القسم العاممختارات

معارك قبيلتي الكيكان والبكّارة في الجزيرة السورية (1944م-1946 م) …

محمود حسين حاج درويش

ذاكرة وتوثيق:

معارك قبيلتي الكيكان والبكّارة في الجزيرة السورية (1944م-1946 م)

محمود حسين حاج درويش*[1]

 تنويه من مجلة “الحوار” – العدد /70/- صيف 2017: ننشر هذه المادة التوثيقية عن أحداث دامية جرت في الجزيرة السورية في وقت مضى (1944م-1946م) بغرض توثيق تلك الأحداث الواقعة فعلاً في المنطقة؛ لا من أجل استثارة النعرات العشائرية أو القومية بين أبناء من تحاربوا في ذلك الوقت، وإننا في الوقت الذي نشكر فيه كاتب المقالة على هذه المادة التوثيقية الهامة، نرحب بأي آراء أو تحليلات أخرى مختلفة مع مضمون هذه السردية – المقال.

قبيلة الكيكان وتوزعها الجغرافي في الجزيرة السورية

كانت منطقة الكيكان تسمى ببريّة ماردين، وهي المنطقة الممتدة بين جبال طوروس شمالاً وحتى ضفاف الخابور وجبل عبد العزيز جنوباً، وتصل حدودها في الشرق إلى حدود قبيلة (ملاّن الخضر) عند بلدة عامودا ويجاورون في الغرب قبيلة (ملاّن الباشا) في منطقة (رأس العين) سري كانيه. تميزت منطقة الكيكان عموماً بوفرة الأمطار والمياه الجوفية، فضلاً عن وجود عدة أنهار تجري ضمن مناطقهم مثل نهر الزركان[2] ونهري الجرجب الكبير والصغير ونهر الخابور ووادي تعلك وواد فضلية ونهر أوكسيس (نهر العويج) الذي كان يجف صيفاً ولفترات طويلة. هذا الأمر ساهم في غنى المنطقة وبشكل خاص في فصل الربيع لتوفر المراعي والخيرات، حيث كانت تزرع فيها وما زال إلى يومنا هذا القمح والشعير بشكل رئيسي وكذلك الذرة البيضاء والخضروات والبطيخ وبعض أشجار الفواكه وغير ذلك والتي كانت تسقى بواسطة الحيوانات عن طريق ما يسمى بالغرافات.

نتيجة لحدوث خلافات بين عشائر الكيكان وتجنباً للحرب فيما بين عشائرها فإنها انقسمت إلى فرعين، يضم كل فرع عدة عشائر، الفرع الأول ويسمى جركان ويشمل العشائر الآتية: آزيزا، أومرا، سمعيلا، موريكا، كوردكا، كوسكا، شيخان، بريم زركا، رماكا، شكرا، علي خانيا، بارافا، نجارا، سينكا، هيسكا، جمكا، وقد انقسم هذا الفرع  الى قسمين: هسنيا Hesnya  وهم بقيادة بيت الرستام وتضم عشائر جمكا وكردكا-علي خانيا، بريم زركا، موريكا ونخوتهم السياف في المناسبات وفي المعارك داخل العشيرة وسباق الخيول، أما القسم الثاني فيسمى ميركهرا  Mîrguhera  وتضم عشائر آزيزا، اومرا، رماكا، سمعيلا، شكرا، هيسكا، نجارا، شيخان والقصوارنة المسيحية ونخوتهم الميران.

أما الفرع الآخر من الكيكان فيسمى بخلجان ويضم أربعة أفخاد هم عمركان، تمركان، درباسيان وحسنكان.  يفصل بين فرعي قبيلة الكيكان نهر الزركان، حيث كانت المنطقة الواقعة غرب النهر تعود إلى فرع الخلجان، أما القسم الواقع شرق نهر الزركان فكان يعود إلى الفرع المعروف بالجركان (وهي تسمية اختفت لاحقاً)، مع أن أفخاد فرع الخلجان امتدوا في وقت لاحق نحو مناطق الشرق.  وكانت عشيرة الحرب العربية بفرعيها تنتمي إلى قبيلة الكيكان، فقد كان بيت عبيد الخليل من ضمن تحالف الخلجان، أما آل محمد صالح عبيدو فكانوا تابعين للفرع الآخر من الكيكان.

