حسين حبش للحوار: نريد الكثير من الشعر والقليل من الشرطة….مجلة الحوار ، العدد ٧٠، عام ٢٠١٧
أجرى الحوار: محمد دلي حسين
مجلة “الحوار” – العدد /70/- صيف 2017
لو لم يخلق الإنسان إنساناً لكان شجراً، هذا ما أعتقد به في بعض الأحيان. كتبت ديواناً كاملاً بالكردية، يتمحور موضوعه حول الأشجار بهمومها وشجونها وأحزانها وأفراحها وأنفاسها الخضراء. للأسف الشديد لم يصدر الديوان بالكردية بعد، لكن صدرت ترجمته بالرومانية في بوخارست، اخترت قراءة قصيدة حزينة تتكرر فيها جملة فيها هذه الكلمات: “ليس لي وطن” وبعد الانتهاء منها تقدمت مني سيدة، صافحتني بحرارة والدموع تملأ عينيها قائلة: إذا كان ليس لك وطن، ابق هنا، فكولومبيا وطنك، فلم أتمالك نفسي وبكيت معها المرأة بجمالها وفطرتها ورقتها ترطب القسوة من حولنا وتعطي الحياة معنى وعمقاً جوهريين وتجعلها جديرة بالعيش والقبول. المرأة نور العالم وجوهره العظيم.
أعتقد بأنني أستطيع أن أذهب أبعد من فان كوخ وطريقته في التعبير عن الحب. قد لا أعرف الحب، لكنني أعيشه وأحسه وأشم رائحته من بعيد. كل خطوة أخطوها في الحياة يكون دافعها الحب سواء في العلاقة مع المرأة أو في الصداقات أو في الكتابة… كل فعل نبيل وجميل وله قيمة في الحياة يكون دافعه الحب
كُردٌ، ما زالوا ممتلؤون بالحبِّ والعصافير والشمس وقطرات الفجر النَّدية… الخضرة لا تتيبس في أجسادهم، والدَّم ـ مهما نزف ـ لا يجفُّ من عروقهم، لذلك هم باقون كالجبال، نعم أحمل كردستان معي كجرح مفتوح في قلبي في حلي وترحالي. وأحاول ما أمكن تثبيت نظراتها الحزينة والعنيدة في وجدان العالم. غالباً أعود بجعبة مليئة بالصداقات القوية مع الشعراء والناس البسطاء.
نريد الكثير من الشعر والقليل من الشرطة
في عام 2014 نبهني صديقي المستشرق المعروف البروفيسور جورج غريغوري بوجود قصيدة للشاعر الروماني أليكساندرو ماﭽيدونسكي بعنوان “الفارس الكردي”، نشرها الشاعر في آذار عام 1883، أي مرّ على نشرها منذ ذلك الوقت إلى الآن 134 سنة بالتمام والكمال.
في مهرجان الشعر العالمي في مكسيكو سيتي الذي شاركت فيه في نوفمبر عام 2015، عندما قرأت قصيدة عن المقاومة الكردية ضجت القاعة بالتصفيق، ورأيت طيف المقاتلات الكرديات بأناقتهن وشجعاتهن يرفرف في القاعة الممتلئة إلى آخرها.
أفكاري تشبه أفكار مسافرين
أردت أن أخط دربي لوحدي دون مساند أو عكاكيز تسندي أو تسند نصي وقصيدتي مهما كان الأمر. أردت أن أكتب قصيدة تشبهني وتشبه خطوط يدي أو بصمة إصبعي. هل وفقت؟
شاركت في مهرجان الشعر العالمي في كولومبيا
في فيلينوس/ ليتوانيا، ألقيت التحية على تمثال الشاعر العظيم آدم مسكيفيتش، وكذلك اطلعت على الدستور الرائع لجمهورية “أوزوبيس”.
في باريس عرجت على مقبرة بيرلاشيز، وزرت قبر الدكتور عبد الرحمن قاسملو ويلماز غوناي وأحمد كايا، والكثير من المبدعين الكبار الذين يرقدون هناك بسلام.
خلال أيام معدودة سأشد الرحال إلى دولة السلفادور ثم ساطير الى كوسوفو وفي اكتوبر ساحل ضيفا على مهرجان الشعر العالمي في كوستاريكا حيث سيصدر لي ديوانا مترجما إلى الاسبانية وأشتاق إلى نهر الراين الذي يذكرني بنهر عفرين الذي يشق قلب المدينة إلى فلقتين. أشتاق إلى الهدوء والراحة والاسترخاء…
شيه
ليست قرية
ليست بلدة ولا مدينة
إنَّها فكرة الله عن الجنَّة
في قلب كُردستان
هناك غياب اعلامي كردي عن الشاعر حسين حبش الذي يتنقل بين بلدان العالم حاملاً قصائده ورايته. ما السبب؟ هل هو من الشاعر أم ممن؟
في مدينة بون الألمانية التقيت به منذ أكثر من سنة ونصف، لكثرة مشاغل الشاعر وأسفاره تأخرت مقابلتنا معه.
