من وقفة العفرينيين في استراحة «جبل الأحلام» المطلة على قرية باسوطة- عفرين الوديعة إلى معسكرات اللجوء في مقاطعة شمال غرب الراين الألمانية، تختزل العديد من المحطات التاريخية لشعب ظلمته الجغرافيا، ولم يسعفه الانتماء؛ رغم التضحيات الهائلة تعجز خاطرة إنسانية بمضامين سياسية أو رسائل سياسية بمعان إنسانية من الإحاطة وإن ببعض جوانبها على الأقل .
قد تكون المقالة انعكاساً لمعاناة إنسانية لكل لاجئ ضاعت به السبل، تحت وطأة الحروب الطاحنة وتخاذل المنظمات الدولية، لتتلقفه شبكات التهريب بالمراوغة والترغيب، للاستحواذ على ما ادَّخره من كده خلال حياته، في لحظات غير آبهة برصاص حرس الحدود التركية، ولا بأمواج البحار المتلاطمة التي قد تنهي حياته بكارثة إنسانية، فتغدو مادة إعلامية أو رواية تراجيدية منسية، أو لينتهي به المطاف إلى معسكرات اللجوء في دول الشتات، كإعرابي في المدينة، مترنحاً بين تعلقه بماضيه وقد ترك الجمل بما حمل، وبين التصدي لأشكال الانحلال المتعددة وبين صعوبة اكتساب المقومات الأساسية للاندماج بالمجتمعات الغربية.
وقد تكون خاطرة اشتياق واستذكار لبعض اللقطات المؤثرة من شريط ذكريات الماضي القريب، من خيم العزاء إلى الأعراس العفرينية في مقاصف كفرجنة وهي تتلألأ كليلة باريسية، إلى احتفالات أعياد الحب والفصح المجيد. وهنا لابد من توجيه رسالة احترام وتقدير للمتشبثين بترابهم رغم الصعاب والهوان في عفرين وسري كانية/رأس العين وكري سبي/تل أبيض. وكذلك إرسال تنويه لبعض الجماعات ممن لا يتوانون عن كيل الاتهامات الباطلة لأحزاب كردية وقادتها، لأجل استقطاب الأضواء أو ربما لتصدر الحالة الكردية، على قاعدة قم لأقعد مكانك، الأمر الذي حذَّرَ منه الراحل خالد بكداش منافسه في قيادة الحزب الشيوعي السوري يوسف فيصل قبيل الانشقاق آنذاك. وللتذكير، إذا كان نقد السياسات حقٌ مصان، فإن القدح والذم للشخصيات العامة قانوناً مدان، وإن كان ثمة أدلة وبراهين ضد أحد فلِتُعلن على الملأ ولكل حادث حديث، لكن! – وراء الأكمة ما وراءها – كما يقال.
كانت الفكرة بالأساس توجيه تحية شكر مطوية لكوكبة من الجنود المجهولين على جهودهم المضنية الغافلة عن الكثيرين وتقديراً لدورهم الذي لا يقل أهميةً عن دور من حَمَلوا السلاح للحفاظ على العرض والأرض، مدافعين لا معتدين. سلاحهم مع بساطته يحتاج لمؤهلات وقدرات لا يمتلكها إلا القليلين – جنود على ناصية الكتابة والقلم – يحملونه أين ما حلوا وبأشد الظروف، لتصويب الأفكار إلى حيث يجب أن تتجه الجهود والأنظار. ولتُناسب مستوى الحدث والمقام كان المقال حباً من لاجئ كردي مسن إلى أسرة تحرير جريدة «الوحـدة» التي استقينا من ينبوع عطائها الكثير، وساهمت في تكوين شخصياتنا إلى حد كبير وأخص بالذكر من يتحمل القسط الأكبر من عبء التمحيص والتحرير. وإلى رئيسها البعيد عن حياة الفنادق وأجوائها، الذي لم يمل من التنقل بين القرى الوادعة في سهول ومنحدرات كرداغ وإلى ذرى وقمم جبل هاوار ومواقع المدافعين عن ثراها ولمقابر الشهداء في ماتينا وكفرصفرة وكفرشل، ومنها إلى منطقة شيراوا قبل (الاحتلال التركي) الغاشم لعفرين بساعات، مواكباً تطورات المشهد لشهور بالقرب من خطوط التماس، ومن هناك وفاءً للوعد الذي قطعه على نفسه، كانت الزيارة الأولى لمقبرة الشهداء في كوباني/عين العرب ثم القامشلي وزيارة مقبرة صاروخان للشهداء، وإلى مقبرة العظماء في العاصمة الفرنسية باريس ووضع أكليلين من الزهور وقراءة الفاتحة على ضريحي الشهيدين الخالدين الدكتور عبدالرحمن قاسملو والدكتور صادق شرف كندي.