أهم معالم الكيكان في هذه المنطقة، هو الهضبة المعروفة باسم كبزي كيكان (kepezê kîkan) على يسار الطريق الواصل بين الدرباسية ورأس العين /سري كانيه،[3]

 كذلك ما يعرف بالقوج الكبير (qȗça mezin) الذي كان يسمى قوج ميرزة أوغلي وتسمى حاليا قصرك جنوب غرب تل تمر وكان يسكن فيهاً الدروز- الذي تم جلبهم إلى المنطقة خلال حكم اديب الشيشكلي- إلى ما قبل 2012، وكذلك القوج الصغير وكان يعرف بقوجا جلوكي.

إلى الغرب من هضبة كبز يقع خربة سينكان ويسمى حالياً تل دياب ويسكن فيها حالياً عشيرة الحرب، وكان ينطلق من هذا التل 90 خيالاً اثناء الحروب، وجنوب بلدة تل تمر توجد قرية الركبة (riguba) وكانت تسمى بوزي دفة بوينيه (pozê deve boynê)، وفي غرب مدينة الحسكة توجد قريتان تحملان أسم عشيرة سينكان وهي فيضة سينكان وخفسة سينكان بالقرب من جبل عبد العزيز ويسكن فيها عشيرة أبو معيش، ويوجد شمال بلدة تل تمر قرية تسمى دردارة، وقد سميت بهذا الأسم لوجود  كثيف لشجرة تسمى دري (darê diriyê) التي كانت تنمو على طرفي نهر الزركان وكانت ترتبط مع بعضها البعض بحيث يستطيع المرء العبور من فوقها من طرف النهر إلى آخر.  هناك بعض القرى الحالية التي يسكن فيها الآشوريين كانت تحمل أسماء كردية، على سبيل المثال تل شنان كان يسمى كري كو (girê gȗ)، غرب عين العبد وشرق تل شنان يقع واركي برو (wargê pero)، نسبة إلى زوجة حجي شيخموس خليل التي دفنت هناك، وتل رمان يسمى كلا كاسو (kela gaso)، كذلك قرية علوني على طريق الحسكة كان تسمى كري معي لولي (grê miyê lȗlî) نسبة إلى معي لولي من عشيرة كوردكان الكيكية، ويقع التل بالقرب من الفرع الشرقي لسد الخابور (حوالي 15 كم من الحسكة).

الأسباب المباشرة وغير المباشرة للحرب

نظراً لخصوبة منطقة قبيلة الكيكان وطيب المعاشرة وحسن الجيرة أصبح البكّارة يتوافدون إلى منطقة الكيكان وبشكل مكثف ليرعوا أغنامهم وراء الحواصيد الذين كانوا يحصدون بالمناجل، وكان حرث الأرض يتم حينها بواسطة المحراث القديم الذي يجره البغال والأحصنة (الكديش) وأحياناً الثيران، وخلال الحصاد كانت نساء البكارة يلتقطون السنابل التي تبقى وراء الحواصيد ويجمعونها على شكل أكوام لحمايتها من الرياح، وكان يتم نقل الاكوام على ظهور الجمال لأنها أكثر قدرة على التحمل من بقية الحيوانات.

بعد انتهاء موسم الرعي كان البكارة يعودون إلى أماكن استقرارهم الرئيسية جنوب الخابور.  كانت بريّة ماردين ذات مساحة شاسعة وكثافة سكانية قليلة، لذلك لم تكن للأراضي قيمة كبيرة في ذلك الحين. على سبيل المثال كانت ممتلكات قرية تل بيدر (على الطريق بين الدرباسية والحسكة) والقرى المحيطة بها والتي تبلغ مساحتها أكثر من 85 ألف دونم، كانت عائدة إلى حاج درويش حاج موسى أحد رؤساء عشيرة أزيزان وكان يسكن فيها بشكل دائم ابنه سليمان مع عدد من أقاربه وكان يتردد إليها أفراد العائلة والعشيرة بعض الفترات لأجل المراعي. أهدى حاج درويش تل رجب لحماد الطلاع دون مقابل وجهفة لمحمد حسو (والد نورو) (من عشيرة الكوسكان) وباع تل بيدر بكامل مساحتها مع القرى التابعة لها لخالد الطلاع بثمن بخس، بارودة عجمية وفرس و3000 ليرة سورية، وكان ذلك قبل بدء الحرب بسنتين تقريباً علماً بأن خالد لم يسدد من المبلغ إلا الجزء اليسير، لا يعادل نصف القيمة.