شاعرنا حسين أهلا بك في مجلتنا (مجلة الحوار)
- وصلت تواً من سفر فيما أنت على موعد مع سفر جديد. ما قصتك مع السفر؟ وإلى أين هذه المرة؟
نعم، وصلت للتو من الإكوادور بعد مشاركتي في مهرجان الشعر العالمي الذي يقام هناك كل عام في مدينة غواياكيل. أكاد أقول إن أسفاري في معظمها ليست للراحة والاستجمام أو للاسترخاء والتأمل الطويل، بل هي دعوات للمشاركة في ملتقيات ومهرجانات شعرية عالمية، حيث تكون برامجها مكثفة في أغلب الأحيان، وليس هناك متسع من الوقت للتسكع والاطلاع واكتشاف المدن والأمكنة عن قرب. بجميع الأحوال لدي شغف كبير بالسفر وذلك للاطلاع على ثقافات الشعوب وعاداتها، والرغبة في المعرفة واستخلاص الدروس. للسفر تأثير كبير وحاسم على الكتابة وتنشيط المخيلة واستفزازها. فهو ترياق واكسير قوي وفعال ضد الخمول والكسل والجمود. وتبعاً لذلك “فأفكاري تشبه أفكار مسافرين” على طريقة والت وايتمان الشاعر الأمريكي العظيم. أغلب النصوص المفارقة التي كتبتها وأكتبها أتت وتأتي في الغالب عندما أكون في سفر أو على حافات العالم. خلال أيام معدودة سأشد الرحال إلى دولة السلفادور للمشاركة في مهرجان الشعر العالمي الذي يقام هناك، حيث سيشارك فيه مائة شاعر يمثلون مختلف دول العالم، وعلى مدار شهر كامل. أنا سأكون هناك لمدة أسبوع، وسأمثل كردستان. كما سألتقي هناك بصديقي الشاعر الجميل أوتونيل غيفارا الذي يدير المهرجان باقتدار ومحبة عظيمة، حيث التقيت به قبل ثماني سنوات في مهرجان الشعر العالمي في مدينة مدلين الكولومبية، وقرأنا معاً في إحدى المسارح الكبيرة هناك. وبعدها مباشرة سأطير إلى كوسوفو لأشارك في مهرجانها الشعري العالمي، واللقاء بصديقي الشاعر الكبير فخر الدين شيخو المدافع القوي عن القضية الكردية والمتحمس جداً لإستقلال كردستان. ثم سأحل في أكتوبر المقبل ضيفاً على مهرجان الشعر العالمي في كوستاريكا، حيث سيصدر لي المهرجان ديواناً مترجماً إلى اللغة الإسبانية. وبعد ذلك لا أدري في أي حافة من حافات العالم سأكون.
- لا شك أنك اطلعت على الكثير من شواهد الثقافة لشعوب العالم عن قرب بين مبدعيها، بماذا تأثرت، وما الذي أوصلته إليهم؟
نعم، لدي اطلاع لا بأس به بثقافات الشعوب والتواصل مع مبدعيها. أكثر ما يشد انتباهي هو تاريخ هذه الشعوب وأوابدها الثقافية. يهمني جداً زيارة المناطق الأثرية والوقوف على الحضارات القديمة، وكذلك زيارة المتاحف والقلاع والأبراج والقصور والكاتدرائيات والكنائس والمعابد والمكتبات والمبدعين الأحياء، وتتبع آثار المبدعين الراحلين من شعراء وكتاب وفلاسفة، وكذلك الاطلاع على مختلف المعالم والصروح الثقافية والتاريخية… ففي المكسيك زرت أهرامات تيوتيهواكان العظيمة التي تقع بالقرب من العاصمة مكسيكو سيتي، وفاتني للأسف زيارة بيت الرسامة العظيمة فريدا كاهلو. في المغرب، وفي مدينة أسفي زرت القلعة التي بناها البرتغاليين على الأطلسي. وفي مدينة مكناس زرت قصر المنصور الفخم الذي يقع في الجزء الجنوبي من القصبة الإسماعيلية، بني هذا القصر في أواخر حكم المولى إسماعيل. كما زرت المدرسة البوعنانية ذات الزخارف والنقوش الرائعة جداً. في مراكش زرت قصر الباهية وقصر البديع والمتحف الوطني وضريح الشاعر الكبير المعتمد بن عباد وأماكن أخرى كثيرة لا تستحضرني أسماءها الآن. كما لا من ذكر اسم المدينة الأثرية العظيمة “فولوبيليس” التي تقع بالقرب من مدينة مكناس، ذات الأعمدة الرخامية والفسيفساء الذي يطرز أرضية البيوت والمعابد. في نيكاراغوا زرت، وقرأت في بيت المناضل الخالد أوغوستو ساندينو في بلدة نيكونومو. طبعاً أخذت الثورة الساندينية اسمها من اسمه. في فيلينوس/ ليتوانيا، ألقيت التحية على تمثال الشاعر العظيم آدم مسكيفيتش، وكذلك اطلعت على الدستور الرائع لجمهورية “أوزوبيس”. في باريس عرجت على مقبرة بيرلاشيز، وزرت قبر الدكتور عبد الرحمن قاسملو ويلماز غوناي وأحمد كايا، والكثير من المبدعين الكبار الذين يرقدون هناك بسلام. سأتوقف عنا وأكتفي بهذا القدر. أما ما الذي أوصلته إليهم، ففي كل مكان أحل فيه تكون القضية الكردية معي بكل أبعادها السياسية والثقافية والاجتماعية.. أسرد على العالم آلام الكرد ومعاناتهم، آمالهم وأحلامهم، تاريخهم وثقافاتهم…
- ما الذي تحمله معك في أسفارك؟ وبماذا تعود؟
ما أحمله معي في أسفاري هو بضع قصائد وكتب وآراء وأفكار وأحلام أنثرها كالبذور في البلدان البعيدة والغريبة، ربما تورق يوماً ما. كما أحمل معي أيضاً شجون وشؤون وهواجس وأحلام وطني الممزق ليتعرف العالم عليه وعلى ما ألحق به من ظلم وضيم وقسوة وأذى واضطهاد… نعم أحمل كردستان معي كجرح مفتوح في قلبي في حلي وترحالي. وأحاول ما أمكن تثبيت نظراتها الحزينة والعنيدة في وجدان العالم. غالباً أعود بجعبة مليئة بالصداقات القوية مع الشعراء والناس البسطاء. جعبة مليئة بأسماء الشوارع والمقاهي والحانات والمكتبات المسارح وقاعات الموسيقى.. مليئة بالقصائد واللغات والآراء والأفكار الجديدة… طبعاً لهذه الأشياء دور كبير في استفزاز المخيلة وايقاظ شعلة الروح وتوسيع حدود القلب، مما يساعد يد الكتابة على الكتابة بإجادة لاحقاً.
