بنيّتها احتلال جزءِ من الأراضي التركية واغتصاب أراضٍ سورية شمالي محافظتي إدلب واللاذقية؛ ومع أن الفكرة باعتقادنا لا تجد مكاناً لها إلا في إطار الفوبيا الكردية، لكن وللأسف! سارع بعض الكُـرد في نشوةٍ من التباهي القومي، بقصدٍ أو بدونه، بالترويج للمكيّدة المُبيّتة – الخريطة – التي حبكتها تركيا لإفشال تجربة الإدارة الذاتية لدى الكُـرد في سوريا وإيقاعهم في نزاعاتٍ طويلة، ولتقوم وتحت يافطة ضرورات (الأمن القومي التركي) باحتلال عفرين، مروراً بمنطقة كري سبي/تل أبيض، وصولاً إلى سري كانية/رأس العين، وهو لم يكن ليحصل دون ضوءٍ أخضر روسي – أمريكي، وتغاضٍ سوري – إيراني.
في ظل الأوضاع المعقّدة، وما شهدتها عفرين من تغيير ديمغرافي قسري، مع حزام تركماني على طول حدودها مع تركيا، على غرار الحزام العربي العنصري في الجزيرة، وما رافقهُ من إزالة وتشويه كل ما يمتُّ للكُـرد من صلةٍ بها، في ظل صمتٍ دولي مُخزٍ ومُريب، وتصريحات عديدة تشير إلى بقاء سوريا مقسمة عملياً لأمدٍ طويل، في ظل تواجد قوى عظمى، لها قواعد عسكرية ومصالح استراتيجية مُبّهمة، ماهيتُها تقلق السوريين، وما خَلّفه الاحتلال من تبعات واستحقاقات فاقت التوقعات والقدرات، هواجسٌ تُثقِلُ كاهل العفرينيين خلاصتُها!
هل من عودةٍ لأهالي عفرين إلى ديارهم كما حصل في العديد من البلدات السورية، التي شهدت خلال أزمتها نزوحاً متكرراً في تناوب المعارضة والموالاة بالسيطرة عليها، فيما سُمّيت جُزافاً بعمليات تحرير؟ أم أن عفرين حالةٌ استثنائية؟ وما من ريشةٍ على رأسها، وليست أكثر أهمية من لواء إسكندرون وهضبة الجولان لدى غالبية السوريين، الذين لم يرحبوا وحسب! بل شارك الكثيرون منهم تركيا في احتلالها المشين، وباتت في حصة تركيا من الكعكة السورية، لدورها باحتواء وتوجيه بقايا القاعدة وتشكيلات إسلاموية وارتزاقية مسلحة، في إطار ما يُسمى بـ»الجيش الحرّ أو الوطني»، في تحريف مسارات الثورة السورية على أنغام اتفاقات (روسية، تركية، إيرانية)، وهل يُعقل أن تُحصر القضية الكردية في شرق الفرات دون حلٍ عادل ويُترك مصير عفرين لتركيا إرضاءً لها بغض النظر من قبل دولٍ مؤثرة؟!
ما من ثوابت في السياسة، ولولا التفاؤل بالحياة مع القناعة بحتمية نهاية الأزمات، وحتمية تَبدُّل موازين القوى والمصالح الدولية، ووحدة وصراع الأضداد، لما شهد العالم دولاً مستقلة وحضارات. إن وصف لجنة التحقيق الدولية المستقلة الانتهاكات والجرائم المرتكبة في عفرين ورأس العين بأنها جرائم حرب في تقريرها الأخير، والإشارة إلى المسؤولية التركية ولو بشكلٍ غير واضح، مع عديد التصريحات لأطرافٍ دولية متعددة والقرار الأممي /٢٢٥٤/… أدلةْ على أن كل المتغيرات الحاصلة على الأراضي السورية خلال أزمتها، طارئة وخارج إطار الشرعية الدولية، وستبقى سوريا دولة واحدة في ظل دستورٍ عصري جديد.
لابد من التذكير بحقيقة تاريخية معروفة للقاصي والداني مفادُها، ما من قوةٍ بمقدورها تحجيم دور الكُـرد ومحوهم أو ثنيهم عن مطالبهم، لامتلاكهم مقومات الحياة وإصرارهم على نيل حقوقهم مهما بلغت الأثمان، وإلا لاندثروا كغيرهم من شعوب وأقوام، لما عانوه عبر التاريخ من حروبٍ وويلات، لكن سرعان ما يستعيدون قواهم، ويسترجعون ما خسروه بعد كل اعتداء أو انكسار.
خلاصة القول! إذا كانت عفرين استثناءً في الحالة الوطنية السورية، وما من مسوِّغات قانونية دولية تبرر احتلالها من قبل تركيا كما أسلفنا، لكنها بالتأكيد جزءٌ من حالة قومية، وليست أقل شأناً من شقيقتها هولير، حين كانت يوماً لأزلام وغلمان صدام وغدت دياراً لأهلها بفضل نضالهم، وفي تربُّع الراحل مام جلال على كرسي الرئاسة بدلاً عن المقبور خير مثال على أنه لا يموت حقٌ ووراؤه مطالب، وأهالي عفرين اليوم أكثر إصراراً بأن لا قيمة لمنطقتهم دون حاضنتها الكردية، ولا لحاضنتها من قيمة دون عفرين، يناضلون بكل قواهم، مستخلصين العبر والدروس من تجارب الكُـرد عموماً، وبما وفّرتها الحضارة الإنسانية من وسائل نضالية متطورة ومناخات وتقانة، وقد أقسموا بأن لا حلَّ للأزمة السورية، دون إيجاد حلٍ عادلٍ للقضية الكردية، وما من حلٍ لها دون إنهاء الاحتلال التركي الغاشم، للمناطق الكردية الثلاث وفي مقدمتها عفرين، إن لم يكن اليوم فغداً، وإن غداً لناظره لقريب.
* جريدة الوحـدة – العدد 322- أيلول 2020م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).