 بعد تاريخ طويل من الحل والترحال، أصبح قسم من البكارة يستملكون الأراضي في أماكن متفرقة ومتداخلة مع مناطق الكيكية في برية كيكان، وبدأوا ببناء بعض البيوت الصغيرة ونصب الخيم، هنا بدأ الوضع يتأزم نتيجة لانتشار البكارة في المنطقة والمزاحمة على الخيرات ومحاولة السيطرة على المنطقة وإبعاد سكانها الأصليين منها وجلب أعداد أكبر من البكارة وبشكل خاص فخذ أبو حمدان (البوحمدان) برئاسة بيت الوكاع والسايل وأبومعيش برئاسة خالد الطلاع (خالد حمي)، وبدأوا يثيرون الفتن وخلق الذرائع ليدخلوا المنطقة ويستولوا عليها ويطردوا سكانها، ولم يخص هذا الأمر قبيلة الكيكان فقط،  فقد استولى البكارة قبل حربهم مع الكيكان على القرى المنتشرة جنوب الخابور والتي كانت عائدة إلى عشيرة الشرابيين والسيّاد ليحلوا لهم الأمر ويسهل عليهم التنقل جنوباً وشمالاً متى ما شاؤوا، فقد كان الشرابيين يسكنون في تل الحمام الشرقي والغربي والمغلوجة والعائدة ملكيتها لأحمد الحسن وأخوانه وهم من بيت البوزو، حدث هذا الأمر كذلك بالنسبة للسيّاد القاطنين بين الشرابيين حيث كانوا يملكون مساحات واسعة، فقرية الخزنة كانت عائدة للسياد الرخمان من بيت البدران وقرية علاشة لأحمد الملا وسيد لطيف وقرية السوسة لسياد شيخ علي. ويعود السبب المباشر لإندلاع هذا الحرب إلى الاعتداء الجنسي من قبل ثلاثة أشخاص من عشيرة البكارة من فرع أبو معيش على امرأة من عشيرة الشرابية (فرع السيّاد)، جرت الواقعة عندما كانت المرأة مع زوجها على الطريق فصادفهم اولئك الأشخاص، حيث قاموا برط الزوج ومن ثم الاعتداء جنسياً على الزوجة.

أحداث المعارك ومعركة الزركان الفاصلة

رغم أن الحرب التي جرت بين عشائر المنطقة بين سنة 1944-1946 معروفة باسم حرب الكيكان والبكّارة، إلا أن المعارك في بدايتها كانت بين عشيرة الشرابية وقبيلة البكارة العربيتين ومن ثم بدأ تدخل الكيكان في وقت لاحق.

نشبت المعارك مباشرة بعد الاعتداء الجنسي على المرأة الشرابية، حيث قام الشرابية وكرد فعل على الواقعة بالهجوم على مضارب البكارة ونهب مواشيهم فضلاً عن قتل شخصين منهم أحدهم خالد المعيشي. كان أغلب الشرابيين يسكنون حينذاك جنوب نهر الخابور، وكانت لهم الكثير من القرى هناك منها تل حمام شرقي وتل حمام غربي ومغلوجة وعلاشا. وفي اليوم التالي هاجم البكارة على الشرابية ونهبوا أغنامهم وبيوتهم وقتلوا شخصاً منهم (محمد العليوي)، هرب الشرابية والتجأوا إلى الكيكان وأصبحوا دخلاء لديهم، بعث الكيكان رجلاً أسمه خلف إلى وكاع شيخ البو حمدان ليخبروه بأن الشرابية دخلاء عشيرة الكيكان وبأنهم لا يقبلون الاعتداء عليهم، عاد خلف ومعه رسالة من وكاع جاء فيها: (إلى الكيكية، يجب أن تعودوا إلى قراكم وتتركوننا نحن والشرابية والحُرّ يكفيه إشارة). إي أن الرسالة كانت عبارة عن تهديد واضح بالحرب على الكيكان في حال عدم استجابتهم لمضمون الرسالة، رد الكيكان على البكارة برسالة كتبها حسين حاج درويش وحميد آغا وجاء فيها، (الآن ليس وقت الذهاب إلى القرى ولا أحد يترك دخيله والحُرّ يكفيه إشارة). فقام البكارة بالهجوم على قرية هسك الكيكية (على الطريق الواصل بين بلدة الدرباسية والحسكة) والتي سنأتي على ذكرها لاحقا، لتبدأ بذلك رحى الحرب بين القبيلتين والتي استمرت لمدة سنتين.