- حضرت عدة مهرجانات شعرية في عدد من بلدان العالم، لو تضع القراء في صورة تلك المهرجانات بشيء من التفصيل؟
لا يمكن الحديث بالتفصيل عن كل المهرجانات التي دعيت إليها وشاركت فيها، لكن سأتحدث هنا عن بعض المواقف المؤثرة التي حدثت ومرت معي في البعض منها. في عام 2009 شاركتُ في مهرجان الشعر العالمي في مدينة مدلين/ كولومبيا. وهو من أكبر المهرجانات الشعرية في العالم بشهادة الجميع. جاء آلاف الناس (لاحظ كلمة آلاف) لسماع الشعر والاستماع إلى نبض قلوب الشعراء. لفت نظري في أعلى المدرج الكبير لافتة كبيرة كُتب عليها بما معناه: “نريد الكثير من الشعر والقليل من الشرطة”، تذكرت على الفور قول أندريه بريتون في بيان السوريالية “افتحوا السجون.. اطردوا الجيش”. وخلتني أتمتم مع نفسي بهذه العبارات: “المجد للشعر والفن، والاندحار لكل أدوات القمع والاستبداد”. هذا المشهد المؤثر علق بذاكرتي، ولا يمكن أن أنساه أبداً. وهنا مشهد مؤثر آخر لا يقل عن الأول من حيث التأثير، ففي نفس المهرجان، وفي إحدى القراءات، اخترت قراءة قصيدة حزينة تتكرر فيها جملة فيها هذه الكلمات: “ليس لي وطن” وبعد الانتهاء منها تقدمت مني سيدة، صافحتني بحرارة والدموع تملأ عينيها قائلة: إذا كان ليس لك وطن، ابق هنا، فكولومبيا وطنك، فلم أتمالك نفسي وبكيت معها. هناك موقف آخر أعجبني جداً وأثار انتباهي في مهرجان الشعر العالمي في نيكاراغوا الذي شاركت فيه في عام 2010. لفت انتباهي اهتماماً فائقاً بالشاعر الكبير إرنستو كاردينال، فسألت عن سر كل هذا الاهتمام البالغ، فأجابني أحدهم بأن أمريكا اللاتينية أنجبت ثلاث أسماء عظيمة تبدأ بإرنستو، هم: إرنستو تشي غيفارا الثائر وإرنستو ساباتو الناثر وإرنستو كاردينال الشاعر. طبعاً الثلاثة هم فخر أمريكا اللاتينية والعالم أجمع. وفي مهرجان الشعر العالمي في باريس الذي شاركت فيه في عام 2013، قرأت قصيدة بالكردية في إحدى الكنائس فوق تلة مونمارتر الرائعة، حيث قامت شاعرة أمريكية من المشاركات في المهرجان لا أذكر اسمها الآن، ورقصت على إيقاع اللغة الكردية والشعر الكردي. يا لعظمتها، موقف لن أنساه ما حييت. وفي مهرجان الشعر العالمي في رومانيا الذي شاركت فيه في عام 2014 نبهني صديقي المستشرق المعروف البروفيسور جورج غريغوري بوجود قصيدة للشاعر الروماني أليكساندرو ماﭽيدونسكي بعنوان “الفارس الكردي”، نشرها الشاعر في آذار عام 1883، أي مرّ على نشرها منذ ذلك الوقت إلى الآن 134 سنة بالتمام والكمال، لعمري هذا أيضاً من الأشياء الجميلة والمؤثرة التي اكتشفتها في ترحالي. طبعاً تولى ترجمتها إلى العربية صديقي الدكتور توفيق ألتنجي الذي يتقن الرومانية، وأنا ترجمتها إلى الكردية ونشرتها في موقع “كولتورنامه” الكردي في السويد. وفي مهرجان الشعر العالمي في مكسيكو سيتي الذي شاركت فيه في نوفمبر عام 2015، عندما قرأت قصيدة عن المقاومة الكردية ضجت القاعة بالتصفيق، ورأيت طيف المقاتلات الكرديات بأناقتهن وشجعاتهن يرفرف في القاعة الممتلئة إلى آخرها، محفزاً مخيلة الشعراء والحضور على حد سواء!
- منذ متى تعيش في بون؟، كيف توفق بين مسؤوليات العمل والثقافة والأسرة؟
أعيش في بون منذ سنوات طويلة، وتحديداً منذ عام 1999. في البداية لم أتأقلم معها بسهولة، بدت لي مدينة غريبة وكئيبة ولا حياة فيها! لكن مع مرور السنوات والمعايشة اليومية، أصبحتُ أحبها وأتأقلم معها، وأشتاق إليها إذا غبت عنها طويلاً. أصبح لي فيها مقاه وحانات وأمكنة هادئة أجلس فيها، أصغي إلى روحي وأنصت لخيالاتي التي ترنو إلى البعيد. أما كيف أوفق بين مسؤوليات العمل والثقافة والأسرة، فهذا الأمر في غاية الصعوبة ويحتاج أحيانا إلى معجزة، لكن العناد والاصرار والحب ودفء الأسرة تجعلني أوفق بينها في أحيان كثيرة، وأخرج من عنق الزجاجة سالماً.
