سأشرح قليلًا قبل طرح الفكرة من المنشور:
«المبادئ فوق الدستورية» هي ببساطة تلك المواد أو القواعد الدستورية التي تُعطى حصانة خاصة ضد التعديل أو التغيير في المستقبل، بحيث يصعب أو يستحيل على البرلمانات القادمة تعديلها أو إلغاءها أو استبدالها مهما كانت نسبة الأغلبية البرلمانية.
فإذا كان تعديل الدستور يتطلب أغلبية ثلثي أعضاء البرلمان، فإن تعديل تلك القواعد المحصَّنة قد يتطلب 80% على سبيل المثال، أو قد يكون غير ممكن على الإطلاق.
من يملك الحق بتحديد وتحصين تلك القواعد؟
يملك ذلك الحق الجمعيات التأسيسية الأصلية، التي تضع دساتير جديدة (أول مرة) لنظام حكم جديد دون الاستناد إلى قواعد دستورية تحدد طريقة تعديل الدستور. فعندما يسقط نظام حكم بفعل ثورة أو حرب أو انقلاب أو احتلال… أو عندما تتأسس دولة جديدة (دولة فيدرالية مثلًا) فإن دستور النظام القديم يسقط بسقوط النظام، وتصبح قواعده لاغية، ويصبح من حق الجمعية التأسيسية الأصلية أن تضع القواعد الدستورية التي تراها مناسبة، وقيدها الوحيد هو ما تفرضه إرادة مؤسسي النظام الجديد.
ما الغاية والفائدة من وجود هذه القواعد المحصّنة؟
الغاية الرئيسة لهذه القواعد هي طمأنة جميع الأفراد والمكونات إلى أن حقوقهم وحرياتهم ستكون مصانة مهما تغيرت السلطات والأغلبيات البرلمانية… فلا يحق لأغلبية برلمانية ساحقة (95% مثلًا) أن تصادر حقًا من حقوق أي فرد أو جماعة من خارج الأغلبية… والأغلبية والأقلية هنا بالمعنى المطلق للكلمة.
وفائدة هذا أن الأفراد والجماعات، وبموجب هذه الضمانات العليا التي ستُعالج مخاوفها، ستكون مطمئنة للمستقبل، وستضع يدها بيد الآخرين للانطلاق في بناء الوطن.
إذن وُجدت المبادئ فوق الدستورية لإعطاء الضمانات الكافية لأبناء البلد الواحد الذين أنهكتهم الصراعات ومزقت اجتماعهم الوطني ودمرت الثقة فيما بينهم. لذلك نراها موجودة في دساتير تلك الدول كرواندا وجنوب أفريقيا والبرتغال وإسبانيا وعشرات الدول الأخرى.
بعد هذه الشرح المبسط، والذي أرجو أن لا يكون مخلًا، أنتقل إلى الحالة السورية:
فسورية بلد مزقها الصراع العنيف والطويل، بعد أن سمم نظام الأسد العلاقات بين مكوناتها ودمر مناعتها على مدى أكثر من نصف قرن… فأصبحت لدى الجميع هواجسهم ومخاوفهم ومظلومياتهم، وتضررت الثقة فيما بينهم إيما ضرر، ولم يعد ثمة ما يطفئ هواجسهم ومخاوفهم ويعيد لهم شيئا من الطمأنينة تجاه الآخرين وتجاه المستقبل، إلا ضمانات عليا بمستوى مبادئ فوق دستورية.
سيقول البعض أن لا شيء فوق الدستور الذي يمثل إرادة الشعب والأمة، وأقول سلفًا أن لا شيء فوق الدستور، والمبادئ فوق الدستورية هي مصطلح دولي لتلك القواعد التي يتم تحصينها من قبل الجمعية التأسيسية الممثلة للشعب والأمة، والدستور بكل قواعده، بما فيها فوق الدستورية، سيتم طرحه للاستفتاء لإجازته من قبل الشعب.
وسيقول البعض أنها بدعة لحرمان الأغلبية من حقها الطبيعي في الحكم، وأقول أنها ضمانة لحقوق الأقليات والأغلبيات وكل مواطن في البلد… فهي ستضمن الحريات والحقوق، وهذا مصلحة الجميع، وهي ستحمي البلاد من الوقوع في براثن استبداد جديد، وهذا مصلحة الجميع، وستبقى للأغلبية حقوقها الديمقراطية بالكامل، لكن فقط دون المساس بحقوق الآخرين… وهذا عادل وديمقراطي.
أختم بالقول إن المبادئ فوق الدستورية مصلحة خالصة لجميع السوريين، ومخرج مهم وأساسي وآمن لهم، ورفع الصوت بالمطالبة بها، وفتح النقاشات المسؤولة حولها، بدون مواقف مسبقة، سيجعلها حاضرة على طاولة تلك الجمعية التي ستُكلف بمهام كتابة الدستور الجديد للبلاد.
———
* صفحته على الفيس بوك، 3/2/2025م.
————
* جريدة “الوحـدة” – العدد /347/ – 1 آذار 2025م – الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).