 شارك في المعارك كبريات عشائر المنطقة، فقد ضم تحالف الكيكية عشيرة الشرابيين وعشيرة الحَرْب الذين كانوا يعتبرون أنفسهم فخذاً من قبيلة الكيكان (خلجان وجركان)، وقسم من الشمر الذين تتداخل قراهم مع قرى الكيكية في قرى السيكرات الثلاثة (سيكرsêgir 1 ،2،3) أمثال ميزر عبد المحسن، وميزر المدلول وسطام وزيد العمر.

 أما تحالف قبيلة البكارة، فضم فروعها أبو معيش (وشيخهم خالد الطلاع) وبكارة الجبل (وشيخهم عيسى سليمان) وبكارة دير الزور (برئاسة شيخ مشايخ البكارة راغب البشير).

  كانت عشيرة الغراجنة ضمن تحالف البكارة، وكان قبيلة الملاّن الكردية متعاطفة مع قبيلة البكارة ويعود هذا الأمر إلى خلافات قديمة بين الملّان والكيكان، إلا أن (الملّان) لم يشاركوا في المعارك.

 جرت المعارك في أماكن ومواقع مختلفة من المنطقة التي تقدر عرضها ب 50 كم من الشرق إلى الغرب، من نهري الجرجب الكبير والجرجب الصغير غرباً وحتى قرى الشمر والقصوارنة شرقاً، ومن الحدود مع تركيا شمالاً حتى دير الزور جنوباً (بكارة راغب البشير).

أهم المعارك التي جرت بين الطرفين هي المعركة الجماعية التي جرت في قرية (صفاوي) (غربي طريق الحسكة درباسية)  التي راح ضحيتها العشرات من الطرفين ومعركة قرية (هسك) الواقعة غربي الطريق الذي يربط الحسكة مع الدرباسية، حيث جرت فيها اشتباكات بين البكّارة من جهة ومجموعة من عشيرة سمعيلا وعشيرة رماكا (من فروع الكيكية) ويساعدهم الشمّر من جهة أخرى، ولكن عندما خيم الظلام انسحب الشمر، حيث نادى قائد الشمر مقاتليه بجملة (على الفلاح) وكان يقصد بذلك الانسحاب من المعركة، في حين ظل مقاتلي السمعيلا والرماكا بأن الشمر ينوون النزول أسفل التل، فظل هؤلاء على قمة التل وأبوا الانسحاب إلى أن قتلوا جميعاً على قمة التل وكان عددهم 12 شخصاً، وهذه الحادثة مشهورة جداً، ومن المعارك الأخرى تلك التي جرت في منطقة العاصي وتل غزال و قرية شون وتم فيها أسر 12 مقاتلاً من الكيكان كان يقودهم حسين حاج درويش، والذي نجا منهم بأعجوبة على ظهر أحد خيولهم وهم يلاحقونه  ويريدون القبض عليه وهو يفر منهم أحياناً ويلقي بنفسه من ظهر الفرس أحياناً أخرى ليبادلهم إطلاق النار لأنه كان يعلم بأنه إذا وقع بين أيديهم فسيقضون عليه، حيث كان على رأس المطلوبين ومتهم بقتل عدد من البكارة، فقد كان معروفاً بانه قناص ماهر يصيب أهدافه بدقة، علماً بأنه ذكر لي مرات عديدة بان المعارك كانت جماعية فلا يعرف هوية القاتل أو المقتول لأن المسافة كانت بعيدة ولا يستطيع المرء أن يميز  بين المقاتلين ويجزم بأن فلان قتل فلان أو قتل فلان على يد فلان من الناس. ومن المعارك التي ذكرها لي الوالد هي تلك التي  جرت معركة بين والدي حسين حاج درويش برفقة بعض أولاد أعمامه من طرف وخضر الديري وجماعته من طرف آخر، حيث كان الأخير يقود قافلة من الغنم فكان يأتيه وابل من الطلقات ولا يتخلى عن الأرزاق والنساء ولا ينسحب من المعركة، يقفز من ظهر الفرس مترجلاً ويقاوم المهاجمين وينتخي قائلاً محيسن ولد الديري راعي الحيزة والنساء تهلهل له وتشجعه، بقي الأمر بهذه الحدة والشراسة من قبل المهاجمين وهو لا يستسلم، وأخيراً انتبه حسين حاج درويش وفطن بأنهم كانوا يخوضون المعارك ويرمون عن بعد فنزل موجه البندقية على المسافة المطلوبة وصوب أول طلقة باتجاه فرس محيسن الديري فأرداها قتيلاً ولم يسخي بخضر الديري ثم توجه إلى رفاقه قائلاً لهم لا أقبل من أحد قتل هذا الفارس الشجاع لأنه لا يستحق ذلك فتركوه هو وقافلته. وحتى الآن تعيش هذه الواقعة وتتردد احداثها على ألسنة الطرفين، حيث كان الطرفان يشيدون ببطولات بعضهم البعض. بالنسبة للأسلحة التي كانت تستخدم في المعارك آنذاك فهي لم تكن متطورة ومجدية على المستوى المطلوب، فكان أفضلها البارودة العجمية التي تحمل كتابة (سازة برنو) تشير إلى صانعها والبندقية الألمانية والكمالية. في حين أن الأشخاص الذين لم يكونوا يملكون السلاح والخيل لم يكن يعدون من المقاتلين. كانت جميع المعارك آنذاك تجري على مرأى ومسمع المحتلّين الفرنسيين، وفي إحدى المعارك آنذاك رافقت مدفعيتهم المهاجمين من البكارة وشاركت في الاشتباكات ضد الكيكية فقتل رامي المدفعية وكامل طاقمها آنذاك، وكانت المدفعية تخصّ عناصر الهجانة التي كانت أغلب عناصرها من العرب من عشيرة العكيدات والجبور وأهالي حوران.