- ماذا عن شيه (شيخ الحديد) حيث البساتين، ساحة النبعة، الناس والأزقة، بحر الزيتون وقباب ووديان الصنوبر والسنديان؟، حدثنا عن طفولتك وصباك هناك؟ أيام الدراسة حافلة بالمشاعر وبدايات تبلور الشخصية. كيف كانت تلك الأيام بالنسبة لك؟
هذا السؤال متشعب وذو شجون، ويستدعي ذكريات كثيرة جميلة وحزينة في آن. طفولتي (1)، وككل طفولة في “شيه” كانت خشنة وقاسية وشقية وممرغة بالتراب والوحل والغبار… طفولة، حيث لا ألعاب فيها تشبه ألعاب الأطفال، ولا حياة تشبه حياة الأطفال، ولا طراوة تشبه طراوة الطفولة. فكنا نخترع ونصنع ألعابنا بأنفسنا من أشياء مهملة في البيت أو ما تجود به الطبيعة أو من بعض السرقات الصغيرة هنا وهناك. طبعاً بعض تلك الألعاب كانت خطرة، وكان أي خطأ في استعمالها قد يؤدي إلى كارثة. طفولة كانت تتعرض للعقاب ـ سواء من الأهل أو الجيران أو المدرسة ـ لأي خطأ أو شقاوة يمكن أن ترتكبها! إلا أنها كانت طفولة في منتهى البراءة، أحن إليها، وإلى ذلك الطفل الذي كنته. وما زالت تلك الطفولة تغريني بين الحين والآخر للرجوع إليها والاغتراف منها للكتابة. أما الدراسة، فقضيت سنتين في مدرسة “شيه” الإبتدائية. ثم انتقلنا لظروف خاصة إلى قرية عربية قريبة من مدينة حلب حيث لا يوجد فيها كردي واحد، درست فيها الصف الثالث، وأتقنت اللغة العربية فيها بشكل كبير. ثم درست الصف الرابع في مدينة حلب، ثم انقلنا مرة أخرى إلى “شيه” حيث مسقط الرأس، أكملت فيها الإعدادية، ثم انتقلت إلى إحدى الثانويات في مدينة عفرين، درست فيها سنة واحدة فقط، ثم انتقلت بعدها إلى مدينة حلب مرة أخرى، أكملت فيها الثانوية ودخلت جامعتها. درست بضع سنوات في كلية الحقوق ولم أكمل الدراسة للأسف. خرجت من سوريا نهائياً في نهايات عام 1996، ولم أرجع إليها إلى الآن. طبعاً هذه الانتقالات كانت حافلة بالتجارب والقراءات وتراكم الخبرات، وخاصة أيام الدراسة في الجامعة، حيث الشغف بالقراءة وحضور الأمسيات والمعارض والحفلات الموسيقية وعروض السينما والرحلات الطلابية وتكوين صداقات حقيقية وتبادل الكتب والآراء والأفكار… كان لهذه الأشياء تأثير حاسم في اختياراتي الأدبية والشعرية بشكل خاص. كنت وقتها أكتب كثيراً، لكن بتكتم شديد، لا يطلع عليها إلا قلة قليلة من المقربين. بينما كان أقراني ينشرون الكتب ويتباهون بمواهبهم الأدبية وأشعارهم العظيمة! طبعاً ما زال البعض منهم مستمراً في الكتابة إلى الآن والبعض الآخر قد تعثر في منتصف الطريق والكثير منهم قد اختفوا نهائياً، تاركين وجع الرأس والشِّعر والكتابة.
- عند الحديث عن شيه وعفرين وكردستان لا بد من أسماء مثل حامد بدرخان (2) وسليم بركات وأحمدي خاني وووو… ماذا تقول عنهم؟ وبماذا يتميز الشاعر حسين حبش وهو ابن نفس البلدة ونفس البيئة خاصة بالنسبة لحامد؟
لا شك هم أساتذة كبار لهم احترامهم وتقديرهم ومكانتهم الكبيرة والمتميزة في وجدان بنات وأبناء الشعب الكردي. ولا شك أنني قرأت أعمالهم وتعلمت منهم الكثير، كما تعلمت من غيرهم على مساحة العالم. لكنني ومنذ البداية حاولت أن أكون بعيداً جداً. أردت أن أخط دربي لوحدي دون مساند أو عكاكيز تسندي أو تسند نصي وقصيدتي مهما كان الأمر. أردت أن أكتب قصيدة تشبهني وتشبه خطوط يدي أو بصمة إصبعي. هل وفقت؟ هل تعثرت؟ لا أدري، أنني أجتهد وأجتهد، فحسب.
- لحامد بدرخان ديوانه باسم قصيدته: شيه، هل لديك كذلك؟ حبذا لو نقرأه؟
طبعاً ليس لدي ديوان كامل عن “شيه”، لكنني كتبت عنها وأفردت لها مساحة واسعة من قلبي وكتاباتي. شيه هي كما أمي كليزار التي ولدت من رحمها. هي مسقط قلبي وروحي وعقلي ورأسي، حبي لها لا ينتهي ولا يمكن وصفه، واشتياقي لها بلا حدود. إليك هذا المقطع الذي كتبته عنها ذات مرة:
شيه
ليست قرية
ليست بلدة ولا مدينة
إنَّها فكرة الله عن الجنَّة
في قلب كُردستان.
- فان كوخ أهدى أذنه المقطوعة لحبيبته، هل يمكن أن تفعلها أيضاً؟
فان كوخ كان عبقرياً في كل شيء حتى في طريقة تعبيره عن الحب. طبعاً في طريقته الجنونية تلك، قد أدخل أذنه المقطوعة إلى التاريخ من أوسع أبوابه. وأعتقد أن هناك عشاق كثر في كل أرجاء العالم لا بد أنهم تذكروا فان كوخ، وفكروا بطريقته وهم في حالة مد وجزر في الحب والعشق. أما بالنسبة لي، فأعتقد بأنني أستطيع أن أذهب أبعد من فان كوخ وطريقته في التعبير عن الحب. قد لا أعرف الحب، لكنني أعيشه وأحسه وأشم رائحته من بعيد. كل خطوة أخطوها في الحياة يكون دافعها الحب سواء في العلاقة مع المرأة أو في الصداقات أو في الكتابة… كل فعل نبيل وجميل وله قيمة في الحياة يكون دافعه الحب، الحب وحده ولا شيء سواه.
- المرأة، الطفولة، السنونو. الشجر. الشمس. القمر، الشهوة والغزال، كاوا ونوروز… ماذا تعني لك هذه الأشياء؟
هي تعني لي أشياء كثيرة ومهمة جداً، سأوجز الحديث عنها في هذه الأسطر:
المرأة: المرأة بجمالها وفطرتها ورقتها ترطب القسوة من حولنا وتعطي الحياة معنى وعمقاً جوهريين وتجعلها جديرة بالعيش والقبول. المرأة نور العالم وجوهره العظيم. فهي الحضن الدافئ الذي نرتاح فيه والصدر الذي نتوسده والقلب الذي يضمنا إليه ويمنحنا بسخاء الأمل والجمال والشوق. هي الأمومة والخصوبة التي تجنّب حياتنا من الجدب والعطش والتصحر والجفاف…
السنونو: هو ساعي بريد الأحلام، أكاد ألمس أعواد أعشاشه على شجرة قلبي.