ومن زيارات مخيم سردم في منطقة الشهباء للمهجرين قسراً من عفرين، والاطلاع على واقعهم، حاملاً معاناة شعبه، فانياً عمره مدافعاً عن قضيته بفكر منفتح ومتقد، دون اكتراث لما يقال ضده، وبخطى واثقة إلى حيث يجب أن تُبحث القضية، من القامشلي إلى السليمانية وقنديل وهولير، إلى قبة البرلمان الأوروبي في العاصمة البلجيكية بروكسل، حيث تُعقد المحافل الدولية، عائداً أدراجه إلى ميادين النضال المفترضة… عناوين ساطعة في أكثر من منحى واتجاه.
للأمانة والتاريخ! أحترم القامات القومية والسياسية، وإنصافها مسألة أخلاقية، أما القداسة فلا تجوز إلا لرب البرية، والتبعية لا تكون إلا للقضية، وإن كان في ذلك ثمة إشكالية، فبالنسبة لنا رجولة وأصالة، وما دونها رعونة وجهالة.
أما استراحة «جبل الأحلام» وإن كانت منشأة سياحية شُيدت لأغراض ربحية، لكنها أصبحت محطة مفصلية في تاريخ عفرين. فمن عليها ألقى مغادروها عنوةً نظرة الوداع الأخيرة على ربوعها كروضة فردوسية تُقصف أمام أنظارهم بِوابلٍ من نيران الطيران والمدافع التركية؛ وفيها تركوا وديعة أحلامهم وطموحاتهم الجميلة، ومنها بدأت قصة تهجير جماعية في أقذر عملية تغيير ديمغرافي قسرية، على وقع صفقات «سوتشي» التآمرية، بين بوتين الساعي لاستعادة أمجاد روسيا القيصرية بعد تراجع دورها بُعيد مرحلة البيروستريكا السوفيتية وبين أردوغان (خليفة المسلمين) الجديد الطامع لإحياء أمجاد سلطنة عثمانية توسعية على أنقاض المأساة السورية.
عذراً للشاعر الراحل مهدي الجواهري – شعب دعائمه الجماجم والدم – أجل! مع أنه يكره لون الدم وصوت المدفع، ومازال مستعداً لتقديم المزيد من التضحيات التي تُفرض عليه لأنه مطالب بحقوقه في شرقنا المقهور والمعتَّر؛ فالكُـرد في سوريا طامحون لنيل حقوقهم القومية المشروعة في إطار وحدة البلاد، وأحزاب وتنظيمات سياسية كردية واعية لحيثيات المرحلة والتعاطي مع مستجداتها بقناعة راسخة، انطلاقاً من حقيقة تاريخية – تتحطم الدنيا ولا يتحطم-
يحدُونا الأمل والتفاؤل بعودة مُهجَّري عفرين قسراً قوافل وجماعات، للوقوف مرةً ثانية في استراحة «جبل الأحلام» رافعين رايات النصر على وقع زغاريد النساء وصرخات الأطفال، مغنين نشيد «أي رقيب»، معلنين انتهاء حقبة مظلمة من تاريخ عفرين، فتنزاح رايات الحزن من على أشجار الزيتون ومعاصره والمقاصف ودور التعليم، ويُزال الغمَّ عن كاهل الناس، المسنين منهم خاصةً، لينفك الحَجرَ عن النساء والفتيات في ارتداء ما يشتهون من ألبسة الموضة والجمال، ولتفتح المقاصف أبوابها وتعود الأعراس إلى أَفنيتها… إيذاناً بانتصار التقدم على التخلف.
لما الغرابة ولما العجب؟ فلا حياء في الدين! الشكل والمضمون صنوان قلما ينفصمان، ولن تَتَخَلف عن الركب سري كانيه/رأس العين و كري سبي/تل أبيض، لبدء مرحلة جديدة في سورية دولةً ذات نظام حكم برلماني تعددي فيدرالي لامركزي، لا مكان فيها للتطرف ولا للمجرمين .
فلا يلومنا أحدهم! الجسد هنا يذوب ويترهل – الروح تُحلّقُ في سماوات سري كانيه و كري سبي، والعين على عفرين.