لم تكن المعارك مستمرة وإنما على شكل كرّ وفرّ، حيث كان الطرفان يهاجمان بضراوة وبكل إمكانياتهم للحصول على غنائم وأموال ومحاصيل زراعية وهم يقولون: الفوز الفوز عند البل (أي الإبل)، أي المنتصر الحقيقي هو الذي ينجح في نهب العدو. في بدايات الحرب كان البكارة يتقدمون شيئاً فشيئاً ويتوغلون ضمن قرى الكيكية. فاجتمعت قرى الكيكية مع حلفائها بأغواتها وشيوخها ووجهائها وتشاوروا مع بعضهم البعض للخروج من هذه المحنة ووضع حد لتقدم البكارة، فاتفقوا على الذهاب إلى عشيرة الشمر للحصول على مساعدتهم ضد خصومهم وتوجهوا شرقاً إلى شيوخ الشمر حتى وصلوا لشمر العراق لكن هؤلاء رفضوا الاستجابة لدعوتهم، في حين أن الشمر القاطنين في المنطقة والمتجاورين مع الكيكية أبدوا استعدادهم للمساعدة، حيث كان هؤلاء على علاقة سيئة مع عشير ابو معيش، الذين تحاربا فيما مضى على الأملاك. فلم يبقى أمام الكيكان سوى خيار الاعتماد على الذات، ونظراً لضعف الإمكانات المادية للكيكان وقلة الأسلحة والذخائر المتوفرة لديهم ولخوفهم من فقدان البقية الباقية من المنطقة تعاقدت الآمال على إجراء مصالحة مع البكارة للخلاص من هذا المأزق، وجرت مفاوضات ولقاءات بين الطرفين وحدد موعد لإجتماع الطرفين للمصالحة، لكن ومع الأسف لم تكن لدى البكّارة نيّة صادقة لإنهاء الحرب، حيث كانوا يراوغون ويهدفون إلى حشد أكبر عدد من المقاتلين لزجهم في المعارك، فقد أقنعهم شيخهم راغب البشير بجدوى المعركة بقوله لهم ˮمالً كثير وزلم ما بيˮ أي أن الكيكان يملكون الكثير من المال وعددهم قليل يسهل التغلب عليهم والاستيلاء على مناطقهم وبدون مقاومة تذكر، هذا ما ورد على لسان بعض المسنين من البكارة واعترافهم بذلك بعد الانتهاء من المعارك. بينما كانت قبيلة الكيكان تنتظر قدوم شيوخ البكارة للمصالحة وإنهاء الحرب التي حلّت بالمنطقة. هاجم البكارة المنطقة بكل ثقلهم وعشائرهم وقسم منهم مترادفين ومعهم الحوائج والبرادع والأكياس ليضعوا فيها الأموال المنهوبة والغنائم والأرزاق.