الشجر: لو لم يخلق الإنسان إنساناً لكان شجراً، هذا ما أعتقد به في بعض الأحيان. كتبت ديواناً كاملاً بالكردية، يتمحور موضوعه حول الأشجار بهمومها وشجونها وأحزانها وأفراحها وأنفاسها الخضراء. للأسف الشديد لم يصدر الديوان بالكردية بعد، لكن صدرت ترجمته بالرومانية في بوخارست.
الشمس: توأم الحرية وفانوس الوجود الذي لا ينطفئ أبداً.
القمر: سيد الأعالي بلا منازع، في ليالي الصيف الصافية يغري العشاق بعدِّ مزاياه، وتشبيه وجوه حبيباتهم به.
الشهوة والغزال: “أعلى من الشهوة وألذ من خاصرة غزال” هو عنوان إحدى دواوين حسين حبش. هما لذتان إحداها مطارِدة والأخرى مطارَدة.
كاوا ونوروز: كُردٌ، ما زالت دماءهم تترقرق نحيلة مرةً، وغزيرةً مرَّات كثيرة، تسيل عبر شهقات التراب إلى جذع شجرة، شموخ صخرة، رعشة نرجسة برية. كُردٌ، ما زالوا يُقتلون في كلِّ حلم، منذ “كاوا” المطرقة الأسطورية إلى “بدرخان بك” الكبير، مروراً بالشيخ النبيل “محمود الحفيد” ملك الصكوك العالية لكردستان ولا انتهاءً بمشعل الحرية “مشعل تمو” الذي يحرس الآن أحلام الشهداء. كُردٌ، ما زالوا ممتلؤون بالحبِّ والعصافير والشمس وقطرات الفجر النَّدية… الخضرة لا تتيبس في أجسادهم، والدَّم ـ مهما نزف ـ لا يجفُّ من عروقهم، لذلك هم باقون كالجبال، كالحرية، كالحياة… كُردٌ، يليق بهم أن ينورزوا قمم جبالهم الشاهقة بلهيب النار. يليق بهم أن ينورزوا نور عيونهم وشغف أرواحهم المفعمة بالأمل. يليق بهم أن ينورزوا نبضات قلوبهم وفوانيس أحلامهم المتلهفة دوماً للحرية والضياء… إذن هذا هو كاوا الرمز والعنفوان، وهذه هي نوروز النار والحب في مرايا الشاعر.
ـ ذات مرة كنت في شيه مع حامد بدرخان (ونحن نغرق في الكلام) قال بحماس: الليلة الماضية ناقشت في قطار نيودلهي مع أمين عام الحزب الشيوعي الهندي عن زواج ابنته!!!! فتوقفت، وقلت: عزيزي وكيف وصلت إلى هنا في عدة ساعات؟ ضحك وقال: ضعنا في الكلام، أنا بحالة شعرية، حسين حبش: تغرق في الورد، وتصعد القبة وتعبر الأنهار… عن ماذا تبحث؟
هذه شطحة مرحة من شطحات حامد بدر خان الكثيرة.
كان يحلق كثيراً في فضاء الخيال، فكان مرة في باريس مع (صديقه) لويس أراغون وزوجته الكاتبة إلزا تريوليه يناقشان هموم الشعر والعالم. ومرة كان في فيتنام مع هوشي مينه يدير معه دفة الثورة الفيتنامية. ومرات كثيرة كان في قلب الثورات وحركات التحرر في العالم. كان يسرح ويمرح بخياله في كل مكان من العالم، ويدوّن ذلك على شكل قصائد تخفق فيها وعليها رايات الأمل والانتصار والغد المشرق! تسألني عن ماذا أبحث؟ أبحث عن ذاتي الضائعة في هذا الكون. أبحث عن روحي القلقة، وعن مأوى لقلبي الحزين. أبحث عن إيجاد مُسكّن فعال لهذا الألم الكبير الذي نتخبط فيه منذ الأزل. أبحث في المجهول والغامض والملغز لعلني أقبض على قبس من النور في نهاية النفق الذي نحن فيه. أبحث عن موطئ قدم في العالم. أبحث عن أجوبة لأسئلتي الكثيرة التي لا تنتهي، والتي تكاد تضعني على حافة الجنون. أبحث عن الضوء، عن الحرية التي نفتقدها، عن الأمل الذي سرعان ما يتحول إلى حيرة قاتلة. أبحث عن الجمال والنباهة والحب في أبهى أشكاله. أبحث عن المستحيل…!
- لننتقل إلى لغة الكتابة: أنت تكتب بلغتك الأم الكردية وكذلك بالعربية؟ هل تكتب بغيرهما؟ حدثنا عن اصداراتك الشعرية، هل أصدرت شيئا بغير العربية؟ لماذا؟ أين تنشر قصائدك؟
أكتب فقط بالكردية والعربية، وأقرأ بهما إلى جانب اللغة الألمانية. اللغة الإنكليزية هي لغة المراسلات والتواصل مع العالم. لدي بالعربية كتاب: غرقٌ في الورد، صدر في عمان ومدريد بتوقيت واحد في عام 2002 بمقدمة جميلة من سليم بركات، وهو كتابي الأول. ثم تبعه ديوان هاربون عبر نهر إفروس، وديوان أعلى من الشهوة وألذ من خاصرة غزال، وضلالات إلى سليم بركات وملاكٌ طائر “نصوص عن أطفال سوريا”. وبالإنكليزية: ملاكٌ طائر “نصوص عن أطفال سوريا”. وبالإسبانية: لن يمروا، أصدره مهرجان الشعر العالمي في بورتوريكو. وبالكردية: أحلام في الجدار، هو ترجمة لديوان الشاعر الألباني جيتون كلمندي إلى الكردية. أما بالكردية، فلدي عدة مخطوطات بحاجة إلى من يتبناها وينشرها. للأسف الشديد أرسلت إحداها إلى عدة دور نشر كردية لكن رجعت إلى خائبة دون أن تتبنى نشرها أياً منها.
- بماذا تختلف القصيدة لديك بالعربية عن الكردية؟
ليست هناك اختلافات كثيرة. باستثناء بعض الفروق والاختلافات اللغوية من حيث التراكيب والقواعد وبناء الجملة الشعرية… فاللغة الكردية كما هو معلوم تختلف كلياً عن اللغة العربية، لذلك، فطريقة كتابة القصيدة بالكردية تختلف عن طريقة الكتابة بالعربية. أما من حيث الأحاسيس والمشاعر والخيال والدفق الشعري فليست هناك اختلافات كبيرة، نظراً لأن الكاتب هو شخص واحد بنفس المشاعر ونفس الأحاسيس ونفس الخيال، لكن بلغتين مختلفتين. بطبيعة الحال للقصيدة الكردية خصوصيتها المختلفة عن القصيدة العربية أو أية لغة أخرى هنا ليس مجال بحثها ومناقشتها والتعمق فيها، وهي تحتاج إلى دراسات منفصلة ومفصلة من قبل النقاد والمختصين.
- الثقافة الكردية غنية بالملاحم والبطولات وكذلك بالانكسارات والخيبات. هل ارتقى الشعر الكردي الحديث للمستوى اللائق بالكرد ومع جيرانهم؟
دعنا من هذه المقارنات القسرية بين الشعر الكردي وشعر جيرانهم! هنا أستطيع أن أقول بثقة، وبحسب اطلاعي، أن الشعر الكردي لا يقل مستواه عن مستوى الشعر الذي يكتب في العالم أجمع، وليس فقط شعر جيرانهم. لكن مشكلة الشعر الكردي أنه لا يترجم إلى اللغات الأخرى ليطلع عليه الآخرون. ليست هناك مؤسسات تتبناه وتدعمه وتهتم به. ليس هناك من يكتب عنه ويشجعه ويعمل على توزيعه وانتشاره في العالم. إنه شعر يتيم ليس له سند ولا ظهر يحميه ويسهر على رعايته والاعتناء به. يقف الشاعر الكردي وحيداً مع قصيدته في عراء العالم، يكتب، يقاوم، يتعب، يمل، يغتم وينفجر من الغيظ، ولا أحد يلتفت إليه!! فكيف لنا أن نطلب منه أن يصعد إلى القمة وجميع الحبال تشده إلى القاع؟! وكما هو معلوم فأن الشعر الذي لا يترجم يبقى أسير محليته ودائرته الضيقة مهما كان شعراً عظيماً. طبعاً هذه الاشكالية الكردية ليست خاصة بالشعر فقط، بل تشمل مع الأسف كل الجوانب الثقافية الأخرى.
- في قصائدك صور شعرية سردية تذكرنا بمم وزين ودوريش عبدي؟
يسعدني جداً أن تذكرك صوري الشعرية بمم وزين ودرويش عبدي، الملحمتان العظيمتان المترسختان في الوجدان الكردي والمنقوشتان بحروف من ذهب في الذاكرة الكردية. نعم، بعض قصائدي اغترفت من الذاكرة الثقافية الكردية واستفادت منها بشكل كبير. في بعض الأحيان أقوم بتوظيف بعض القصص والأساطير والخرافات والأغاني والمآثر الكردية في نصوصي وقصائدي إذا استدعت الضرورة ذلك، لكن دون قسر أو إثقال كاهل.
- أحلامك وآمالك كثيرة؟، ما الذي علمتك الغربة وما الذي اكتسبتها تجربتك فيها؟
علمتني الغربة الصبر والـتأني والتأمل والهدوء والتسامح وعدم التسرع في إطلاق الأحكام. علمتني أن قيمة الإنسان هي قيمة القيم، والقانون هو سيد الأحكام، ولا أحد فوقه، والجميع سواسية أمامه دون تفرقة. علمتني العدل والعدالة والمساواة الحقيقية بين البشر، وأن لا فرق بينهم بسبب اللون أو العرق أو الجنس أو الدين أو أي شيء آخر. علمتني أن آمال الإنسان وأحلامه لا سقف لها، وأنه يستطيع أن يصل إلى المكانة والمكان الذي يريد إن عمل واجتهد وتعب على نفسه. منحتني الثقة بالنفس والانطلاق نحو العالم دون تفكير بوجود عواقب أو عقوبات تنتظرني هنا وهناك. منحتني بيتاً وسقفاً وحياة تليق بالعيش والاستمرار. منحتني أيضاً جواز سفر بقوة ألف حصان، أجوب به كل أنحاء العالم دون سين وجيم على الحدود أو في المطارات.