فعلى مدار المعركة والتي استمرت لمدة سنتين كانت (سفر) هي قرية المواجهة يجتمع فيها الحلفاء ويمرون بها ذهاباً واياباً، بالإضافة إلى مضافة اسماعيل حاج درويش نصبت فيها خيمة كبيرة لتستوعب المحاربين أثناء التجمعات حيث كانوا يأكلون ويشربون، وخيولهم تعلف وتشرب المياه، خلال هجوم البكارة كان المحاربين من عشيرة آزيزان من الذين يملكون الخيول والأسلحة مجتمعين في (سفر) ينتظرون خبر المصالحة إلى أن جاءهم خبر مفاجئ بهجوم البكارة على المنطقة وبأعداد وأعتدة ضخمة من الصعب مواجهتهم ومنازلتهم، حيث استولوا على جميع قرى حلفائهم من الشرابيين والسيّاد، كما استولوا على القسم الأكبر من قرى عشيرة الحرب وعلى قرية صفا العائدة لحاج كرمو عبدو وأخوه من وهم من عشيرة كوسكا الكيكية، هؤلاء الذين أبو الخروج من قريتهم حتى استشهدوا في ساحة المواجهة وسطروا أسمائهم بأحرف من ذهب في سجل التاريخ لما أبدوه من شجاعة في الدفاع عن ممتلكاتهم وأعراضهم. استمر البكارة بزحفهم على المنطقة حتى وصلوا على مشارف قرية البسيس العائدة ملكيتها إلى معمو الملا حسن (من عشيرة الحرب)، الواقعة شمال أبو رأسين. عند سماع خبر الهجوم بدأ الآزيزان الموجودين في (سفر) بالمشاورة وتبادل وجهات النظر فيما بينهم، حيث رأى البعض منهم ضرورة انتظار قدوم أفراد عشيرة الكيكية والشمر المتواجدين في المنطقة لأن أعداد الموجودين في سفر قليلة مقارنة مع الأعداد الكبيرة لمقاتلي قبيلة البكارة التي هيأت نفسها بشكل جيد للمعركة، أما الطرف الآخر فرأى ضرورة الهجوم، قائلين إذا بقينا بانتظار الحلفاء وباقي أفراد عشيرة الكيكية فان المهاجمين البكارة بأعدادهم الكبيرة سوف يقضون على عشيرة الحرب والشرابيين وسوف يحتلون كل قراهم وينهبون أرزاقهم ويصلون إلى حدود تركيا. هنا استقر رأي الجميع على فكرة النجدة وانقاذ حلفائهم من عشيرة الحرب المنتمية إلى قبيلة الكيكان، وهنا بدأت معركة الزركان التي كانت خاتمة المعارك.