- إلى ماذا تشتاق في البعد عن بون وشيه؟
في البعد عن شيه أشتاق إلى طفولتي المنسية هناك، إلى ثوب أمي وحضنها الدافئ. أشتاق إلى منديلها وهي تمسح الدموع عن عيني، إلى صلواتها وهي لا تخلو من الدعاء لأبنائها المشتتين في جهات الأرض. أشتاق إلى الأزهار النابتة على فستانها وإلى الورود المتفتحة على شالها. أشتاق إلى أبي الذي علمني الكبرياء والصدق والكرامة وعزة النفس. أشتاق إلى أحاديث الجيران ولقاء الأصدقاء والأحباب. أشتاق إلى رائحة الأرض، ندى الصباح الذي يغفو على خدود الأزهار كدمع الملائكة. أشتاق إلى الرياحين التي تعبق من كل بيت من بيوتها. أشتاق إلى النبعة التي تتدفق بحنان وتروي ظمأ الناس والبساتين وحقول الزيتون المقدسة. أشتاق إلى جبل حسي خدر (نسبة لجد الراحل حامد بدرخان ـ الحوار)، إلى كلسية، إلى وادي شيه الذي يغري القطعان بالارتواء منه. أشتاق إلى حقول الزيتون الشاسعة التي تجعل العيون ترقص فرحاً لمرأها. أشتاق إلي، إلى طفولتي الموشومة هناك إلى الأبد. أشتاق إلى كل شيء فيها، حتى إلى غبارها وقسوتها.. وروحي رغم البعد، تأبى مغادرتها، وترفرف دائماً فوق أزقتها وبيوتها وحقولها الخضراء (3). أما في البعد عن بون أشتاق إلى بيتي وأسرتي الصغيرة. أشتاق إلى صديقاتي وأصدقائي، زميلاتي وزملائي. أشتاق إلى المقاهي والحانات والمكتبات والمسارح وقاعات الموسيقى وموسيقى الشوارع. أشتاق إلى صديقي العظيم بيتهوفن، إلى موسيقاه وسيمفوناته العظيمة. أشتاق إلى نهر الراين الذي يذكرني بنهر عفرين الذي يشق قلب المدينة إلى فلقتين. أشتاق إلى الهدوء والراحة والاسترخاء…
- سمعت أنه هناك ترجمة لإحدى اصداراتك باللغة الرومانية، لو توضح لنا ذلك. وما هي اللغات التي ترجمت لها قصائدك؟
نعم، صدر لي هذا العام ديوان باللغة الرومانية بعنوان “أشجار ثملة” في العاصمة الرومانية بوخارست. الديوان مكتوب بالأصل باللغة الكردية. قصائد الديوان تتناول ثيمة واحدة، ألا وهي ثيمة الأشجار. وكنت قد نشرت معظم القصائد حين كتابتها في موقع “كولتورنامه” الكردي الذي كان يديره الشاعر الصديق صدقي هروري. وبناء على رغبة بعض الأصدقاء قمت بترجمة الديوان كاملاً إلى العربية بنفسي، واطلع عليه اللغوي والمستشرق الروماني الكبير البروفيسور جورج غريغوري الذي التقيته في مهرجان الشعر العالمي في رومانيا عام 2014، وأبدى اعجابه الشديد بالديوان، حيث كلف صديقه شتيفان يونيتي بترجمته إلى اللغة الرومانية مشكوراً، وتم ذلك. صدر الديوان عن دار “أرس لونغا” للنشر والتوزيع. مجموعة الألف الأدبية بدراسة للاورا سيتارو. رسوم وغرافيك لنيكوليتا بيدا شوروبارو. كذلك صدر لي قبلها ديوان بالانكليزية، وهو مجموعة نصوص عن معاناة أطفال سوريا في أتون الحرب الطاحنة التي تدور رحاها في سوريا بعنوان “ملاك طائر/ نصوص عن أطفال سوريا، بترجمة منى زيناتي. وكذلك صدر لي ديوان صغير باللغة الإسبانية في بورتوريكو، أصدره مهرجان الشعر هناك وهو بعنوان “لن يمروا” والعنوان من اختيار إدارة المهرجان، وهو مأخوذ من قصيدة لي تحمل نفس الاسم كنت قد كتبتها عن كوباني والمقاومة البطولية التي أبدتها في وجه قوى الظلام المتمثلة في “داعش” ومثيلاتها. أغلب القصائد من ترجمة الشاعر العراقي عبد الهادي سعدون المقيم في مدريد. وسيصدر لي ديوان آخر بالإسبانية في أكتوبر القادم من قبل إدارة مهرجان الشعر العالمي في كوستاريكا. كما أنني ترجمت ديواناً للشاعر الألباني جيتون كلمندي إلى الكردية بعنوان “أحلام في الجدار”، وتولى هو نشره في ألبانيا. كما أن لي قصائد متفرقة مترجمة إلى لغات كثيرة، منها الإنكليزية، الألمانية، الإسبانية، الفرنسية، الفارسية، الأوزبكية، الألبانية، الروسية، الرومانية، الصينية، الليتوانية والصربية.
- في بورتوريكو لم تكن شاعراً فقط. كنت محاضراً أيضاً، عن ماذا كانت محاضرتك؟
دعيت في العام الماضي 2016 للمشاركة في مهرجان الشعر العالمي الذي يقام هناك. وقبل ذهابي كتبتْ إلى إدارة المهرجان تعلمني بأن مشاركتي لن تقتصر على القراءات الشعرية فقط، بل على إعداد شيء ما عن همومي ومعاناتي ورؤيتي للشعر كشاعر ومثقف كردي، وكذلك شيئاً عن القضية الكردية أيضاً. أحببت الفكرة، فكتبت شيئاً، وأرسلته إليهم مترجماً للإنكليزية. وأعتقد أن أساس الفكرة هو وحدة الحال بين بورتوريكو وكردستان، باعتبار أن كلا البلدان مستعمران ويخضعان للاضطهاد والاحتلال. أقيمت المحاضرة في جامعة العاصمة سان خوان بحضور لفيف من الأدباء والشعراء من مختلف أنحاء العالم، وعدد غفير من أساتذة الجامعة والطلاب، وحضور الصحافة أيضاً. ألقيت محاضرتي ولاقت تفاعلاً كبيراً واشارات استفهام كثيرة على وجوه الحضور، ستصبح أسئلة كثيرة، جاوبت عليها في نهاية المحاضرة. شاركني أستاذان جامعيان مختصان بقضايا الشرق الأوسط ولهما خبرة واسعة بالقضية الكردية بورقتين منفصلتين تحدثا فيهما عن القضية الكردية بشكل علمي ودقيق عن طريق إبرازهما الوثائق والخرائط والاثباتات… تركا في نفسي أثراً عظيماً. في النهاية توجهت إليهما بالشكر على ما بذلاه من جهد، وعلى اهتمامهما الكبير بالقضية الكردية، ووجهت لأحدهما سؤالاً أخيراً: هل هناك إمكانية لقيام دولة كردية في المدى المنظور؟ بعد تفكير أجابني بـ “نعم”، لكن قال، عليكم أولاً بتخطي عائق كبير ألا وهو الدولة التركية، إذا نجحتم في ذلك سيكون من السهولة قيام الدولة التي تحلمون بها.
- لنتحدث قليلا عن السياسة. ما رأيك بواقع الحركة الكردية في سوريا؟
منذ تأسيس الحركة الكردية في سوريا وهي تتخبط في الولادات القسرية والمزاجية حتى أصبح لها بنات وأبناء شرعيين وغير شرعيين تجاوز عددهم العشرون وأكثر من دون أي فعل يذكر. الحركة الكردية كان دأبها العمل في الهامش دون الدخول في صلب الموضوع والعمل بجدية وإخلاص من أجل القضية التي أنشئت من أجلها. أغلب الأحزاب الكردية في سوريا هي أحزاب متناحرة وتابعة وتعمل بمشيئة الأخ الأكبر في الأجزاء الأخرى من كردستان أو بمشيئات أخرى! والحزب الذي يود أن يخرج عن هذا المأزق ويخط طريقه لوحده يكون مصيره الرجم، وبالتالي لا مكان له للعمل بحرية! أغلب برامج هذه الأحزاب هي برامج مهترئة تحتاج إلى تغيير شامل وإصلاح حقيقي. ربما تكون هذه الصورة قاتمة، فأرجو أن أكون مخطئاً في ذلك.
- أعلنت انتماءك لكردستان في العديد من المنصات في أوروبا وأمريكا وأفريقيا. لماذا؟، هل تخليت عن كرد داغ وهي في مواجهة التهديدات المختلفة من الحكومة التركية خاصة؟
الجواب في منتهى البساطة، هو لأنني من كردستان، وكردستان وطني، ولا بديل لي عنه. ومن البديهي أن تذكر تلك المنصات اسم بلد الشاعر المشارك فيها. لم أتخلى عن كرد داغ لحظة واحدة، ولن أتخلى عنها ما حييت. كل ما يمسها بسوء يمسني أنا أيضاً. وكل خدش لجسدها هي طعنة في قلبي. يقيني هو أن كل ذرة من تراب كردستان هي كردستان، وكرداغ هي كردستان بطبيعة الحال.
- ما علاقة المثقف بالسياسي؟، كيف ترى ذلك بالنسبة للكرد حاليا؟
هي علاقة اشكالية، شائكة ومضطربة على مر التاريخ. قلما يلتقي المثقف والسياسي على مائدة واحدة دون أن يكون الخوف والشك والقلق ضيوفاً معهما على تلك المائدة. فلا المثقف يثق بالسياسي ولا السياسي يثق بالمثقف. أكاد أقول إن المثقف والسياسي لا يلتقيان إلا نادراً جداً. السياسي يساوم ويراوغ ويكذب، بينما المثقف يفكك ويحلل ويطرح الأسئلة. يتعامل السياسي مع الحاضر والآني، بينما المثقف فيرنو بعقله وفكره ومعرفته إلى المستقبل. السياسي هدفه المصلحة وتثبيت أركان الحكم، بينما المثقف فهدفه هو المعرفة والوعي وخلخلة الثوابت وطرح الأسئلة. إذن لا السياسي لديه الاستعداد لتقبل المثقف ولا للمثقف الاستعداد للتنازل للسياسي. أما بالنسبة لنا نحن الكرد، فعلاقة المثقف بالسياسي تكاد تشبه الكارثة. فالمثقف الكردي أما أن يكون تابعاً للأحزاب أو الزعماء الكرد أو أن لا يكون له أي وجود أو قيمة تذكر! لا مكان للمثقف الكردي المستقل والحر على موائد الساسة الكرد وأحزابهم. المثقف المستقل والحر يكاد يكون لا شيئاً ومجهولاً تماماً في ذهن السياسي الكردي. في أحيان كثيرة يهان المثقف ويشهر به وتتعرض حياته للخطر نتيجة لرأي أبداه أو لموقف اتخذه أو لفشة خلق قالها في لحظة غضب أو جنون.
- هناك أطر ثقافية كردية متعددة، ما رأيك بها؟ إلى أي منها تنتمي؟
غالباً تبدأ هذه الأطر الثقافية بحماس وتنتهي إلى البرود والفتور أو الذوبان والانمحاء التام من الوجود! وهي في الغالب أطر ذيلية للأحزاب والحركات الكردية، تتجاذب أطرافها أهواء هذه الأحزاب والحركات، لذلك تبقى أطر شكلية ليس لها أي فاعلية ثقافية تذكر. منذ تواجدي في ألمانيا تم تشكيل الكثير من هذه الأطر والجمعيات واتحادات الكتاب.. لكن لم يكن لها أي فاعلية أو تأثير يذكر باستثناء إقامة بعض الأمسيات الأدبية ومجالس العزاء! شاركت في أنشطة وفعاليات بعضها بمحبة ونية طيبة، وفي بعضها الآخر من باب رفع العتب، إلى أن انتهيت مؤخراً إلى عدم المشاركة في أي منها.
- لم نتحدث عن أسرتك: هل لنا من ذلك الجانب أيضا؟
عندي أسرة صغيرة. زوجة وطفلان، والكثير من الحب.
- ما هو حلم أحلامك؟
حلم أحلامي هو قيام دولة كردستان، مستقلة، حرة، ديمقراطية. وأن أرى العلم الكردي يرفرف بألوانه الزاهية فوق كامل التراب الكردستاني.
- ما رأيك بمجلة الحوار؟ ماذا تقترح لها ولقرائها؟
مجلة الحوار مجلة قديمة وعريقة، أتمنى لها كل التوفيق والنجاح، وتقديم كل ما فيه الخير للثقافة الكردية، وأن تبقى منبراً للأفكار الحرة وتبادل الآراء.
شكراً
بون 12 – 8 – 2017
هوامش:
- الشاعر حسين حبش من مواليد شيه 1970 من عائلة تعرف باسم عائلة حميد حبو التي هجرت من قرية كوميت الأثرية القريبة بسبب وضع الحدود مع الدولة التركية فرسمت على حساب نشاط وبيوت القرية لتصبح مهجورة منذ أوائل الخمسينات من القرن الماضي
- الجبل المطل على بلدة شيه يدعى جبل حسه خدر وهو اسم لأصل شاعر شيه الراحل حامد بدرخان الذي كان يعرف في المنطقة باسم حميد كوتو حسه خدر.
- تتميز شيه بأقدم نظام ري وتوزيع المياه لازال حتى الآن مستمرا في المنطقة حيث النبعة الأثرية وساحتها وسوقها ومجانينها ومدرجات البساتين الأثرية والمزارات وبقايا خاصة عن الصناعات القائمة على الزيتون والكرمة تعود لألاف السنين
المرفقات: صورة اثناء الحوار ـ صور عن اصدارات الشاعر وصور عن مشاركاته في المهرجانات المختلفة في بلدان العالم
===============