تحركت عشيرة الآزيزان من قرية (سفر) تحت قيادة أولاد حاج درويش وهم اسماعيل وسليمان وحسين وعزيز ومحمد علي وأولاد أعمامهم وعدداً من أفراد العشيرة الذين كانوا متواجدين في قرية سفر هؤلاء الذين يملكون السلاح والخيول وهم حوالي 80 خيالاً مقاتلاً، ليس أكثر. توجه الأزيزان إلى ساحة المعركة التي كانت تدور رحاها في قرى عشيرة الحرب وعند توجههم إلى ساحة المعركة التقوا في طريقهم بمحمود حاج سليمان وعيسى فنو من عشيرة رماكا وعلي شيخو كلي من عشيرة الهيسكا وهم عائدين من ساحة المعركة، حيث أخبروا المهاجمين من عشير آزيزان بأن رفاقهم خسروا المعركة وأن البكارة دخلوا قراهم، فرجع هؤلاء مع الآزيزان للمشاركة في المعركة وكان في صفوف الآزيزان الشيخ محمود الكالي من عشيرة شيخان الذي كان موجوداً حينها في قرية (سفر) والذي أخبر الآزيزان عن هجوم البكارة، وقبل التوجه إلى المعركة قال لهم ليتقدمكم شخص يملك حصاناً أبيضاً، فتقدم فرحان العيسو وهو ابن أخ حاج درويش فقال له الشيخ محمود الكالي فرسك ليس أبيض بشكل كامل فليتقدمكم محمد أحمد حاج موسى ابن أخ حاج درويش أيضاً، فكان فرسه أبيضاً وذو شهرة فائقة بين عشيرة الآزيزان وفي المنطقة عموماً، فقد كانت مشهورة بجمالها ورشاقتها وسباقاتها مع الخيول فلا ينافسها أي خيل من خيول المنطقة وخيالها مقدام شجاع لا يهاب الموت، أثناء الهجوم قال لهم اسماعيل اتركوا مسافة بين الخيول لتتوسع جبهة المواجهة لأن هذا سيخلق انطباعاً لدى البكارة بكثرة عدد المهاجمين وسيدخل الرعب إلى قلوبهم، وطلب منهم شد العنان والانطلاق  بأقصى سرعة نحو ساحة المعركة، لاستغاثة رفاقكم، وأمرهم بعدم التوقف في حال سقوط قتلى بين صفوفهم. وصل الفرسان بداية إلى قرية البسيس العائدة لمعمو ملا حسن الذي تلقاهم وعيونه مغرورقة بالدموع قائلاً بلهجته البدوية ˮآزيزان أخوة شيرا ما خلو بينا شي حتى فاتوا على بيوتنا ومدو أيديهم على أعراضناˮ. أي أن البكارة استولوا على كل شيء ودخلوا منازلهم وهتكوا أعراضهم، وتوجد قصة معروفة بهذا الخصوص لا أريد ذكر أسماء الأشخاص في هذا المقام نظراً لحساسية المسألة، حيث تحرش أحد المهاجمين البكارة بإمرأة وحاول نزع ملابسها فبدأت المرأة تلملم ثيابها وتدافع عن نفسها وتمنعه فرد عليها قائلاً بهذا اللفظ البذيء أتخجلين من زوجك؟! بدأ الآزيزان بمهاجمتهم بمعنويات عالية دفاعاً عن العرض والأرض فبدأت الاشتباكات وقتل خلال المعركة عدداً من البكارة وأجبروا على الانسحاب من المعركة ولاذوا بالفرار من القرى التي احتلوها متوجهين نحو الجنوب، وتوزعوا على أطراف نهر الزركان وإلى قعر النهر ليحموا أنفسهم من هذه الغارة، قتل منهم العشرات في النهر واختلط دمائهم مع الماء حتى تغير لون ماء النهر في بعض الأماكن وتم ملاحقتهم حتى حاصروهم في تل الورد (بالقرب من بلدة الزركان) بين المقابر، فقاموا برفع الراية البيضاء ونادوا بأعلى أصواتهم ˮالعفة العفةˮ (أي اعفوا عنا) فرد عليهم الآزيزان ˮعفيناكم عفيناكمˮ أي عليهم الأمان.

كان من بين القتلى مشعل الجربا أحد شيوخ الشمر الذي كان يقاتل إلى جانب الكيكان. ويجدر بالقول بأن البكارة وأثناء هزيمتهم وانسحابهم من ساحة المعركة باتجاه الجنوب قتلوا في طريقهم عدداً من الشرابيين في نهر الزركان وأطرافه، هؤلاء كانوا من الذين التجأوا للنهر فيما مضى وذلك بعد اندحارهم من قبل البكارة ليحموا أنفسهم من خطر الموت، حيث لم يكن باستطاعتهم المقاومة.

انتهت المعركة التي دامت سنتين قتل خلالها العشرات إن لم يكن بالمئات وهجر الناس من بيوتهم وتركوا قراهم ودمرت البيوت وتضرر المحصول الزراعي. وكانت قبيلة البكارة تتحمل السبب في بدأ الحرب، حيث كانوا يطمعون في السيطرة على المنطقة لأنهم كانوا شبه واثقين من أنفسهم بانهم سينتصرون في المعركة، وتؤكد الواقعة التالية حقيقة هذا الأمر، حيث أن البكارة وأثناء وصولهم إلى أبو رأسين قد تلقوا بشخص يدعى السيد عبد العزيز وهو من عشيرة السياد، فقال لهم هذا الشخص ˮخافوا الله نحن أهل وإسلامˮ، فرد عليه خالد الطلاع الذي كان يقود البكارة بالحرف الواحد وبلهجته البدوية ˮشيل عن وجهنا خلينا نتفرج على كون العايد (نخوة)ˮ، أي أغرب عن وجهنا ودعنا نتفرج على مهرة مقاتلي البكارة، حيث تصرف الطلاع وكأنه ذاهب إلى حفلة عرس وطريقه مفروش بالورود وبأنه سيدخل المنطقة بدون مقاومة، وبعد الانتهاء من المعركة أصبح خالد الطلاع يعض على أصابعه ندماً ويقول ˮما خلوا بينا شي دمروا العايدˮ ويقصد به عشيرة أبو معيش لأن العايد نخوتهم أثناء المحن والشدائد والحروب. بهذا الشكل المأساوي انتهت الحرب بين الطرفين وانسحبت البكارة من المنطقة وردوا من حيث أتوا، إلا أن قسم منهم أصبحوا يتوافدون إلى بيت اسماعيل حاج درويش وأخوانه يطلبون منهم العفو والسماح لهم بان يبقوا في قراهم. خبر اسماعيل آغوات ووجهاء الكيكية بذلك شارحاً لهم الوضع فقال الجميع دخيل بيت حاج درويش هو دخيلنا جميعاً، فبقوا في المنطقة معززين مكرمين تحت الحماية التامة دون ان يتعرض لهم أحد،  وتلك القرى هي دبش العائدة لحاج ابراهيم من عشيرة الراجنة وخان العائدة لبيت حسن العطية من عشيرة أبو حمدان والريحانية لبيت داموك من أبو حمدان أيضا وغيرها من القرى كتل بيدر وتل رجب والقرى الموجودة حول تل بيدر وبيت الطلاع التي كانت سابقاً لبيت حاج درويش علماً بأن خالد الطلاع لم يكن مسدداً حتى نصف القيمة وغيرها من القرى بشرط أن يرحل الباقون جنوب الخابور. حصل البكارة بعد انتهاء المعارك والصلح على تعويضات عن أرضهم وقدر ثمنها عن طريق الهجانة (التابعين لفرنسا) وبعض الوجهاء وبقي كثير من القرى المنتشرة في المنطقة بيد أصحابها سكنوا فيها بأمان واستقرار. وفي عهد الوحدة السورية-المصرية حصل البكارة على تعويض للمرة الثانية بحجة أن التعويض الاول كان قليلاً، حيث كان مصطفى حمدون حينذاك وزيراً للإصلاح الزراعي، وله مقولة مشهورة يتذكرها المعمّرون عندما زار الجزيرة لتوزيع الاراضي: الكردي ما ألو شي عندي.

من خلال سرد أحداث المعارك يبدو واضحاً بأن الاصطفافات والتحالفات التي كانت تجري في المنطقة لم تكن على أسس طائفية أو عنصرية قومية فالجميع كانوا يعيشون متآخين متضامنين لا يفرقون بين بعضهم البعض على تلك الأسس وكانوا يدخلون في تحالفات على أساس المصالح المشتركة.

======================

[1] مكان وتاريخ الولادة: تل بيدر (درباسية/محافظة الحسكة) 1942

قبل الكتابة عن الحدث أود الإشارة إلى إن المعلومات الواردة في المقال مستقاة في معظمها من أحاديث الوالد الذي توفي سنة 1997 عن عمر يناهز 95 سنة وكان له دور بارز في المعارك التي دارت بين القبيلتين، فضلاً عن أقوال بعض المسنين الآخرين.

[2] سمي نهر الزركان (zirikan) بهذا الأسم نسبة إلى عشيرة زركان الكردية وكان أميرهم يسكن في كري مير (girê mîr) الواقع شمال بلدة أبو رأسين.

[3] توجد على على ظهر هضبة كبز قبرين أحدهما يعود لشخص اسمه عزيز الخال والقبر الآخر يعود لشخص يسمى سيداي قسيري، وكان يوجد اعتقاد سائد بأن المنتوج الزراعي كان يجمع وينقل من فوق ظهر هضبة كبز إلى بغداد والموصل على ظهر طيور يطيرون على نسق واحد بإرادة إلهية، وحتى الآن أصبح هذا مثلاً يقال حاصل جو موصل، اي وصل حاصل الأمير إلى الموصل بالنسبة للذي يتأخر في عمله، أي أن المنتوج كان ينقل بإرادة عزيز الخال والقسيري.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى